في بدايات طلب العلم..
بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-
إن طالب العلم في بِدَايَاتِهِ يَحتاج إلى الأستاذ الرباني، الذي يبدأه بصِغَار المسائل قبل كِبَارها . ومما يُحقِّقُ له فائدة ذلك أن يُلُقَّنَ الدَرْسَ من كتابٍ مُناسبٍ لمرحلته التعليمية ويوافق طاقته العُمْرِية .
وهذا من سياسة الشيخ الرئيس عبد الحميد ابن باديس رحمه الله تعالى، فقد كان من ذوي الحرص على المفيد من العلم، وصاحب تفطن للأولويات، وعناية بطبيعة المرحلة الدراسية، ومستوى الطلاب.
حَدَّثَنِي بذلك الشيخ الجَمْعُونِي رحمه الله تعالى، وهو من بَقَايَا تلاميذ جمعية العلماء المسلمين الجزائرين بمدينتنا قسنطينة .
قال لي: ..كان الشيخ الرئيس لا يُدَرِّسُ الطلابَ ما لا يراه مناسبا لهم، بل ينتقي لهم ما يَصلح لهم .
من ذلك عندما يُدَرِّسُ قواعد اللغة العربية من كتب النحو، كشرح قطر الندى أو شرح شذور الذهب لابن هشام، أحيانا أثناء الدَّرْسِ يُحَدِّدُ للطلاب فقرات من النص المدروس، ويطلب منهم أن يضعوا على تلك الفقرات خَطًّا مائلا عَرْضًا بقلم الرصاص، كإشارةٍ للشيء المشطوب .
ويقول لهم: هذه الفقرات نُرْجِئُ شرحَها إلى مرحلة أخرى، فليس الوقت الآن مناسبا لدراستها، ونحن في ضِيقٍ من الوقت، وعلى عَجلة من أمرنا . وهذا كلّه من منهجية التعليم، وعدم الانسياق وراء الرغبة في التوسع في كل جزئيات الفصول، والتعمق مع كل المباحث . فالفَسيلة التي يُصَبُّ عليها من الماء الكثير يُغرقها ربما أتلفها، وقطع اللحم الصغيرة الطرية إذا سُلط عليها اللَّهب يُحرقها . وكتب النحو في تآليف القدامى قد يَرِدُ فيها تَفصيلٌ طويلُ الذيلِ، فيه من الأمور التي لَمَّا يمر بها الطالبُ بَعْدُ، وهي لا تُفهم إلا على ضوء مسائل يستغرق شرحُها وقتًا طويلا، قد يأكل الحصة بكاملها. وقد يتساءل البعض: ولماذا يُدرِّسُ الشيخ عبد الحميد هذا الكتاب أو ذاك، لماذا لا يختار ما يتفق مع سياسته في التعليم؟ والجواب أننا ينبغي أن نستحضر الزمان الذي كان فيه الشيخ، فنحن نتكلم عن السنوات العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وسوق الكتب ليس كيومنا هذا، والعناويين المتوفر اليوم هي أضعاف مضاعفة عما كان بين أيديهم وقتها . فالشيخ لم يكن في سَعَة فيما يصطفيه من الكتب أو يَذَرُ . ويا سبحان الله .. هذه الفكرة التي كان يلتزمها الشيخ ابن باديس رأيتُها متجسدة عند بعض علماء الشام المهتمين باللغة العربية، كالشيخ عبد الغني بن علي الدَّقْر، والشيخ محمد بن محمد ديب حمزة، رحمهما الله تعالى . فعندما دَرَسْتُ شرح شذور الذهب أول مرة في دمشق عند الشيخ محمد حمزة رحمه الله تعالى رفقة ثلة من طلاب العلم الجزائريين، وجدتُهُ ـ كشيخِهِ الشيخِ عبد الغني الدقر ـ يُعَيِّنُ فقرات من كلام ابن هشام في شرحه على متنه شذور الذهب مما هو تَعَمُّقٌ في بعض شؤون الإعراب، وإطنابٌ في بعض المسائل، واستطرادٌ في تقاسيم كلمات، وهذا يُشَتِّتُ تركيز الطالب على أصل المسألة؛ وَجَدْتُهم .. اختاروا أن يُنْزِلُوا هذا الكلام والفقرات من المتن إلى الحاشية، ويربطون بين الكلام الأول والآخر، لتتصل الفكرة، مع الإشارة في الحاشية إلى موضع الفقرة المنقولة، وإثباتها في الأسفل بحروفها . وتحقيق الشيخ عبد الغني الدقر لكتاب شرح شذور الذهب ـ مع صنيعه ذاك بالتصرف في نص ابن هشام ـ هو الذي كان متوفرا بين أيدينا عند الدراسة على الشيخ محمد حمزة، فهو مطبوع منذ سنة 1985. وكتاب شيخنا لم يطبع بعد، فكانت له هو أيضا آراء أخرى فيما يُبْقَى وما يُنزل إلى الحاشية . ولا يُخشَى من هذا أن يَضِيعَ نص ابن هشام، فكتابه بترتيبه وجُمَلِهِ مطبوع متوفر، من أوضحه الطبعة التي خدمها الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد رحمه الله تعالى، مع تعليقاته المعهودة، وإعراب الشواهد، وإحالتها على مظانها . بل توجد طبعات عتيقة ممتازة، كطبعة شرح الشذور مع الحاشية المفيدة لمحمد عبادة . وإن كانت سَلبيةُ الاستفصالِ أو إيجابيته خاضعةً لنوعية العلوم، فرُبَّ عِلْمٍ يَحْسُنُ فيه ما يَقْبُحُ في غيره . جَزَى اللهُ خَيرا علماء الأمة الذين اعتنوا بتعليم أبنائها، وكان لهم الحرص كل الحرص في إيصال ما ينفعهم، خالصا من كل ما قد يَشُوبُ استفادتهم، أو يُفْسِدُ تحصيلهم . رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم، وجعل علمهم وتعليمهم صدقة جارية لهم .
بل حتى في يوم الناس هذا تَجِدُ المدرِّس ليس في مندوحة مما يريد تدريسه للطلاب فيما يراه مناسبا لمرحلتهم الابتدائية في علوم الشريعة وعلوم الآلة الضرورية لتكوينهم .
ثم طبع كتابه رحمه الله تَعالى تحت عنوان: "حاشية غاية الأَرَبِ على تهذيب شذور الذهب في معرفة كلام العرب" .
فمسائل الفقه في خصوص عبادة الإنسان اليومية العَيْنِية لا بُدَّ فيها من نوعِ إحاطةٍ، لِمَا يترتب عليها من الصحة والبطلان، ولحوق القضاء ولو بعد آماد .