في ذكرى النجم الذي أضاء ليل الجزائر
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
مرت علينا قبل بضعة أيام الذكرى العشرون بعد المائة على ميلاد رائد النهضة الجزائرية الحديثة، وقائد حركتها الإصلاحية المباركة، العالم المعلم الشيخ عبد الحميد بن باديس –عليه رحمة الله ورضوانه- فعلى الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ4 ديسمبر 1889 م، ازدان فراش محمد المصطفى بن المكي بن باديس الصنهاجي. أحد أعيان عاصمة الشرق الجزائري مدينة قسنطينة، وسليل الأسرة الباديسية الأمازيغية المالكة، بولد مبارك سماه (عبد الحميد)، فكان هو الابن الأكبر والأنجب لهذه العائلة الشريفة الميسورة النافذة، فوالد عبد الحميد كان عضوا في المجلس الجزائري الأعلى، والمجلس العام والمجلس العمالي، وأمه هي السيدة زهيرة بنت محمد ذات النسب العريق التي تنحدر من عائلة بن جلّول المشهورة التي هاجرت في العهد العثماني من جبال الأوراس إلى قسنطينة، ولعبد الحميد ستة إخوة عبدالحميد هم: الزبير المدعو المولود والعربي وسليم وعبد الملك ومحمود وعبد الحق، وأختان هما نفيسة والبتول.
بدا الصبي عبد الحميد تعليمه في الكتاب بقسنطينة، وأتم حفظ كتاب الله تعالى في سن الثالثة عشرة، جذب الأنظار إليه بحسن أخلاقه وشدة ذكائه ،كان من أشهر أساتذته في مرحلته التعليمية المبكرة العالم الجليل الشيخ حمدان الونيسي الذي كان لهم الأثر البالغ في توجيهه بفكره الإصلاحي الرافض لمهادنة المحتل الفرنسي ،ومن أشهر الوصايا التي أسداها هذا المعلم العالم لتلميذه المتميز عبد الحميد: “ادرس العلم للعلم لا للوظيفة”.فكانت هذه النصيحة بمثابة المرشد الذي التزم بالتمسك بها إلى أن توفاه الله تعالى.
انتقل عبد الحميد بن باديس في 1327 هـ– 1908م، إلى جامعة الزيتونة في تونس لمزاولة دراسته العليا وقد تتلمذ فيها على ثلة من خيرة العلماء اللذين كان لهم الأثر الكبير في شخصيته وتوجهاته، مثل: الشيخ محمد النخلي القيرواني ، والشيخ الفقيه المفسر محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ البشير صفر الملقب ب”أبي النهضة التونسية” الثاني.
تخرج ابن باديس من الزيتونة بعد أربع سنوات من التحصيل العلمي بشهادة التطويع (العالمية) سنة1331هـ/1912م ،وعاد إلى الجزائر، وقام بالتدريس لمدة عام في الجامع الكبير الموجود في قسنطينة، وبقرار من الإدارة الفرنسية تم منعه من مواصلة الدروس.
ولعل أهم حدث في المسيرة الإصلاحية لإمام النهضة الجزائرية هو لقاؤه برفيق دربه ومساعده الأقرب ونائبه في رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العلامة فارس البيان العربي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة المنورة، خلال رحلة الحج التي قام بها الشيخ عبد الحميد بن باديس للاراضي المقدسة عام 1332هـ (1913م) ،كان لهذا اللقاء الذي قدّره الله بين الشيخين آثار طيبة في الجزائر وعلى سيرورة نهضتها التعليمية والوطنية، كان الشيخان يجتمعان كل ليلة ـ وعلى مدار الثلاثة أشهر كلها ـ من بعد صلاة العشاء إلى أن يؤذن المؤذن لصلاة الصبح، وهما يتناقشان ويتدارسان أوضاع الجزائر، وما يجب عمله من أجل إصلاحها.
لقد أدرك الإمام ابن باديس حجم التخلف الذي كان يعاني منه الشعب الجزائري، وصعوبة التحديات الواجب رفعها للتصدي إلى مخططات استعمار شامل مصمم على البقاء في الجزائر إلى الأبد يمتلك أقوى الجيوش وأكثر وسائل العلم والثقافة تطورا، فكان الإمام ابن باديس يصل الليل بالنهار في نشاط دائب، وعمل متواصل، يمتد لكل الجبهات: يبدأ يومه بعد صلاة الفجر، ويوزع وقته على التعليم والكتابة والإمامة والخطابة والتنظيم والقيادة إلى ما بعد منتصف الليل. لذلك فإن يوما واحدا في حياة الإمام عبد الحميد بن باديس كان يختزل أعباء ومشاغل أسبوع أو شهر كامل في حياة غيره من الناس، وكان عارفا وراضيا بما نذر له نفسه لخدمة شعبه ووطنه فهو يقول:” إنني لست لنفسي وإنما أنا للأمة”.
وعندما بلغ 24 سنة من عمره الحافل بجلائل الأعمال انتصب للتدريس في قسنطينة بالجامع الأخضر، بعد عودته من الحجاز، فكان ذلك بمثابة الانطلاقة الحقيقية للمشروع النهضوي الكبير الذي وضعه الإمام ابن باديس لتكوين جيل قادر على أن يحرر نفسه من ظلام الجهل، ويحرر وطنه من ظلم وقيد المستعمر.
كانت المؤسسات التعليمية التي أقامها الشيخ ابن باديس بالشرق الجزائري إضافة إلى دار الحديث التي أسسها بمدينة تلمسان بالغرب الجزائري، محاضن الطاقات ومنارات الثقافة الناهضة، وقلاع الجهاد الثقافي في وجه المسخ الفكري واللغوي الفرنسي. وتكميلا للجهد التعليمي وتدعيما له أنشأ الإمام عبد الحميد بن باديس صحافة وطنية متطورة باللغة العربية، وكان قد ساهم في سنة 1919 في تأسيس جريدة “النجاح” التي تعتبر من الصحف الرائدة في مجال الإصلاح مع الشيخ عبد الحفيظ الهاشمي، وكان يوقع مقالاته فيها باسم القسنطيني أو العبسي، وكان من كتابها الشيخ أحمد بوشمال، والشيخ مبارك الميلي العلامة المصلح رائد التأليف التاريخي الجزائري في العصر الحديث. ولكن جريدة “النجاح” وتحت ضغوط المستعمر وتهديداته المتواصلة انحرفت وارتمت في أحضان المستعمر الفرنسي، فغادرها ابن باديس وصحبه (بوشمال والميلي) وتولى الإمام ابن باديس تأسيس جريدة “المنتقد” في سنة 1925 وكان شعارها:” الحق فوق كل أحد، والوطن للجميع” وكانت هذه الجريدة الجريئة بلهجتها ومواضيعها ثورة عارمة على الاستعمار وانحرافات الطرقية فلم تعمر طويلا وصادرتها السلطات الاستعمارية بعد صدور 18 عددا منها. وبعدها أي في سنة 1926 أصدر ابن باديس أسبوعية “الشهاب” ثم تحولت في سنة 1929 إلى مجلة شهرية واستمرت الشهاب في الصدور إلى سنة 1939 حيث أوقفها الإمام ابن باديس عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية لأنه رفض أن تكون أداة في يد الإدارة الفرنسية التي وضعت الصحف تحت إشرافها المباشر بموجب قوانين الحرب، وقد كان لهذه الصحيفة دور كبير في ترسيخ ونشر الفكر الإصلاحي والدفاع عن القضية الوطنية بأسلوب يجمع بين مرونة الطرح وصلابة المبدأ.
وعندما تأسس نادي الترقي بالعاصمة في سنة 1927 كان ابن باديس من بين أشهر الخطباء وألمع العلماء الذين صنعوا مجد هذا النادي الذي لعب دورا في غاية الأهمية في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية للجزائر المعاصرة، ويكفيه شرفا أنه احتضن ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 ماي 1931م. وعندما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تر النخبة المثقفة والصفوة العلمائية آنذاك من هو أجد وأقدر على تولي القيادة وتسلم رئاسة هذه الجمعية من إمام الجزائر وعالمها الرباني وفقيهها المجتهد الشيخ عبد الحميد بن باديس، فتم انتخابه رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين رغم غيابه عن حضور المؤتمر التأسيسي.
وقد عرف الإمام ابن باديس بمواقفه الحاسمة في وطنيتها المعتزة بإسلامها، فقد طلب من سكان قسنطينة في سنة 1937 عدم المشاركة في احتفالات الذكرى المئوية التي نظمها المستعمر الفرنسي بمناسبة احتلال قسنطينة، ونظم في نفس السنة أي في ليلة المولد النبوي من سنة 1937م نشيده الخالد:
“شعب الجزائر مسلم
وإلى العروبة ينتسب”
ورفض عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية كتابة برقية مساندة لفرنسا ضد عدوتها ألمانيا. وأصدر فتاوى تكفر المسلم الجزائري الذي يتجنس بالجنسية الفرنسية، وفتوى تحرم زواج الجزائري بالفرنسية، وفتوى تقول بعدم جواز الصلاة ودفن ابن المتجنس الذي يرضى بصنيع والده ولا ينكره في مقابر المسلمين. كما ساهم ابن باديس في إنشاء الفرق الكشفية والمسرحية والرياضية لتحقيق نهضة شاملة خاصة في أوساط الشباب الذين يعقد عليهم الرجاء لتحرير الوطن.
لقد التحق الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ بجوار ربه في ليلة الثلاثاء الثامن من ربيع الأول سنة 1359 هـ الموافق لـ 16 أبريل 1940 م هو في أوج العطاء العلمي- فقد كان النجم الذي سطع في ليل الجزائر الحالك، فبدد ظلمات الجهل، وصقل وعي الشعب الجزائري، لكسر قيد الاستعمار والظلم، و أرسى دعائم حركة إصلاحية متينة ومحترمة في الجزائر وفي العالم الإسلامي قاطبة.
لقد أكرم الله تعالى عبده الصالح عبد الحميد بن باديس بتحقيق رجائه في استقلال الجزائر وأصبح تاريخ رحيله (16 أفريل) يوما وطنيا لذكرى العلم عند كل الجزائريين.