عبد الملك فضلاء… المعلم الذي دوّخ الاستعمار
بقلم: محمد أرزقي فراد-
كان يعرف كيف يصل إلى القلوب، ويمتلك النفوس، كان جديا ولكن في يسر وانشراح. كان دقيق الملامح وبعينيه بريق يلمع فيه الذكاء والفطنة، وفي نظرته عزم وتصميم. كان رخيم الصوت عذب الإرسال، له في قراءة القرآن أو الأناشيد نغم خاشع أخاذ. إذا تحدث ملك الأسماع، وإذا اعتلى المنبر انطلق كالسهم إلى غايته، لأنه كان صادق القول، واضح العبارة وقوي البرهان (نجله عبد الحميد فضلاء)
يعتبر الشهيد عبد الملك فضلاء أحد أحرار الجزائر، الذي نذر حياته لمحاربة الجهل وإنقاذ الناشئة من براثن الظلام، ومن أجل مقارعة الاستعمار باللسان والقلم. سار نحو غايته راكبا مناه، مستخفا بالحذر، لأنه آمن بشعبه المكبل، وآل على نفسه ألا يدخر أي جهد من أجل تحريره، ولما كانت نفسه كبيرة، فقد استلذ ركوب الخطر حتى نال الشهادة في مثل هذا الشهر من سنة 1957م، فمن هو هذا المعلم الذي دوخ الاستعمار الفرنسي، فتخلص منه بطريقة وحشية؟
نشأته وبداية مساره التعليمي
ولد عبد الملك فضلاء يوم 19 أفريل 1920م، بقرية ثارفث، بلدية بني شبانة، دائرة آث وارثيلان، وهو ثالث أبناء الشيخ محمد السعيد أبهلول. درس على يد والده، الذي أغناه عن الدخول إلى المدرسة، على عادة الأسر المتعلمة في المنطقة، فحفظ القرآن وتعلم مبادئ اللغة العربية، وقد أهله هذا التحصيل للالتحاق بدروس عبد الحميد بن باديس بالجامع الأخضر بمدينة قسنطينة سنة 1937م، وزاول دراسته هناك مدة ثلاث سنوات، أي إلى غاية وفاة ابن باديس، ثم عاد إثر ذلك إلى مسقط رأسه، فأسس مدرسة في محيط مسجد القرية الذي كان يشرف عليه، وشرع في تعليم الصغار وتوعية الكبار بطريقة تربوية عصرية، سرعان ما أتت اُكلها، إذ بدد بها ظلام الجهل وما نجم عنه من ممارسات اجتماعية غريبة عن الإسلام الصحيح، وهكذا كان رجوعه إلى القرية بداية عهد جديد، عهد التنوير المشرّب بالوطنية الصادقة.
تجنيده في الحرب العالمية الثانية
جاءت أحداث الحرب العالمية الثانية، لتنغص حياة هذا المعلم المناضل، بسبب استدعائه إلى الخدمة العسكرية تحت العلم الفرنسي، وهو الأمر الذي رفضه جملة وتفصيلا، إذ لا يعقل أن يدافع عن شرف المستعمر المستدمر، لذا هرب من قريته ودخل عالم السرية، وقيل إنه مكث بعض الوقت في مدينة الجزائر. ورغم احتياطاته الكثيرة، فقد نجحت عيون فرنسا من الوصول إليه، فأرسل مباشرة إلى ساحة القتال بأوروبا سنة 1943م.
هذا ومن المحطات الهامة الجديرة بالذكر في حياته مشاركته في مظاهرات شهر ماي 1945م، إثر استفادته من إجازة، تزامنت مع خروج الجزائريين إلى الشوارع، للمشاركة في الاحتفال بعيد النصر، باعتبارهم مساهمين في هزم الفاشية والنازية، فقاد مسيرة من آث وارثيلان إلى بوڤاعة للمطالبة بالاستقلال والحرية، ليعود بعدها إلى أوروبا، بعدما علم بنية الحاكم العسكري لبوڤاعة الذي قرر إلقاء القبض عليه.
ولا شك أنه استفاد من أدائه للخدمة العسكرية، فاكتسب وعيا سياسيا، جعله يدرك التحولات السياسية الكبرى في العالم، التي أسفرت عن أفول نجم الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم، وبزوغ شمس الحركات التحررية المنادية بحق تقرير مصير الشعوب المستضعفة، فاعتنق بعد عودته الفكر الوطني التحرري، الذي رفع حزب الشعب لواءه.
وبهذه الخلفية السياسية الواعدة، أبلى عبد الملك فضلاء بلاء حسنا في مقارعة الاستعمار واستنهاض الهمم، عن طريق المدرسة التي كانت تحصن الناشئة باللغة العربية والإسلام -باعتبارهما أساس الهوية الجزائرية، والمسجد الذي كان يقدم دروس الوعظ والإرشاد المشرّبة بالوطنية الصادقة، للكبار الذين فاتهم سن التمدرس. فكان شعلة من الحيوية والنشاط، ويعمل ليل نهار، دون كلل من أجل توسيع دائرة التنوير والوعي، بوصفها رافدا قويا للعمل السياسي.
مساره المهني في المدارس الحرة
من الطبيعي أن يقضي عبد الملك فضلاء -الذي تتلمذ على عبد الحميد ابن باديس- مساره المهني في مدارس جمعية العلماء الحرة، وحدد نجله عبد الحميد، مجمل خدمات والده فيها على النحو التالي:
1- مدرسة النصيحة بالجزائر العاصمة (1947 1948)
2- مدرسة المرشدة بالجزائر العاصمة (1948 1949)
3- مدرسة القصر بالعجيبة، ولاية البويرة (1949 1950)
4- مدرسة إغيل علي، ولاية بجاية (1950 1951)
5- مدرسة تازمالت، ولاية بجاية (1951 1955)
6- مدرسة التهذيب بمدينة حجوط، ولاية تيبازه (1955 1956)
7- مدرسة تازمالت (الفترة الثانية) (1956 1957)
منهجه في العمل
يستخلص مما ذكر أنه قضى شطرا كبيرا من مساره المهني في مدرسة تازمالت، وهناك أثمرت جهوده التربوية والإصلاحية والسياسية، التي شملت الصغار والكبار، فأرسلت عدة بعثات طلابية إلى تونس والقاهرة منذ سنة 1954 ، لعل آخرها بعثة 1956م التي ضمت -حسب المعلومات المستقاة من الأستاذ حسن بهلول- الطلبة: خليفاتي طيب، خليفاتي عبد الرحمن، أوشيحه محمد الطاهر، أوشيحه أمقران، لحلو ملعب، أولبصير صالح، موهو عبد الرحمن، أحسن للعربي، وغيرهم.
وكتب نجله عبد الحميد، واصفا منهج والده التربوي بقوله: "ضرب الشهيد ضربته في تازمالت، فأحدث دويا في كل المنطقة، وتفطن العدو إلى خطورة الوضع، وقرر أن يقف في وجه هذا المد. لكن هيهات! بصفة تدريجية استطاع الشيخ عبد الملك أن يحول الذهنيات من الإذعان السائد إلى الغضب والتمرد.
تخطى الأحداث والعقبات وواجه العواصف بسلام برعاية من الله الذي وهبه ما يحتاج إليه من حذر وتبصر وصبر. كان إماما مصلحا ومعلما ماهرا وثائرا على أوضاع البلاد المتدنية، فهز المنطقة هزا ليس بعده رجوع إلى الوراء. وانطوت صفحة تازمالت القديمة، وبدأ فيها لون جديد من الحياة اسمه التغيير والانقلاب. وهذه أجواء جديدة وقف الجميع منها وقفة التقدير والاحترام."
هذا وقد نجح عبد الملك فضلاء في استقطاب الصغار والكبار إلى المدرسة والمسجد، وفتح باب التمدرس أمام البنين والبنات، الذين كانوا يتلقون تعليما عصريا شمل كل المواد التي كانت تدرس في المدارس الرسمية، (المواد العلمية والأدبية والتاريخ والجغرافيا)، فضلا عن الأناشيد الهادفة إلى تحصين التلاميذ بالتربية والوطنية، والنشاطات الثقافية المتنوعة كالمسرح باللسانين الأمازيغي والعربي والمجلة المدرسية، وتدريب التلاميذ على مراسلة زملائهم في مدارس أخرى، وتنظيم الحفلات المدرسية. وتخرج على يده العديد من الطلبة، التحق بعضهم بالثورة، وصار كثيرهم ذخرا للجزائر بعد الاستقلال، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، عميروش حمو (الكاتب الخاص لعقيد عميروش لبعض الوقت)، أحمد علي غزالي (إطار في الدولة الجزائرية)، رجذال إبراهيم (كاتب خاص للشهيد عبد الرحمن ميرة)، محمد بلقاسم بهلول (نائب في البرلمان).
بناء مسجد تازمالت
أدرك عبد الملك فضلاء أهمية المسجد في توعية الأمة، باعتباره منبرا هاما للتواصل مع الجمهور الواسع، الذي ذهب ضحية سياسة التجهيل الاستعمارية. لذلك اقترح بناء مسجد كبير يليق بمقام أهل تازمالت، وبالفعل أسرع الجميع إلى احتضان هذا المشروع، فتبرع المحسنون بالمال الوافر، وشرع في انجازه بحماس كبير، إلى أن أنهيت الأشغال، وكان يوم تدشينه في 20 أفريل سنة 1954م، من الأيام المشهودة في بلدة تازمالت، إذ أقيم حفل كبير حضره رجال العلم والطلبة والجمهور، قدموا من العاصمة ومن مدن وقرى عديدة، يتقدمهم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ العربي التبسي، والشيخ العباس بن الشيخ الحسين، والشيخ أحمد سحنون، وعبد الكريم العڤون، والربيع بوشامة، وأحمد شقار، والشيخ عمر العرباوي، وعبد الرحمن شيبان وغيرهم. واستقبل أهل تازمالت ضيوفهم بالأناشيد والتكبير، وألقيت عدة كلمات مؤثرة، وكذا قصائد شعرية عديدة تحث كلها على تشجيع العلم والأعمال الخيرية. وكان من عادة الحركة الإصلاحية، أن تقدم الوفود المدعوة لحضور حفلات التدشين تبرعات للمؤسسات الجديدة (مساجد ومدارس)، فنال مسجد تازمالت حظه منها، وفي هذا السياق قدم وفد مدينة الجزائر الذي ترأسه الشيخ عمر العرباوي مبلغ نصف مليون فرنك. وفي الأخير انتهى الحفل بتنظيم وجبة غذاء على شرف الضيوف، كانت في مستوى الكرم الحاتمي. والجدير بالذكر أن جريدة البصائر قد خصصت مقالا مطولا لهذا الحفل، وقعه صاحبه باسم "حاضر"، جاء فيه على الخصوص: "... وبعد الوصول إلى رحاب المسجد صمتت موسيقى الأناشيد وتقدم الأستاذ المصلح الشيخ العباس بن الشيخ الحسين إلى مكبر الصوت فألقى كلمات رحب فيها بذلكم الجمع الحاشد، وأعرب عما يكنه أهل تازمالت من حب وتضامن لإخوانهم الوافدين عليهم من نواحي القطر كله، فأثر تأثيرا عميقا في النفوس بأسلوبه المعروف. ثم قدم تلميذة وتلميذا من تلاميذ المدرسة، فرحبا بدوريهما ترحيبا شاملا بالمربي الكبير الشيخ العربي التبسي، وبجميع الوفود، وأبكيا الحضور بكاء الابتهاج والسرور، وبعدهما تقدم الشيخ العربي الرئيس الثاني لجمعية العلماء، وفي يده مفتاح المسجد، فقال بعد كلمة وجيزة: إنني افتح مسجدكم هذا نيابة عن القائمين بشؤونه من أهل تازمالت لندخل إلى بيت الله الجديد آمنين."(1)
مساهمته في الكتابة التنويرية
وظف عبد الملك فضلاء الكتابة أيضا كوسيلة للتواصل مع الجمهور العريض، وقد اطلعت على بعض مقالاته المنشورة في جريدة البصائر في غضون سنة 1951م، كذلك المقال الموسوم "إلى المعلم" الذي أشار فيه إلى أهمية دور المعلم في المجتمع، باعتباره مُحصّن الأجيال بالأصالة والمعاصرة، جاء فيه قوله: "إن أمانة الأمة بين يديك، وفلذات أكبادها بين ذراعيك، وعدة مسؤوليات يحملها لك الواجب فوق كتفيك، فلا أنت بالرجل الأمين، المعتصم بحبل الله المتين، ولا أنت بالرجل المشفق على حوزته، والمحافظ على صيانة عرضه، إلا إذا أعددت نفسك وناولتها جزءا من الاهتمام، وبرهنت على شخصيتك وعلى واجبك الذي نيط بعهدتك بجلائل الأعمال، وبرأت ساحتك، وزكيت نفسك بدفاعك الخالص المستميت، ضد كل عابث وعاث، ثابتا صابرا متحليا برداء اسمه الرجاء والأمل، متحملا في سعيك كل العناء والنكد، غاضا طرفك، مادا بيمينك، ووراءها قوة إيمانك ويقينك، للقبض على زمام ضالتك التي هي منتهى أملك."(2)
مناضل القلم عاقبته الشهادة
شاء القدر أن يعين عبد الملك فضلاء عضوا في لجنة امتحان الشهادة الابتدائية، الذي تقرر إجراؤه بمدرسة التهذيب، الكائنة بحي كليمادفرانس بالجزائر العاصمة، يوم 15 جويلية سنة 1957م، فحل بالعاصمة لهذا الغرض يوم الجمعة 12 جويلية. وحدث أن مرّ مع زملائه في سيارة، بشارع النفق الجامعي، حيث أقام الفرنسيون حاجزا أمنيا. وبعد التحقيق في هوية أفراد الجماعة أطلق العسكر سراح الجميع، باستثناء عبد الملك فضلاء الذي سيق إلى أحد مراكز الاستنطاق، أين عذب تعذيبا شديدا، ثم أخرج إلى الشارع على متن سيارة جيب، وأمر بالرحيل، وعلى إثر ذلك أطلق عليه الجنود وابلا من الرصاص، فأردوه قتيلا، ثم أعلنت جرائد الاستعمار في اليوم الموالي أن القوات العسكرية الفرنسية قد قتلت هاربا يدعى عبد القادر (بدل عبد الملك) فضلاء، مدير مدرسة قرآنية بتازمالت.
هذا ولا شك أن القوات الفرنسية قد تلقت الضوء الأخضر للتخلص منه، من سلطات تازمالت، التي كانت تتحين مثل هذه الفرصة، ولم يسلم جثمانه لعائلته إلا يوم الثلاثاء 16 جويلية، ليدفن في مقبرة سيدي أمحمد تحت حراسة القوات الفرنسية، التي لم تسمح بحضور جنازته إلا لأفراد عائلته(3). وترك الشهيد أرملة لم يتجاوز سنها 32 سنة، وعلى عاتقها سبعة أطفال. فرحم الله الشهداء وأسكنهم فسيح جنانه.
الهوامش
1- البصائر، العدد 270، الصادر في 7 ماي 1954م.
2- البصائر، العدد 144، الصادر في 26 فيفري 1951.
3- محمد الحسن فضلاء، من أعلام الإصلاح في الجزائر، ج1، دار هومة، 2000، ص 273.