أبو القاسم سعد الله.. تجارب في رحاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
لقد عاش الدكتور أبو القاسم سعد الله (1930-2013) عدة تجارب في رحاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، طالبا ومراسلا لجريدتها «البصائر» في تونس والقاهرة، ومعلما في مدارسها في الحراش والأبيار، ومشتغلا بالبحث في تاريخ رجالها وأعمالها ومدرِّسا تراثها في المعاهد والجامعات، وأعرض هنا في هذا المقال ومضات عن كل تجربة من هذه التجارب الخصبة في حياة هذا البحاثة الذي غادر عالم الفناء إلى عالم الخلود في 14 ديسمبر 2013.
اكتشاف مبكر لجمعية العلماء
لقد اكتشف الدكتور سعد الله مبكرا دعوة جمعية العلماء التي لمس تأثيراتها في بلدته قمار بوادي سوف خاصة بعد زيارتها من طرف الإمام عبد الحميد بن باديس في ديسمبر 1937، وقد تركت هذه الزيارة أثرا كبيرا و«أججت روح الثورة والمقاومة» في هذه البلدة كما وصفها مؤرخ جزائري مختص في تاريخ هذه المنطقة.
واكتشف الطفل سعد الله آثارها في محيط عائلته التي كانت دائما متعاطفة مع جمعية حركة الإصلاح مثل الشيخ محمد الطاهر التليلي، الذي هو زوج خالته، وأحد أقطاب الحركة الإصلاحية في مدينة قمار، وخاله الشيخ الحفناوي هالي الذي كان عضوا بارزا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. قال الدكتور سعد الله عن هذا الأخير: «كانت والدتي تتطلع إلى أن يصبح ابنها مثل أخيها الحفناوي، وكان قرة العين ومضرب المثل في عائلة أخوالي لأنه كان الوحيد الذي اكتسب العلوم الدينية ودرس بجامع الزيتونة وحصل منه على شهادة التطويع».
لقد كان منذ صغره موجها نحو التحصيل العلمي والاقتداء بالشيخين العالمين المنتميين للمدرسة الاصلاحية: الشيخ التليلي والشيخ الحفناوي.
ولتحقيق هذا «المجد المنشود» كان لابد له أن يسافر إلى خارج البلد حيث توجد الجامعات والمدارس العليا التي يتخرج منها العلماء، لذلك قرر السفر إلى تونس للدراسة في الزيتونة ثم السفر إلى مصر لمواصلة دراسته في جامعة القاهرة كما سنرى لاحقا.
مع بعثة طلبة جمعية العلماء بتونس
انتقل سعد الله إلى تونس لمواصلة تحصيله العلمي في جامع الزيتونة على حساب العائلة التي كانت ترسل له قسطا من المال. وقدم لنا الدكتور سعد الله في مذكراته التي صدرت بعد وفاته معلومات كثيرة عن سنوات دراسته في الزيتونة، واحتكاكه بالحياة الأدبية والفكرية والفنية في العاصمة التونسية، ومحاولاته الأولى في قرض الشعر والكتابة النثرية.
احتك سعد الله بطلبة جمعية البعثة الجزائرية الزيتونية ونسج روابط متينة مع أعضائها الناشطين. وتطوّرت علاقته بجمعية العلماء في الجزائر حينما عيّنه نائب رئيسها الشيخ العربي التبسي الذي زار تونس مسؤولا عن هذه الجمعية، وقد شعر الطالب سعد الله حينئذ بهذه المسؤولية، وقدّر «أهمية الرسالة نحو الوطن واللغة العربية والإسلام».
وكان يتابع باستمرار نشاطات جمعية العلماء في الجزائر من خلال جريدتها «البصائر» التي كانت تصله إلى تونس بانتظام بفضل الاشتراك السنوي الذي دفعه والده لهذه الجريدة. وكان يقرأ مقالاتها بنهم خاصة «افتتاحياتها التي يحررها الشيخ الإبراهيمي ومقالاتها الأدبية، وما فيها من شعر لمحمد العيد وغيره…».
ولما تعلم تحرير المقالة على أستاذه الشيخ الخبثاني، واكتسب المعارف من مطالعاته الكثيرة للكتب القديمة والجديدة والمجلات التونسية والمصرية، جرب حظه في ميدان الصحافة والكتابة الأدبية نثرا وشعرا. وهكذا أرسل عددا من المقالات إلى جريدة البصائر، وكانت أول مقالة نشرها تحمل عنوان: «أمة المجد في الميدان» والتي كان يأمل من خلالها تجسيد وحدة الشعب المغاربي وتحقيق الحرية والتقدم في شمال إفريقية.
سعد الله معلما في مدارس جمعية العلماء
عاد سعد الله إلى الجزائر بعد نيله شهادة التحصيل في عام 1954، ليدرّس عاما في مدارس جمعية العلماء. كان تعيينه الأول في مدرسة الثبات بالحراش التي كان يديرها الشاعر الربيع بوشامة، ثم انتقل إلى مدرسة التهذيب بالأبيار والتي كان يشرف عليها الأستاذ محمد الحسن فضلاء. وكانت هذه المدرسة الثانية كما وصفها المعلم بلقاسم سعد الله «مثالية في التنظيم والنشاط والإنضباط» مقارنة بالمدرسة الأولى.
ولم يقتصر سعد الله على التدريس، فقد شارك أيضا في نشاطاتها الثقافية والكتابة في مجلتها المدرسية حتى أنه اعتبر مروره بهذه المدرسة العصرية فرصة ثمينة اكتسب خلالها تجربة غنية في التعليم العصري والنشاط الأدبي والفني.
ولما غادرها فيما بعد مسافرا إلى مصر بقي على صلة بمديرها وبمعلميها، يرسل لهم بعض الأناشيد والخواطر الأدبية والأخبار، ويتلقى منهم رسائل من الجزائر.
مع بعثة طلبة جمعية العلماء بالقاهرة
بعدما جمع سعد الله قسطا من المال بفضل الإدخار المستمر، سافر إلى مصر عن طريق تونس وليبيا. وقد منحه الشيخ العربي التبسي ألف فرنك يستعين به على تسديد مصاريف السفر.
وصل سعد الله إلى القاهرة في نهاية سبتمبر 1955م، واتصل مباشرة بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي استقر بالقاهرة منذ عام 1952م، حاملا له رسالة من نائبه الشيخ العربي التبسي، وأخرى من الأمين العام للجمعية الأستاذ أحمد توفيق المدني. وقد نشر الدكتور سعد الله هاتين الوثيقتين سنوات قليلة قبل وفاته في مجلة تاريخية ثم أعاد نشرها في كتابه: «حاطب أوراق».
وبقيّ الطالب سعد الله خلال إقامته في مصر بين عامي 1955 و1960 على صلة قوية بمكتب الجمعية بالقاهرة، وساهم في نشاطاتها الثقافية والكتابة في جريدة «البصائر» من خلال ركنه: «رسالة القاهرة.»
وتواصل باستمرار مع العديد من رجال الجمعية سواء الذين استقروا في القاهرة كالشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والأستاذ أحمد توفيق المدني والشيخ عمر دردور، أو الذين كانوا في الجزائر كالشيخ العربي التبسي، والشيخ إبراهيم مزهودي والشيخ نعيم النعيمي وبخاصة الأستاذ محمد الحسن فضلاء الذي تأثر به كثيرا، فقد كان نموذجا للعالم المستنير، متضلعا في التراث العربي الإسلامي، ومتفتحا على ثقافة العصر.
سعد الله باحثا في تراث الجمعية
انتسب سعد الله إلى كلية دار العلوم لمواصلة تحصيله العلمي، فتحصل على شهادة الليسانس الأدب، ثم سجل لإعداد رسالة الماجستير حول شاعر الجمعية الشيخ محمد العيد آل خليفة. ولما اضطر سعد الله للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن استفاد من منحة لمواصلة دراساته العليا في الجامعات الأمريكية توقف عن اجراءات مناقشة أطروحته الجاهزة، وأوصى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قبل خروجه من مصر بطبعها بعد أن سلّمه نسخة من المخطوط.
وفعلا أدى الشيخ الإبراهيمي الأمانة ونشرها في دار المعارف الشهيرة، وأضاف إليها تصديرا نوّه فيه بجهد الطالب سعد الله، فقال: «وهذه الدراسة لشعر محمد العيد محاولة أولى نلمح فيها آثار الجهد الذي بذله الكاتب في استخراج طبيعة الشاعر ونوازعه النفسية من شعره، والحكم على الشاعر من شعره وعلى العالم من آثاره العلمية هو أقرب الطرق إلى الصدق والمعدلة، فإذا رزق الدارس حظا من دقة الملاحظة وسداد الاستنباط بلغت دراسته الغاية التي يتوخاها الدارسون ويرضى عنها المنصفون».
اهتم الدكتور سعد الله في كتاباته التاريخية أو الأدبية بتراث جمعية العلماء ضمن اهتمامه بالتاريخ الثقافي والسياسي للجزائر حتى أن بعض المؤرخين الفرنسيين والجزائريين اعتبروه ابنا وفيا لجمعية العلماء، ومؤرخا منحازا لها في تأريخه لتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية.
صحيح أنه لم يخصص لها كتابا مستقلا ولكنه كتب عنها في كتابه الحركة الوطنية وفي كتب أخرى كما جمع بعض آثارها المشتت في الجزائر وفي الخارج. وقد ساقه القدر إلى مكتب الجمعية بالقاهرة والاطلاع على بعض الوثائق القليلة الباقية ونشرها في المجلات التاريخية. وتمنى دائما أن يسترجع تراث الجمعية عند العوام والخواص ويوضع في متناول الباحثين الجزائريين.
نظرة سعد الله للرصيد التاريخي لجمعية العلماء
كيف كان ينظر إلى هذه الجمعية التي ارتبط بها فكريا وإن لم ينخرط يوما في صفوفها وينضم إلى هيئاتها الإدارية؟
كان سعد الله في مرحلة الدراسة في تونس ومصر متحمسا لها ومدافعا عنها. ويكفي أن أحيل هنا إلى مقال كتبه الطالب الزيتوني بلقاسم (أبو القاسم) سعد الله في جريدة «البصائر» في العدد 212، المؤرخ في 9 جانفي 1953م لتأكيد هذه المعاني: «وإني لأنصح الذين ينتقدون سلوك جمعية العلماء ويحكمون على برامج سيرها في الحياة وخططها في الإصلاح الاجتماعي بأن لا يتسرعوا في الحكم. ولا يتعجلوا بالانتقاد وعليهم أن يتبيّنوا الرشد من الغي بالرأي السديد والتأمل العميق. وأن يتمعنوا في نتائج الأعمال قبل الحكم على أهلها في البداية فرب تأن أعقب سلامة. ورب تعجل جلب ندامة. ولن تتبدل سُنّة الله».
هل احتفظ الدكتور سعد الله بهذه النظرة المشرقة حول جمعية العلماء أم تغيرت نظرته مع مرور الزمن وتطوّر تكوينه العلمي؟
إن المؤرخ يجب أن يكون مستقلا وغير منتسب لأي حزب حتى يبقى موضوعيا في كتاباته، لذلك رغم علاقته المتينة بجمعة العلماء –كما رأينا- فإنه لم يتردد فيما بعد، وقد اكتمل نضجه الفكري، في الكتابة عن الصراعات السائدة داخلها، ويكشف عن تفاصيلها التي بقيت لمدة طويلة في حيز الكتمان.
قال في هذا الشأن: «لقد أصاب جمعية العلماء في هذه الفترة ما أصاب حزب الشعب الجزائري من خصومة على الزعامة ومزاحمة الجيل الجديد للجيل القديم وركود في الهياكل والتوجيه العام. غير أن انقسام حزب الشعب أصبح معلنا عنه ومعروفا، بينما ظل ما أصاب جمعية العلماء في الخفاء لأنه لم يصل إلى درجة الانقسام العلني. ولولا الثورة التي لم تسمح ظروفها بعودة الإبراهيمي من مصر، ولا بعقد الاجتماع العام … لكان من الممكن أن يحدث للجمعية ما حدث لحزب الشعب».
هذه ومضات من تجارب الأستاذ أبي القاسم سعد الله مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، طالبا في مدرستها الفكرية، وكاتبا ومراسلا لصحيفتها «البصائر»، ومعلما في مدارسها، ومدافعا عن مشروعها الإصلاحي، ومؤرخا لتراثها العلمي وأعمالها التربوية ونضالها الوطني وتضامنها العربي الإسلامي.
ولقد أدى هذا الاقتراب من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو الاهتمام بتاريخها إلى جعل بعض المؤرخين الجزائريين والفرنسيين يعتبرونه واحدا من رجالها، ويصنفونه مؤرخا رسميا لها، ويحسبونه رافعا شأنها أكثر من غيرها من الأحزاب والحركات السياسية والدينية الجزائرية.
والحقيقة أن الدكتور سعد الله كان موضوعيا في دراسته لتاريخ هذه الجمعية بل ناقدا له في أحيان عديدة لكنه ينظر إليه دائما أنه كان متحيّزا لها. حقا، صدق المثل القائل إن «رضا الناس غاية لا تُدرك».
* أ.د. مولود عويمر- أستاذ بجامعة الجزائر 2