مواقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والغاية المنشودة في تحقيق الاستقلال
بقلم: د. علي الصلابي-
حددت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين غايتها في القانون الأساسي للجمعية 1931م، وأعلنت أن غايتها صريحة وواضحة فيما يخص محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والجهل والآفات الدينية، وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل، لكن أخذت غاية الجمعية تتوضح أكثر فأكثر بعد أن جرى الانتخاب الثاني للهيئة العامة للجمعية عام 1932م، فضمن الإطار الديني دعا الإمام ابن باديس للعودة إلى سيرة السلف الصالح، فقال: “خطتنا الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة ـ المعتمد عليهم ـ ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية المحمدية دون تفريق بينهم، وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال والأفعال والسير والأحوال، حتى يكونوا للناس كما كان هو –صلى الله عليه وسلم– مثالاً أعلى في الكمال”.
وبعد مضي خمس سنوات على تأسيس الجمعية حدد البشير الإبراهيمي غاية الجمعية في مجموعة من المواقف:
موقفها من الطرق المبتدعة:
بما أن الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، وأنها هي السبب الأكبر في ضلالهم في الدين والدنيا، وأن هذه الطرق هي أظهر اثاراً وأشنع صورة في القطر الجزائري، لذلك يجب محاربتها ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر، وأننا حين نقضي عليها إن شاء الله نقضي على كل باطل ومنكر وضلال، ونعلم زيادة على ذلك أنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح من أي فرع من فروع الحياة مع وجود هذه الطرقية المشؤومة، ومع ما لها من سلطان على الأرواح والأبدان ومع ما فيها من إفساد العقول وقتل للمواهب.
موقفها من التعليم:
بما أن التعليم العربي الحر يدور في دائرة ضيقة من أمكنته وأساليبه وكتبه، فإن غاية الجمعية هي أن توسع دائرة الأمكنة بإحداث مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار، وتنظيم دروس في الوعظ والإرشاد الديني في المساجد، وتنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة في النوادي، وإصلاح أساليب التعليم بالقضاء على تلك الأساليب العتيقة العقيمة.
موقفها من البدع والمنكرات العامة:
غاية الجمعية في هذا المجال هي محاربة البدع المرتبطة بالمساجد والجنائز والمقابر والحج والاستسقاء والنذور، والتي أصبحت تشوه هذه المظاهر المقدسة لدى المسلمين.
موقفها من الإلحاد:
في اعتقاد الجمعية أن الإلحاد حلّ في الجزائر عن طريق الثقافة الأوروبية، والتعليم اللاديني أو التقليد الأعمى، وأن غفلة اباء وأولياء الطلاب الجزائريين غذت قيم هذه الناحية، كذلك فإن الإلحاد قد تمكن في نفوس الشبان المتعلمين في رأي الجمعية، كما يقول البشير الإبراهيمي بسبب نفور رجال الدين الجامدين منهم، وأن انتشار الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة جعل أبناءنا المتعلمين تعلماً أوروبياً الجاهلين حقائق دينهم يحملون من الصغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقاً وعدلاً وأنكروا معها الدين ظلماً وجهلاً، لذلك فإن خطة الجمعية تقضي بمخالفة هذه الطائفة وجذبها إلى المحاضرات والدروس الدينية لتقويم زيفها واعادتها لحظيرة الدين.
موقفها من التبشير:
بما أن الجمعيات التبشيرية المسيحية في الجزائر التي تعد أداة من أدوات السياسة في ثوب ديني وشكل كهنوتي ؛ قد انتشرت في كثير من المناطق التي تكثر فيها طروق المجاعات، محاولة التأثير بالمال والإغراءات على الوضع الديني للسكان، لذلك فإن على الجمعية مقاومة التبشير بقدر المستطاع.
وبالنتيجة يعرف لنا الشيخ البشير الإبراهيمي الجمعية بأنها جمعية علمية دينية تهذيبية، فهي بالصفة الأولى تعلم وتدعو إلى العلم وترغب فيه وترغب على تمكينه في النفوس بوسائل علمية واضحة لا تتستر، وهي بالصفة الثانية تعلم الدين والعربية؛ لأنهما شيئان متلازمان وتدعو إليهما وترغب فيهما، وتنحو في الدين منحاها الخصوصي وهو الرجوع به إلى نقاوته الأولى وسماحته في عقائده وعبادته، لأن هذا هو معنى الإصلاح الذي أسست لأجله ووقفت نفسها عليه، وبمقتضى الصفة الثالثة تدعو إلى مكارم الأخلاق التي حضَّ الدين والعقل عليها لأنها من كمالها، وتحارب الرذائل الاجتماعية التي قبح الدين اقترافها وذم مقترفيها، وسلكت في هذه الطريقة أيضاً الجادة الواضحة.
وأما الغاية السياسية للجمعية، فقد وضعها ابن باديس قبل تأسيس الجمعية ووضع الإطار العام للغاية الوطنية السياسية التي يستهدفها الإصلاحيون بقوله: ولأننا جزائريون نعمل للمّ شعب الأمة الجزائرية وإحياء روح القومية في أبنائهم، وترغيبهم في العلم النافع والعمل المفيد حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة والانتفاع في العالم، وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية.
هذه كانت غاية الإصلاح في الجزائر إحياء الروح القومية والحض على محبة الوطن والانفتاح على الإنسانية العالمية، إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلاًّ ونحب وطننا ونعتبره منها جزءاً، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها، بل إن ابن باديس صرّح بأبيات من الشعر أصبحت يتغنى بها كل الشعب عندما قال:
شـعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
أو رام ادماجاً له *** رام المحال من الطلب
إن غاية الجمعية تبدو واضحة في إطار هذه الأبيات الجميلة المعبرة عن الهوية والعقيدة والثقافة والانتماء الديني لشعب الجزائر المسلم وتحديد انتسابه القومي إلى العروبة التي هي أصله ولا يمكن أن يحيد عنها، ومن قال بأنه انتهى وتم تحويله عن شخصيته فقد كذب، فمن المحال دمجه في كيان غير كيانه الطبيعي لأنه شعب عربي مسلم.
هذه هي الغاية التي سعت إليها جمعية العلماء وعرضتها فيما بعد كمطالب وطنية، وهي ليست بعيدة عن الأهداف السياسية التي ينسبها المفكر الفرنسي «أوغستاف بيرك» إلى جمعية العلماء والتي تتلخص بما يلي:
- تخليص الجماهير الجزائرية من محاولات دمجها في المجتمع الغربي.
- المشاركة في الدعوة إلى إقامة الوطن العربي.
- تكوين الشعب الجزائري الذي عانى من الرزوح تحت الأوامر القاسية والفوضى.
- العمل على جعل الجزائر دولة مستقلة مرتبطة باتحاد فدرالي مع الأقطار العربية.
كان من غايات جمعية العلماء العمل على فصل الجزائر عن فرنسا تحت راية الإسلام في إطار الوطنية الجزائرية، ووسيلته في تحقيق ذلك الهدف تنشئة جيل جزائري جديد مسلح بثقافة وطنية إسلامية وروح وثابة، ليتمكن في المستقبل من تحقيق الأمنية العزيزة الغالية: الاستقلال، ولقد قاد جمعية العلماء منذ نشأتها وحتى حلها عام 1956م نخبة من العلماء ناضلت بكل الوسائل الفكرية والعملية، كتابة وخطابة وتنظيماً للوصول إلى الغاية المرجوة، فكان هؤلاء بحق أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
مراجــع البحث:
د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت ، ط 1، 2016م، ص (213 : 217).
د. أحمد الخطيب، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأثرها الإصلاحي في الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر , 1985م، ص (115: 119).
جريدة البصائر الصادرة عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، السنة الثانية، العدد (71) 18 جوان 1937م.