أحمد بوشمال المناضل المجاهد المثقف الشهيد
بقلم: محمد الطيب-
عالم الدراسات الإسلامية، الإمام المصلح، الكاتب المناضل المُلهم، ولد بقسنطينة في 25 جانفي 1899، في وسط أسرة متواضعة، فوالده إسماعيل كان صانعا للأحذية التقليدية، ينحدر من عرش بني عمران من الطاهير بجيجل، بينما تنحدر والدته من عرش أولاد عطية من القل بسكيكدة.
تعلم مبادئ القراءة والكتابة بكُتّاب "سيدي ياسين" في حي سيدي جليس، وواصل تعليمه التقليدي به إلى أن ختم القرآن الكريم، وما لبث طريقه أن تقاطع مع طريق الشيخ بن باديس العائد من جامع الزيتونة والذي بدأ في غضون الحرب العالمية الأولى، وبعدها يتلمس نهجه في الإصلاح التربوي والديني، ويبحث عن مريدين وتلاميذ لمساعدته في حمل الأمانة الثقيلة، كان ذلك في كُتّاب صالح الجنّان والد صديقه ورفيقه في الحركة الإصلاحية عبد الحفيظ الجنان، حيث شرع ابن باديس في التدريس، قبل أن يستقر به المقام بالجامع الأخضر الشهير، ثم كانت الانطلاقة الواعدة له بشراء ما أصبح يُعرف "بالمطبعة الإسلامية الجزائرية" في ربيع 1925، وهي الخطوة الأولى التي تلتها مباشرة خطوة إصدار صحيفة "المُنتقد" التي أصبح مدير نشرها، أسوة بـ "الشهاب" التي خلفتها بعد فترة قصيرة، كما أصدر رفقة الأستاذ محمد العابد الجلالي جريدة أدبية أسبوعية أسمياها "أبو العجائب".
وعندما أسس ابن باديس جمعية التربية والتعليم التي فتحت مدرسة بنفس الاسم، كان إلى جانبه في كل ما يتعلق بالإجراءات الإدارية، حينها امتدت المتاعب في الحرب العالمية الثانية إلى "المطبعة" التي يديرها فكسدت معاملاتها، لكنه عز عليه أن يُسرح عمالها، بعد أن وجدوا أنفسهم في بطالة تقنية وتزايدت تكاليفهم وأعبائهم، وللخروج من هذا المأزق استشار بعض رفاقه، الذين أشاروا عليه بإعادة طبع صحيفة "الشهاب" حسب تبويبها، مع تخصيص كتاب لكل باب منها، على أن يُقرن ذلك بإحياء ذكرى صاحبها الشيخ ابن باديس، وقد تم إصدار عدد من الكتب تحت عنوان: "تفسير ابن باديس"، وذلك بمساعدة عدد من أساتذة الجمعية.
وفي صائفة 1946 عقدت جمعية العلماء اجتماعا عاما، جددت فيه هياكلها، فانتخب عضوا في مجلسها التنفيذي، ثم أمينا للمالية مساعدا للشيخ محمد خير الدين، فأصبح المسير الفعلي لماليتها، والمكلف بتنظيم اجتماعاتها الدورية، وما لبث أن كسب ثقة الرئيس الثاني لجمعية العلماء الذي كان يصطحبه في تنقلاته عبر الوطن، فضلا عن تفويضه مهمة الاتصال بمختلف الجمعيات المحلية وشعب الجمعية، وعندما قررت رئاسة جمعية العلماء إعادة التعليم الثانوي إلى قسنطينة ـ بعد أن نُقل مؤقتا إلى تبسة إثر وفاة ابن باديس ومضايقات ظروف الحرب ـ عُين في لجنة إنجاز مشروع "معهد ابن باديس" الذي فتح أبوابه في ديسمبر 1947، كما كُلف لاحقا في إطار استكماله بإنجاز دار للطلبة والتي جهزت للاستقبال خلال 1953.
وغداة إعلان ثورة فاتح نوفمبر 1954 قام بوضع مطبعة الجمعية في خدمة الجبهة، لنشر نداءاتها وإعداد بعض وثائقها الإدارية، على غرار بطاقات جنود جيش التحرير الوطني، وكانت الجبهة بدورها ـ بواسطة الولايات الثانية ـ ولا تبخل بالمساعدة، كدعمها لمعهد ابن باديس، حينها وجد نفسه في دوامة ثورة التحرير، مستقطبا كرفاقه شُبهات الأمن الاستعماري، لا سيما بعد "انكشاف أمر الخلية الرئيسية بالمعهد، والتحاق معظم عناصرها بتونس، خاصة وقد أصبح في احتكاك مباشر برجال الأمن الذين كانوا كثيرا ما يطرقون باب مكتبه للسؤال عن هذا الأستاذ أو ذاك، وأثناء إضراب الأيام الثمانية مطلع 1957 فضل أن يُرابط بدار الطلبة لتطمين سكانها الذين وجدوا فيه نِعم السند المعنوي، وحضر عقب ذلك اجتماعا طارئا سريا بالعاصمة، للبقية الباقية من مسؤولي جمعية العلماء، بعد اختطاف الشيخ العربي التبسي نائب رئيس الجمعية مساء 4 أفريل من نفس السنة، وقد توج الاجتماع ببيان يحمل السلطات الفرنسية مسؤولية اختطافه، حينها قررت سلطات الاحتلال بقسنطينة مصيره حيث كان في مهمة بتكليف من قيادة الولاية الثانية، وعندما أطلعهم أسير عنه، وما لبث أن ألحق به في 17 أوت 1957 بمركز العبور في حامة بوزيان، وبعد أيام أفرج عنه، لكن تحت عيون المراقبة وفي ربيع 1958 اعتقل من جديد وعذب عذابا شديدا، دون الحصول منه على ما يمكن أن يُدان به، وقد غادر المعتقل بعد فترة، بعدها تم اختطافه مساء 13 سبتمبر 1958 من بيته ليلا، ولم يظهر له أثر بعد ذلك، وقد علم أقاربه لاحقا أنه اقتيد مباشرة إلى مزرعة أمزيان (حي الشهداء حاليا)، وفي هذا الوكر اختفى إثر ذلك إلى الأبد، ولتضليل عائلته لم تتحرج إدارتهم بترويج إشاعات حول نقله إلى معتقلات أخرى، وفي 17 أكتوبر الموالي تحسست زوجته الخطر، فراسلت العقيد "أَشْت" مدير مركز الحامة للعبور تسأل عنه، فأحالها على العقيد "جاني" قائد قطاع قسنطينة الذي رد عليها زاعما أن المعني أفرج عنه في 2 أكتوبر، وذلك لعدم ثبوت ما يدينه، وفي 30 أوت 1960 راسلت من جديد عامل قسنطينة، وقد ذكّرته بما حدث لزوجها المختفي منذ اعتقاله، وكان جوابه أنه أفرج عنه بعد دراسة حالته في 20 أكتوبر 1958، وهكذا أصبح يوم الإفراج المزعوم تاريخا لاستشهاده، وعمره يناهز 58 سنة، مؤلم، يرحمه الله، الخزي والعار للإستعمار الفرنسي المجرم، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.