أبو جعفر أحمد بن ناصر الداودي الأسدي (ت402هـ)
د. بعلي زوبير –
هو أبو جعفر أحمد بن ناصر الداودي الأسدي المسيلي الطرابلسي أصله من مدينة المسيلة ومن مواليدها، من أئمة المالكية بالمغرب.وقد تكون نسبته”الداودي”نسبة إلى “الدواودة” الذين ملكوا المسيلة وهم فرع من قبيلة رياح من بني هلال بن عامر.
وقد يقع البعض في الخلط بينه وبين أحمد بن نصر الهواري أبو جعفر (ت319 هـ)، وذلك للتشابه الكبير بينهما، إذ أنّ كنيتهما هي أبو جعفر ولهما نفس اسم الأب أحمد بن نصر، إلاّ أنّهما يختلفان في اسم الجد، إذ أنّ جد مترجمنا اسمه سعيد، وجد الثاني اسمه زياد، وقد نبه إلى هذا التشابه الإمام برهان الدين ابن فرحون في الديباج.
قيل إنّه لم يتفقه في أكثر علمه على إمام مشهور بل وصل بإدراكه. ويظهر ذلك جليا من خلال قصة أوردها القاضي عياض ومفادها: “وبلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك. فأجابوه: أسكت لا شيخ لك، لأنه درس وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنّما وصل إلى ما وصل بإدراكه”.
إلاّ أنّ ذلك ربما مبني على الغالب فقط فقد ذكرت المصادر أنّه روى عن الأصيلي، وأبي المطرف بن فطيس، والقابسي، وأبو بكر بن محمد بن أبي زيد.
تلامذته ومؤلفاته واستجازة العلماء له ونقلهم عن مؤلفاته
أخذ عنه أبو عبد الملك البوني سكن معه مدة من خمسة أعوام،كما ذكر صاحب الصلة أنّ أحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي(ت400هـ) من أهل طليطلة سمع بالمسيلة عن أبي جعفر الداودي،كما ذكر آخرين من علماء الأندلس ممن أخذوا عنه وسمعوا منه كأحمد بن محمد بن اسماعيل بن سعيد القيسي المعروف بالسبتي وأصله من اشبيلية(ت429هـ) وقد سعى العلماء إلى لقائه والأخذ عنه مما يدل على علوّ كعبه وعدالته،ولعلّ من بينهم أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي (ت 469 هـ) الذي سعى إلى لقائه قائلا: “وكان أبو جعفر الداودي حين دخلت إلى المشرق حياً بتلمسان فلم يمكني لقاؤه؛ لتغرب الطريق من الجهة التي خرجت إليها من البحر” .
أمّا عن مؤلفات الإمام الداودي فقد قال عنه القاضي عياض: “من أئمة المالكية بالمغرب، والمتسعين في العلم المجيدين للتأليف”،ومن مؤلفاته:كتاب النامي وهو شرح لموطأ الإمام مالك، وكتاب الواعي في الفقه، وكتاب الإيضاح في الرد على القدرية، وكذا كتاب النّصيحة في شرح البخاري، وكتاب الأصول،وكتاب في تفسير القرآن الكريم،وكتاب الأموال.
وكتاباه شرح الموطأ وشرح البخاري كلاهما أخذهما ابن حجر العسقلاني عن شيوخه، وذكر ذلك في معجمه قائلا: “أنبأنا بهما أبو علي الفاضلي عن أحمد بن أبي طالب عن جعفر بن علي عن محمد بن عبد الرحمن الحضرمي عن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب عن يوسف بن عبد الله النمري عنه إجازة ومات سنة اثنتين وأربعمائة”.
كما استجازه العلامة المالكي ابن عبد البر حيث قال: “كتب إلي أحمد بن نصر الداودي بإجازة ما رواه وألفه”.
وقد نقل عنه ابن حجر الكثير من أقواله في كتابه فتح الباري إما مباشرة أو عن طريق”ابن التين” من ذلك عند شرحه لحديث عبد الله بن هشام: “كنا مع النبي-صلى الله عليه وسلم – وهو أخذ بيد عمر بن الخطاب،فقال له عمر: لأنت أحب إلي من كلّ شيء إلاّ نفسي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر: “فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر”.قال الداودي شارحا:”وقوف عمر أول مرة واستثناؤه نفسه إنما اتفق حتى لا يبلغ ذلك منه فيحلف بالله كاذبا، فلما قال له ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه فحلف.”
كما نقل عنه الفقيه المالكي العلامة أبو بكر بن العربي من ذلك شرحه لقوله -صلى الله عليه وسلم -: “إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان” فذهب الداودي إلى أن له قرنين على الحقيقة تطلع مع الشمس،لأنه قد روي أنها تطلع مع قرني شيطان”.
ونقل عنه القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم، فمن حديث أبي أيوب قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: “الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد الله، موالي دون الناس، والله ورسوله مولاهم.”، قال الداودي شارحا: “معنى قوله:”هم موالي، لا مولى لهم إلا الله ورسوله “أي لا ولاء على من سبى منهم،خصهم بذلك كما قال في قريش: الطلقاء، وقال لغيرهم: العتقاء، لما لم يجر عليهم لا ملك ولا عتق.” وقد ذكر القاضي عياض أنّ عبد الملك البوني حدثه بشرح الداودي على الموطأ.
ونقل العلماء الكثير من فتاواه كالذي نقله عنه الإمام العقباني التلمساني في كتابه: “تحفة الناظر وغنية الذاكر في حفظ الشعائر وتغيير المناكر” ومما نقله فتوى له من كتابه ”الأموال” عن الأرض التي جلي عنها أهلها بغير قتال.
وأورد الونشريسي له فتاوى في المعيار من ذلك فتواه في باب: “إذا لم يكن بالبلد قاض زوّجَ صالحوا البلد من أراد التزويج.
وممن نقل فتاواه أيضا الإمام الشاطبي في موافقاته من ذلك ما نقله عن كتابه الأموال فتوى غاية في الشجاعة والصدع بالحق قوله: “وقد سئل الداودي هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟قال نعم ولا يحل له إلا ذلك،قبل له:فإن وضعه السلطان على أهل بلدة وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم،هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر البلد بتمام ما جعل عليه؟، قال:له ذلك،قال: ويدل على ذلك قول مالك رضى الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب: إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه، لا يرجع على من أخذت منه على أصحابه بشيء، قال: ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون، لأن الظلم لا أسوة فيه،ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره،والله تعالى يقول: “إنّما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق” [الشورى:42] .
كما نقل عنه المازري عنه في فتاواه عندما سئل عن المرأة الحامل بعد ستة أشهر هل أفعالها أفعال المريض أو الصحيح حتى يظهر بها الطلق فأجاب: “… وقد حكى الداودي الإجماع على أنها حال الطلق خارج عن حكم الأصحاء.” وفي مسألة: “هل يجوز عتق مستغرق الذمة أو لا؟ إذا تاب العبد المعتق هل تصح توبته أو يلزمه أمر آخر؟ جوابها عن الداودي: عتقه مردود، ووصاياه غير جائزة، ولا تورث أموالهم، ويسلك بها سبيل ما أفاء الله، ويتصدق العبد بقيمته على الفقراء والمساكين، ويجتهد في ذلك ويتحرى قيمة نفسه وتصح توبته”.
إنّ عالما نشأ عصاميا نقل عنه علماء أفذاذ أمثال: ابن سهل، وأبو بكر بن العربي،والمازري، والإمام الشاطبي، والقاضي عياض، وابن حجر العسقلاني، والعقباني التلمساني، وأبي عمران الفاسي جدير بأن يدرس كظاهرة علمية فريدة من نوعها وذلك من خلال دراسة كتبه وفتاواه.هذه الفتاوى المتناثرة في بطون الكتب أدعو الله أن يقيض من العلماء من يجمعها تحت عنوان باسم فتاوى الإمام الداودي عسى أن نجد فيها الكثير من الحلول لمعضلات فقهية لا تزال قائمة.
وفاته
توفي العلامة الداودي المسيلي سنة 402 هجرية بتلمسان ودفن بباب العقبة.
*د.بعلي زوبير: دكتور في التاريخ الاسلامي.