الشهيد أحمد بوشمال : كاتمُ سر الشّيخ عبد الحميد بن باديس

بقلم: محمد بسكر- من الشخصيات الثقافية المرموقة، الموثوق بها، والمؤثّرة في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الأستاذ أحمد بن إسماعيل بوشمال، الذي ارتبط اسمه ارتباطا وثيقا بالشيخ عبد الحميد بن باديس، فتأثّر بمنازعه ومواقفه، حتى غدا ظله الذي لا يفارقه على الدوام، فكان عنوان الوفاء، وعضد الإمام المفسر وصفيه، وكاتبه المؤتمن على أسراره، كما وصفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.

ولد أحمد بوشمال سنة 1899م في مدينة قسنطينة، بها نشأ نشأةَ الصبا والحداثة والشباب، فحفظ القرآن الكريم في جامع سيّدي ياسمين، بين سيّدي جليس ورحبة الصوف، وتعلّم الفرنسية بالمدارس الرّسمية، وعندما بدأ الشيخ عبد الحميد بن باديس دروسه العلمية العامرة التحق بها، فكان من تلامذته الأولين، ارتمى في أحضان الحركة الإصلاحية منذ ظهور بوادرها، وارتقى على مهل في جمعية العلماء بعد تأسيسها، حتى صار من أصلب رجالها. امتهن أحمد بوشمال حرفة صناعة الأحذية التي ورثها عن والده، وباشر تجارتها في محلّة بمدينة قسنطينة، كانت وسيلته الأولى لتوفير معاش أسرته ومواجهة مصاعب الحياة. ولمّا فكر ابن باديس في إنشاء جريدة خاصة به ينشر في صفحاتها رؤيته الإصلاحية، كان لابد من إيجاد مطبعة لها تضمن صدورها واستمراريتها، فتبرع أحمد بوشمال بمحلّه التجاري الكائن بحي الأربعين شريفا، ليتحوّل إلى مقر للمطبعة الإسلامية الجزائرية، ولتحقيق هذه الغاية تكوّنت لجنة مكلفة بإدارة المشروع، كان هو أحد أعضائها، إضافة إلى عبد الحفيظ الجنان، وخليل الزاوي، وإسماعيل صحراوي. كانت قسنطينة فترة عشرينات القرن الماضي تعجّ بالنّوادي الثقافية، التي اتّخذتها النّخب العلمية والسياسية والثقافية، وسيلة لإقامة المحاضرات، ونشر الوعي، وتحرير العقول والنفوس، فهي تمثل نقطةَ تجمع للمثقفين باختلاف مشاربهم، وقد ساهم أحمد بوشمال في تكوين بعضها، فانتمى إلى جمعية (الرابطة الأدبية)، التي ترأسها الأستاذ محمّد النجار الحركاتي، وعقدت اجتماعها التأسيسي بتاريخ 27 ماي 1928م، فحضرته وجوه علمية وأدبية، إضافة إلى أعيان البلدة، كالأديب عبد الكريم بن علي خوجة، والكاتب عبد الحفيظ الجنان، والأديب محمّد زغياش، والسّيد الونيسي أحمد الطاهر..وغيرهم، كما نشط ضمن جمعية (الشباب الفني)، وهي جمعية مهتمة بالفن كالمسرح والموسيقى، ضمّت مجموعة من الشباب القسنطيني تعمل لصالح المجتمع بما تقدمه من روايات ومسرحيات مفيدة. كان يترأسها الأستاذ محمد الشريف بن الحاج السعيد، بمساعدة قرداشي محمد، وابن جيكو محمد الصالح، والصحفي أحمد بوشمال، ومدير الفرع التمثيلي جاقر محمد، ومدير الفرع الموسيقي عموشي إبراهيم. الجرائد التي أنشاها الشيخ عبد الحميد بن باديس في الفترة الممتدة من سنة (1934/1925)، كان ظلّه فيها هو السيد أحمد بوشمال، فعندما أسّس جريدة المنتقد الأسبوعية في الثاني من جويلية 1925م، أسند إدارتها للسّيد بوشمال أحمد، واختار لها هذا العنوان ردا على المقولة التي درج البعض على إشاعتها بين الناس (اعتقد ولا تنتقد)، وقد شهّرت جريدة النجاح بصدور عددها الأول، بتاريخ 10/07/1925م، فقالت: «وافانا العدد الأوّل من جريدة المنتقد التي برزت تحت إدارة الفاضل السّيد أحمد بوشمال، وقد طالعناها فوجدنا فيها فصولا رائقة، فنرحب بهاته الرصيفة وندعو لها بالرّواج والانتشار». ثم عيّنه مديرا لجريدة الشهاب وصاحب امتيازها، والتي ظهرت على أنقاض جريدة المنتقد التي عطلتها الإدارة الفرنسية، ورفعت نفس المبادئ والأهداف، وصدر العدد الأول منها في 12 نوفمبر 1925م، ثم مديرا لجريدة الشريعة (سنة ـ1933م). وظهر العدد الأوّل منها بتاريخ 17جويلية 1933م، ترأس تحريرها الأستاذان: العقبي والزاهري، وصاحب الامتياز فيها الأستاذ أحمد بوشمال، وأشرف أيضا على جريدة الصّراط السّوي (سنة 1934م) التي صدرت بعد تعطيل جريدتي السنة والشريعة. كان الشهيد أحمد بوشمال من أطوع الشباب للشيخ عبد الحميد بن باديس ومحلّ ثقته، ينوب عنه في كلّ المشاكل التي تعرض له، وخاصة استقبال المراسلات الموجّهة إلى الشهاب والرّد عليها، وأذن له في الحديث باسمه وكتابة رسائله، فبعض رسائل ابن باديس كانت بخطّه، تحدث فيها بلسانه، ونقل فيها أوامره ورغباته، كما في رسالته المؤرخة بتاريخ 17 جانفي 1930م إلى أحمد توفيق المدني، والتي نقل فيها رغبة الأستاذ أن يكتب «ملاحظات على الاحتفال بجنازة المرحوم ناصر الدين ديني، كمبعوث من طرف الشهاب»، وقد استجاب المدني فكتب مقالة عن الجنازة التي أقيمت للمرحوم ناصر الدين ببلدة بوسعادة ونشرت له في الشهاب، ومنها رسالته الموجهة إلى الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة ، مدير مدرسة الشبيبة الإسلامية بالجزائر العاصمة، وقد نشر نصها في جريدة البصائر الأديب الكاتب» الأخضر رحموني»، وهي مؤرخة في 13 جمادي الأخير سنة 1350 الموافق ليوم 25 أكتوبر 1931، شكر أحمد بوشمال فيها الشاعر على مساهمته الأدبية في مجلة الشهاب، وبرّر له في مضمونها «الأسباب الحقيقية لتأخر صدور مجلة الشهاب عن موعدها الرّسمي، بسبب نقص اليد العاملة بالمطبعة الإسلامية الجزائرية، والتي كانت منشغلة بطبع الجزء الثاني من كتاب (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) للشيخ مبارك بن محمد الميلي». ولمّا أسس الأستاذ ابن باديس (جمعية التربية والتعليم)، ترأس قسم الشبان فيها، وتولى رئاستها بعد وفاته، وباسمها كان يوجّه التعليمات ويسيّر حركة التعليم بالجامع الأخضر، ومن خلالها دعا إلى إحياء جمعية العلماء، بعد أن تعطّل نشاطها بوفاة ابن باديس، وتبعات قيام الحرب العالمية الثانية، وظل في منصبه يتحمّل هذه المسؤولية حتى أوقفته الإدارة الفرنسية سنة 1957م قبل استشهاده بسنة، وكما كان محلّ ثقة ابن باديس في حياته، كان كذلك في عهد خليفته الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، عليه يعتمد في كثير من أمور الجمعية، مع إخوانه مبارك الميلي والعربي التبسي ومحمد خير الدين وغيرهم، فهؤلاء عون الإبراهيمي في تسيير جمعية العلماء والإشراف على مدارسها، وعند تجديد مكتبها سنة 1946م، انتخب أحمد بوشمال عضوا في مجلسها الإداري الجديد، «ثم أمينا للمالية مساعدا للشيخ محمد خير الدين، فأصبح المسير الفعلي لماليتها، والمكلف بتنظيم اجتماعاتها الدورية»، يشير الشيخ أحمد حماني أثناء حديثه عن الأستاذ بوشمال إلى دوره الكبير في تأسيس معهد ابن باديس سنة 1947م، ومساهمته في إنجاح وتحقيق مشروع دار الطلبة التي أنشئت سنة 1953م. ويمكن اختصار ما قدّمه أحمد بوشمال خدمة للجمعية وتراثها العلمي في النقاط التالية: • إحياء نشاط الجمعية وبعثه من جديد مع بقية الأعضاء، بعد أن عانت مطلع الأربعينات، بسبب الفقد المفاجئ لزعيمها الروحي، والذي ترك فراغا كبيرا بين أعضائها، فبعثر جهودهم، وخاصة أنّ رئيسها الثاني الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كان حبيس منفاه بالأغواط، وقد حاولت الإدارة الفرنسية استغلال هذا الفراغ للنيل من الجمعية فلم تفلح في ذلك؛ لأنّ وفاته حوّلت أفكاره إلى فكرة مجردة، لم يجد المحتل لها سبيلا، فاستطاع أحمد بوشمال باسم (جمعية التربية والتعليم) رفقة الأعضاء مسايرة التحولات الجديدة، والقيام بحركة موحدة في المجال الفكري والتنظيمي، ضمنت استمرار حركة التعليم في الجامع الأخضر. • ترك ابن باديس آثارا من مقالات وخطب وبحوث وفتاوى ووثائق ومذكرات، ومكتبة عامرة بالكتب والمخطوطات، وقد عهد بها والده (محمد المصطفى) وأخوه إلى الأستاذين عبد الحفيظ الجنان وأحمد بوشمال لترتيبها وتنظيمها، تمهيدًا لجعلها مكتبة عامّة، باسم ( المكتبة الباديسية)، ليستفيد منها كلّ طالب علم. • الإشراف على جمع الدروس التي ألقاها الإمام في تفسير كتاب الله بالجامع الأخضر، ونشر بعضها في مجلة الشهاب تحت عنوان «مجالس التذكير»، فأشرف أحمد بوشمال على استخراجها وترتيبها وطبعها في المطبعة الجزائرية الإسلامية، بقسنطينة، سنة 1367هـ/ 1948م، وقد نوّه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، بجهده في هذا المجال، ومما قاله: «هذه المجالس العامرة هي التي تصدى الأخ الوفي السّيد أحمد بوشمال، عضد الإمام المفسر وصفيه وكاتبه والمؤتمن على أسراره، لتجريدها من مجلة الشهاب، ونشرها كتابا مستقلا، قياما بحق الوفاء للإمام الفقيد وإحياء لذكراه بأشرف أثر من آثاره، وها هو ذا بين أيدي القرّاء يستروحون منه نفحات منعشة من روح ذلك الرجل العظيم، ويقرأونه فلا يزيدهم إلّا عرفانا بقدره، فحسبهم ما بنى وشاد وعلّم وأفاد، وما ربى للأمة من رجال كالجبال، وما بث فيها من فضائل وآداب، وما أبقى لها من تراث علمي خالد». لمّا اندلعت ثورة التحرير انضم أحمد بوشمال إلى العمل المدني الثوري داخل مدينته، وسخر المطبعة الإسلامية الجزائرية لدعم الثورة، بنشر نداءاتها وإعداد بعض وثائقها الإدارية، على غرار بطاقات جنود جيش التحرير الوطني، يقول الشيخ أحمد حماني: «وقد سمعته يحمد الله ويشكره على أن أمد في حياته حتى رأى مطبعة الشيخ ابن باديس، تقوم بخدمة الثورة الجزائرية المسلمة، وتُحقق غرضا من أغراض الشيخ»، واصل الشيخ بوشمال نشاطه ضمن الجمعية، «فحضر عقب ذلك اجتماعا طارئا سريا بالعاصمة، للبقية الباقية من مسؤولي جمعية العلماء، بعد اختطاف الشيخ العربي التبسي نائب رئيس الجمعية مساء 4 أفريل من نفس السنة، وقد توج الاجتماع ببيان يحمل السلطات الفرنسية مسؤولية اختطافه»، وبقي يمارس أعماله الثورية مع الشهيد صالح بوذراع ، أحد أساتذة مدرسة التربية، والشهيد مسعود بوجريو، مسؤول الكشافة الإسلامية، وكلاهما على رأس الحركة الفدائية بقسنطينة وضواحيها، حتى اعتقل لأوّل مرّة بتاريخ 17 أوات1957م، واطلق سراحه بعد أن ذاق أصناف العذاب، واعتقل مرّة ثانية في ربيع عام 1958م، ثم اعتقل للمرة الآخرة في 13 سبتمبر 1958م، وكان ذلك آخر العهد به، فاغتيل غدرا كما اغتيل قبله الشيخ العربي التبسي، ومحمد العدوي، والأديب أحمد رضا حوحو.

للموضوع مصادره

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.