ابن باديس مؤلف الرجال التأليف بين أبناء يعرب وأبنـاء أمازيغ
بقلم: د. عاشور توامة-
سعى الفكر الاستعماري للطعن في الشّخصيّة الجزّائريّة بشتّى الوسائل لعّل أبرزها محاولة التفرقة بين العرب والأمازيغ، ومحاولة التشكيك في الماضي من أجل تفنيد ودحض دعوة تقرير المصير المشترك بين أبناء الشعب الجزائري، وهذا ما دفع الشّيخ عبد الحميد ابن باديس لكتابة مقال عمد أن يوقعه باسم عبد الحميد بن باديس الصّنهاجي بعنــوان: ”ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان ”.
في الواقع كان خلاصة لخطبة ألقاها في مأدبة إثر كلمة ألقاها الشّيخ يحي حمودي بالقبائلية، وقد جاء في المقال قوله: «إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشّدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم في أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزّائريّا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون، بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعادة كلمة الله، وما أسالوا من محابر في مجالس الدرس لخدمة العلم، فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم».
وفي مقال آخر بعنوان: ”كيف أصبحت الجزائر عربية ؟” نجده يعقد مقارنة بين تأليف الشّعب الجزّائري وتكوين الشّعب الفرنسي، ويؤكد أنّ اختلاط الدّماء في فرنسا وفي الأمم الأوربية قائم ولم يمنع ذلك فرنسا: «إن تكوّن أمّة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم، على أنّك تجد في قرى من دواخل فرنسا أمّة واحدة وأعلى جبالها من لا يحسن اللّغة الفرنسية، ولم يمنع ذلك القليل – نظرا للأكثرية – من أن تكون فرنسا أمّة واحدة، وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا يتعامى الغلاة المتعصبون عنها، ويحاولون بوجود اللّغة المازيغية في بعض الجهات وجودا محليا، وجهل عدد قليل منهم جدا بالعربية –في رؤوس الجبال– أن يشككوا في الوحدة العربية للأمّة الجزّائريّة، التي كونتها القرون وشيّدتها الأجيال».
ثمّ يختم مقاله بسؤال من هو العربي؟ ليسوق حديثا شريفا عندما نفى أحد المنافقين صفة العربية عن بعض الصّحابة الكرام، وهم سلمان الفارسي وصهيب الرّومي وبلال الحبشي، في قوله صلّ الله عليه وسلّم: « وليست العربيّة بأحد من أب ولا أم، وإنّما اللّسان فمن تكلّم بالعربيّة فهو عربي».
ولعل من أخلد الأقوال وأبرزها التي أوثرت عن الشّيخ عبد الحميد بن باديس، والتي تصلح أن تكون معلم طريق وهداية في مجال التربية والتعليم وإعداد النشء، قوله: «إنني مشغول بتأليف الرجال عن تأليف الكتب»، حينما سئل عن سبب عدم تأليفه كتبا تحفظ علمه وتيسر ذكره ونحفظ اسمه.
ولقد أشار باعزيز بن عمر في كتابه الموسوم: ”من ذكرياتي عن الإمامين الرئيسين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي” – إلى المناسبة التي قال فيها الإمام ابن باديس تلك الكلمة العميقة الأثر- فقال: «ناداني مرة –أنا وبعض الرفاق– إلى مكتبته العامرة، ليأخذ رأيا فيما يريد إدخاله من مواد جديدة على برنامج السنة الدراسية المقبلة فأبدينا رأيا في الموضوع بكامل الحرية والديمقراطية كما كان يريد منا، ثم اغتنم أحدنا فرصة هذا الاجتماع، فقال: وددنا يا سيدي لو خصصت بعض الوقت لتأليف الكتب التي ربما احتاج إليها جيل الغد كثيرا، فحدّق استأذنا في وجهه قليلا ثم أجابه: إنّ الشّعب يابني ليس اليوم في حاجة إلى تأليف الكتب بقدر ما هو بحاجة إلى تأليف الرجال، هب أنني انصرفت إلى التأليف وانقطعت عما أنا اليوم بصدده من نشر العلم وإعداد نشء الأمة من أمثالكم لمواصلة عملي، فمن يقرأ كتبي وتأليفي ما دام الشّعب يتخبط في ظلمات الجهل والأمية، إن إعداد معلّم واحد كفء يتصدى لمحاربة الجهل الفاشي في ربوعنا لخيرٌ لمجتمعنا من ألف كتاب …».
إن ما دفع عبد الحميد بن باديس إلى مثل هذا القول هي تلك الحقيقة الماثلة للأجيال، التي أكدها منذ عام 1914م كمؤلف للرجال، وهو لم يقر بهذا مَنًا به على النّاس أو استكثارا منه لعمله، وإنما هو وصف حقيقي لمنهجه وأسلوبه في محاربة الجهل والأمية التي خلّفها الاحتلال الفرنسي في الجزائر، فهو لا يبتغي من وراء ذلك شهرة ولا غرورا، ولا يرجو من البشر جزاء ولا شكورا.
وإنما ما قام به كان بدافع الإيمان بهموم الوطن وقضاياه الكبرى، وواجب المسؤولية نحو دينه وقومه، بعدما استيقن ممّا يحاك لهذا الدين والوطن من مؤامرات ودسائس، وطمس مقومات الشّخصية الجزّائريّة، ومما يُكاد لهذا الشّعب من مسخ لهويته وسلخ عن أصله، وما يدبر لهذا الوطن من إدماج في غير جنسه.