موقفنا من الطرقية وصحفها
بقلم: محمد البشير الإبراهيمي –
أما الطرقية فقد فرغنا منها هدمًا وتخريبًا، واقتحمنا عليها معاقلها الحصينة، ودككنا صياصيها المنيعة، واستبحنا حماها بكلمة الله، واقمنا على أنقاضها بناء الحق. بدأنا ذلك كله بإزالة هيبتها الباطلة من الصدور، ومحو سلطتها الكاذبة من النفوس، ثم كشفنا عن نسبتها المزورة إلى الدين الحنيف. فما تمّ لنا ذلك حتى انهارت من أساسها، وتلك عاقبة كل بناء بُني على الوهم والتزوير. وقد أحيانا الله حتى شهدنا جنازتها بلا ردة، وهلنا عليها التراب بأيدينا غير آسفين.
فمن كان يؤرخ للطرقية بهذا الوطن ولاشتدادها فيه وامتدادها منه فليحبس قلمه، فهذه آخر صحيفة من كتابها، وليختمه بتسجيل سنة الوفاة، بإقحام سطر: ماتت:- لا رحمها الله- بين سنة كذا وكذا ...
هذه هي الحقيقة العارية والواقع المجرد، وإِنْ هذه الفورات من أبنائها وأحفادها ومواليها ورعاياها إلا مناحات معقودة عليها، وإن سَمُّوها جمعيات ومؤتمرات وما سوّل لهم الغرور من الأسماء.
وما هذه الأصوات المرجوعة منهم، وما هذه الزمزمة الصحفية إلا ترتيل العميان الموظفين على قبرها (يفدونها) فدية الثأر لا فدية النار، ويبكونها ميتة وهم يظنون أنهم ينصرونها حيّة.
ماتت الطرقية وانقطعت أنفاسها، وجاءها قضاء الله الذي فرقت دينه وهوّنت حقّه، ونازعته في جبروته، وصرفت أوباشها في ملكوته، فلم يدفعه عنها دافع ولم يصرفه عنها أعلامها المنشورة ولا بناديرها.
ومن كان في مرية من موتها فآية الآيات اجتماع أبنائها، فوالله ما اجتمعوا وهي حيّة، وما كان من طبع أمهم العجوز أن تترك أولادها يجتمعون، وما اجتمعوا إلا بعد خمود أنفاسها.
ولقد كانوا في حياتها مفترقين متنابذين متنابزين، يحمل بعضهم لبعض من الحقد الشنيع ما يحمله العدو لعدوّه، ولما طفقت ألسن الحق تنوشها، وَجموا لأول مرّة ثم علموا أنها القاضية، وأن القضاء عليها قضاء على ما يتمتعون به من مال وسلطان، فتنادوا مصبحين وتناشدوا الرحم أن يتهادنوا حتى يأخذوا بثأر العجوز فيا ويحهم: إن قتيل الشرع لا يودى.
أعرضنا عن هذا الهذر الذي تنضح به الصحف الطرقية والصحف التابعة لها حقبة من الزمن، احتقارًا لها وترفعًا بأنفسنا عن النزول إلى ميدان المهاترة التي لم نخلق لها والتي هي خلق ذاتي فيهم ووصف لازم لهم.
أعرضنا عن مجاراة تلك الصحف في السباب والشتائم التي تسوّد بها صحائفها كل أسبوع حرصا على أوقاتنا أن تضيع فيما لا عائدة منه، وعلمًا بأن هؤلاء القوم لم يخرجوا عن مدارهم، فيوم كان حماة هذا الدين غائبين عن الميدان كانوا هم ممعنين في إفساده وتشويهه وإذلال أهله واستغلال قواهم، ولوم هبّ الحماة ذائدين عنه ودَوَتْ صيحة الحق قاموا هُمْ يدحضون الحق بالباطل، ولقابلون الصدق بالبهت والإفك، ولحاربون أولئك الحماة بالتقول عليهم والنيل من أعراضهم، وهم في الحالين حرب على الإسلام الحق، وإنهما طوران في إفساد الإسلام يختلفان في الوسائل ويجتمعان في الغايات.
أعرضنا عن تلك الصحف وأصحابها، حرصًا على الواجبات التي خلقنا لها، وعلى الأعمال التي تتقاضاها تلك الواجبات منا- وما هي بالقليلة- أن يزاحمها عامل غريب ويأكل من الوقت ومن الجهد ما هما خليقان به، وكل دقيقة يصرفها العاقل في مجاراة هؤلاء النابحين هي مقتطعة من العمر قاطعة عن العمل.
وماذا يقول العقلاء فيمن نبحته الكلاب جريًا على عادتها، ونزوعًا إلى طبيعتها، فقطع وقته في مجاراتها ومكايدتها كما يكايد العاقل العاقل؟ لا شكّ أنهم يقولون إن عقله كعقول الكلاب.
كل هذه المعاني كانت هي الحاملة لنا على الإعراض عن هذه الصحف وأصحابها والمرور بلَغْوِها مرّ الكرام، وكنا نظن أن في أصحابها بقية من عقل وفضلة من صواب تردّهم إلى الجادّة بعد ما ينتهي الطامع منهم إلى أو إلى اليأس من مناه، وبعد ما تبرد حرارة الحاسد منهم وتخمد شرته، وتنطفئ سورة غلّه، وما جميعهم في نظرنا إلا حاقد أو طامع، ولكن القوم أسرفوا في البغي ولجّوا في الاستهتار، وخرجوا من أفانين من الكذب والافتراء إلى أفانين ... ، ومتى كان مبنى أمرهم على الكذب فلتهأنهم بُعد الشقّة وطول السفر وامتداد المراحل، فإن الكذب لما تنضب موارده. فما ظن هؤلاء- ويحهم- بنا؟
أيظنون أننا أحجمنا عن منازلتهم عن ضعف وخور؟ ألا ساء ما يظنون. إن الأقلام التي جندلتهم بالأمس، ومزّقت أشلاءهم، وتركت بكل رابية صريعًا، لم تزل مسنونة، ولم تزل مسددّة كالسهام، مشرعة الرماح، وما هي من الظالمين ببعيد.
أم يظنون أننا مرضنا بالنعيم، وأقعدَنا الرخاء عن الصدام، ساء مآلهم، إن العزائم التي حاربناهم بها يوم كانوا أقوياء لم تزل راسخةً رسوخ الرواسي.
أم يحسبون أن الخلاف دبّ بيننا، فأضعف القوة التي يعرفونها منا، خدعة من أماني الشيطان زوّرها لهم كتّابهم المرجفون، فصوّروها كما يتمنون ليخفّفوا نار الحسد التي تأكل صدورهم.
أما نحن والحمد لله فعلى ما يتمناه المؤمن الصادق إلفة واتحادًا، ومحال أن يبلغ الشيطان أمنيته من جماعة جمع بينها المبدأ الصحيح، والرأي الصريح، وألّف بينها العمل والأمل.
* مسوّدة مقال وجدت في أوراق الشيخ ويرجع تاريخها إلى سنة 1939 أو 1940.