الإمام الشهيد
بقلم: مفتي الطيب- ترجمة: طارق بشين-
استقبل مسجد حيِّنا "ببلكور" إماما جديدا قدم من بعيد، هو الشيخ العربي التبسي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
تلك مرحلة من الثورة الجزائرية سبق لي أن تناولتها في الملحق الثقافي بجريدة المجاهد في السنوات الستين. كنا مجموعة من أبناء الحي نبيع عند مخرج المسجد جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وخلال الزلزال المهول الذي أصاب الأصنام سنة 1954 وقد وصل حتى الجزائر العاصمة، حدثت هبة تضامنية من كل القطر الجزائري وبمبادرة من قيمي المسجد صار كل همنا أنا وأصدقائي وفتيان الكشافة الإسلامية بقيادة رئيسهم آدم أحمد التنقل من بيت إلى بيت نجمع الأغطية والملاحف والألبسة، حتى المواد الغذائية لنرسلها إلى المناطق المنكوبة.
وفي هذا السياق قام حمود يوسف ابن صاحب مصنع المشروبات الغازية بشحن شاحنة صغيرة له بكثير من المواد يكون الضحايا في حاجة إليها، وقد سبق له أن شارك ماليا في بناء مسجدنا. كان لهذا المسجد حمام بالطابق السفلي ومدرسة كبيرة بالطابق الثاني وكان حينها يعلم بها المشايخ أحمد من بسكرة، الهاشمي وشاعرنا الوطني محمد العيد آل خليفة.
كانت خطب الشيخ العربي التبسي هذا العلامة خريج الجامع الأزهر بالقاهرة محل إعجاب المصلين، كانوا ينصتون إليه بشغف وتقدير، وهو يكلمهم عن الإسلام السمح التضامني.
كان هذا الشيخ متوسط القامة، أبيض البشرة، دب إلى شعره الشيب، وكان دوما مرتديا عباءة طويلة من الصوف وعمامة بيضاء كتلك التي يرتديها علماء الأزهر.
وفي يوم من الأيام عند خروجنا من صلاة الجمعة فاجأتنا دورية عسكرية أتت من ثكنة قريبة تحيط بالمسجد فبادر أحد جنودها بتوقيف الشيخ الإمام قائلا:" تعالى هنا يا شيخ قدم أوراقك" لم يفهم شيخنا أوامر العسكري وبقي متوكئا على عصاه فازداد العسكري غضبا ثم صاح:" لا تريد الانصياع إذن اجتم على ركبتيك حالا" ثم ضرب له عصاه بقدمه فطارت على أمتار عديدة من الشيخ فصار يرتعش بسبب فقدان العصى لكنه بقي ثابتا بكل شجاعة، فتقدم منه اثنان من المصلين ليساندوه فنالوا حظهم من الضرب من قبل العسكر، إلا أن ذلك العسكري رجع خطوات إلى الخلف، وعندما لاحظ قائد الدورية بأن الشيخ لا يزال ثابتا، أمر عساكره بأن يردوا للشيخ عصاه ثم قال: "هيا بنا لنرجع لقد انتهى المشهد" فعادت الدورية إلى الثكنة تجر أذيال الخيبة، أما جموع المصلين فقد اندهشت أمام هذا المشهد المحير ثم انصرفت بصمت، حينها عاد إمامنا بمساعدة مصليين اثنين إلى منزله المجاور للمسجد.
وككل صباح أقدم علينا ذات يوم هذا الإمام حوالي 08.30 ليطالع معنا الصحف العاصمية، وكنا أنا وصديقي صبحي نجلس على دروج مدخل المسجد ثم يشرع بلقاسم في قراءة "جريدة الجزائر العاصمة" و"صدى الجزائر" و"سريع الجزائر".
فكان الشيخ يستمع وهو ينظر إلى البعيد نظرة ملؤها الحيرة والريبة مكتفيا بهز رأسه من حين إلى حين وعندما لاحظ انتهاء المطالعة قال لنا:" شكرا.. إلى الغد إن شاء الله".
يا لها من سعادة تغمر الإنسان عندما يكون جالسا إلى جنب هذه الشخصية العملاقة يحدثك بلطف، وزيادة على ذلك، كان رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، علاّمة إسلام الوسطية والسلم والمسامحة ويحترق بالروح الوطنية الجزائرية.
كنا –ككل سهرة- أنا وأصدقائي نلتقي في مخبئنا تحت الدروج قبالة الطابق السفلي لقاعة الصلاة وكنا نقضي جزء من الليل نتكلم ونتهامس وبكل اعتزاز عن انتصار مجاهدينا في الجبال وكان صبحي بلقاسم مثقف الفريق مولعا بالصحافة الأجنبية يقدم لنا تعليقاته عن الوضعية السياسية العسكرية مستبشرا بنصر محقق لا محالة.
وذات يوم حوالي الساعة الثانية صباحا سمعنا أقداما خافتة فالتزمنا الصمت فهم أشخاص يبدو عليهم لا يريدون ألاّ يراهم ولا يسمعهم أحد، ولو كانوا عساكر لكان حسهم أعلى، ثم سمعنا الخطى تصعد الدروج المؤدية مباشرة إلى منزل الشيخ: عندها اعترانا خوف رهيب وصرنا ننتظر بقلق طلوع النهار لكي نخرج من هذا الجو المرعب ونلتحق بشيخنا.
اليوم وقد تعدت التاسعة والنصف (09.30) لم يأت الشيخ كعادته، فاعترتنا حيرة كبيرة، وما هي إلا ساعات حتى انتشر الخبر الرهيب كالنار في الهشيم مفاده أن الشيخ اختطفه أشخاص مسلحون يرتدون لباسا مدنيا فقال لنا بلقاسم: "هذه ما تكون إلا اليد الحمراء أصل التنظيم المسلح السري (O.A.S) غلاة "الجزائر فرنسية" وهو تنظيم معروف باختطاف واغتيال كثيرا من المناضلين" فهل كان مصير الشيخ نفس المصير؟
وداعا أيها الشيخ الفاضل لقد غرست فينا إلى الأزل وطنيتك وإيمانك القوي ووقارك.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
المصدر: جريدة "الوطن" الصادرة يوم الاثنين 29-10-2018