جمعية العلماء والموقف من الاستعمار
بقلم: حسن خليفة-
قد يبدو لبعض الإخوة أن هذا الموضوع لا يحتاج إلى مزيدٍ من النقاش حوله؛ لأنه واضح الملامح والأبعاد والحقائق. وأن التشكيك في الجمعية ومواقفها إنما هو من باب “المناكفة”؛ لإحراز بعض الأهداف كـالتشويش وإثارة البلبلة، ولتشويه الرأسمال المعنوي والفكري للمجتمع الجزائري.
ولكننا نستسمح هؤلاء الأفاضل في القول: لا إشكال في التذكير وتكرار التذكير، فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتوقظ النوّم وتصحّح التصويب، وتفيد في مدافعة الباطل وتبديد غيومه السامة. ثم إن الأمر له صلة بإلقاء الأضواء على بعض ما نُسي أو أهمل، حتى من الأخيار أنفسهم؛ فتاريخ الجمعية ومجموع مواقفها ومسيرتها ممّا يحتاج إلى المراجعة والمدارسة والاستئناس بين وقت وآخر، للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل.
وقد سبق التذكير مرَّات أن الجمعية التي استطاعت في ظروفٍ كظروف الاستدمار الاستيطاني العدائي النصراني الفرنسي الذي عمل على اجتثاث الأصول.. الجمعية التي استطاعت أن تحقق المنجزات الحضارية الكبرى في التعليم والتربية والتوجيه والمحافظة على الشخصية الوطنية الإسلامية الجزائرية وعلى الهوية والمبادئ، واقتدرت أن تربِّي أجيالا متتالية من المجاهدين الذين تفانوا في نُصرة الدين والعرض والأرض، حقيق أن يُنهج ـ اليوم وغداـ نهجُها هذا في العمل والقيادة والدعوة والإصلاح والتغيير. وقد أمكن لها أن تحقق ما حققت بالأمس، والأحرى أن يتحقق أكثر وأفضل وأثمر وأجمل اليوم.
دعنا نذكر بكلام ابن باديس نفسه
وحتى نكون في الصورة، فسنذكّر بما تحدث به رئيس الجمعية الأول في شأن خصوم الجمعية وأعدائها وموقفها من الاستعمار. ألقى الشيخ عبد الحميد ابن باديس خطابا في الاجتماع العام بمركز الجمعية بنادي الترقي بالعاصمة يوم الأحد 11 رجب 1355 هجري (موافق 27 سبتمبر 1936) تحدَّث فيه عن عددٍ من الأمور ذات الأهمية ومنها: غاية الجمعية، دعوة الجمعية، الجمعية وأنواع من يتصل بها، الجمعية والأمة، الجمعية وأهل الطرق، الجمعية والحكومة، الجمعية والأحزاب، الجمعية والمؤتمر الإسلامي الجزائري العام، الجمعية وخصومها.. كان الخطاب جامعا مانعا اقتضى السياق (المؤتمر، الجمعية العامة) أن يكون كذلك، ولكن أيضا كان لعبقرية الشيخ ابن باديس في قيادة سفينة الجمعية وقوة أدائه فيها نصيبٌ وافر يحتاج إلى تبصّر وفهم؛ إذ لا تصدر هذه المواقف الدقيقة الواضحة العميقة إلا من قائد محنَّك يعرف ما يفعل ويعلم ماذا يريد على المديين المتوسط والبعيد. ويحسُن أن نستفيد من خصائص القيادة عند هذا الرجل الحكيم الذي آتاه الله تعالى من فضله ما جعله بحق “أمة في واحد”.
قال ابن باديس في ذلك الخطاب الكريم الجامع عن صلة الجمعية بالحكومة (1) زمنئذ:
“لقد لقيت هذه الجمعية الإصلاحية من الحكومة العنتَ والبلاء ولم تبال في سبيل إرهاق الجمعية بكرامة المسلمين في دينهم وحُرمة مساجدهم، فأوصدت المساجد في وجوه العلماء، وشحّت برُخص التعليم العربي القرآني، وأعملت أصابعها في شؤون المساجد ورجالها والجمعيات الدينية وإعطائها بواسطة من لا يدينون بالإسلام ولا يشعرون شعوره ولا تهمّهم مصلحته، مما لا نعرف له نظيرا في أمة من الأمم، وصوّرت رجال الجمعية بصورة الأعداء لتُبعِد عنهم كل من يعيش معها أو يرجو مصلحة لديها. كل ذلك والجمعية صابرة على البلاء وتردُّ بأعمالها وأقوالها كل افتراء، وتوالي الاحتجاجات على تكرر السكوت والإعراض..”، وفي هذا الكلام ما يبين معاملة الحكومة الفرنسية للجمعية والتضييق على عملها ومحاصرة رجالها وعلمائها في كل شأن ومجال.
أعداء الجمعية كما رآهم ابن باديس أما بالنسبة لأعداء الجمعية، فقد قال العلامة ابن باديس بالحرف:
“يا الله ما أكثر خصوم الجمعية، غير أنهم ـ بحمد الله ـ كثيرون في العدد، قليلون في الحسب والعدّ، وهم على تفاهتهم في خصومتها يختلفون فيما خاصموها لأجله؛ فمنهم الظالم الذي خاف على سيطرته؛ ومنهم المتريّب بنفسه وبأصله الذي خاف على (خُبزته)؛ ومنهم المتشبّع لما لم يعطَ فهو يخاف من افتضاح حقيقته. وقد حاربوها بأنواع السلاح وأصناف المكائد حتى انتهى بهم الأمر إلى تدبير حادثة الاغتيال والاعتقال، والجمعية ـ بحمد الله ـ ثابتة لهم، صابرة لامتحان الله بهم. وقد عوّدها الله عاقبة الصابرين وردّ عنها كيد الظالمين. والحمد لله ربّ العالمين”.
إن هذين الموقفين وحدهما سنة 1936 كافيان للدلالة على نوع العلاقة بين الجمعية والحكومة الفرنسية والجمعية وأعدائها، وهم من الدائرين في فلك فرنسا، بل هم أعوانٌ لها تجمعهم الحربُ على الجمعية وما تمثّله. ولعلنا نستشف مما سبق أن استقلالية الجمعية كان خطا واضحا ومبدأ من مبادئ الجمعية من أول زمن تأسيسها. ومن يعود إلى الخطاب وإلى ما أشرنا إليه في مقال سابق من مراجع متخصصة عن الشبهات والأراجيف سيعرف كم وكيف عانت الجمعية من لأواء الكيد والمنع والحسد والحقد والتضييق من المستدمر البغيض ومحيطه ولكننا، مع ذلك نقرّ أن ثمة “ليونة” في خطاب الجمعية أو فلنقل لهجة فيها الكثير من المهادنة والملاينة.
وقد فسّر بعض الدارسين ذلك بالقول: “قد يكون ابن باديس وصحبُه يخاطبون فرنسا ويتحدثون إليها باللغة التي تحبّها، ويتخيَّرون الألفاظ والمصطلحات والتعابير التي تريد أن تسمعها” (2) لهدف التمكين للدعوة الإصلاحية أساسا بتنويع الأساليب ولبوس الدهاء في بعض الأحيان، وذلك في مقابل أسلوب يتميز “بالصراحة والشدة، ونلمس فيه الصدق والمصداقية في النوايا والمقاصد، والحرارة في العزم، والثبات على المبدإ الحق، هذا الأسلوب لا موقع فيه للتلميح ولا للمداهنة أو اللين، وهو الأسلوب السائد في الخطاب الإصلاحي الموجَّه إلى مختلف فئات المجتمع الجزائري الذي تدعو الجمعية إلى إيقاظه واستنهاضه، وتستوي في ذلك كل فئاته سواء كانت من النخبة المستغربة الموالية للثقافة الفرنسية، أم من الطرقيين المناوئين للجمعية، أم من بقية أبناء الأمة الجزائرية… ثم إن الجمعية استعملت هذا الأسلوب الصريح مع إدارة الاحتلال وفقا لطبيعة الظروف. وإذا كانت الجمعية تسير في ركاب الاستعمار، فلماذا يتعرَّض العديد من رجالها وعلمائها وأتباعها إلى التضييق والمحاكمات والسجن والنفي وحتى محاولات الاغتيال؟ بل لماذا تعرّض نشاطها في التعليم والتوجيه والإصلاح إلى كل أنواع التجميد والمنع؟”.(3)
وثمة ما هو أبلغ من ذلك في فهم المستدمر لحقيقة حركة ابن باديس البعيدة المدى وهو أشارت إليه دراسات ككتاب “ابن باديس من خلال تقارير المخابرات الفرنسية” (دار الأصالة)، وكتاب “جمعية العلماء المسلمين” تأليف جاك كاري..