يوميات تلميذ في معهد ابن باديس 4
بقلم: أ. د. نورة بوحناش-
أيام لابد أن تروى
انتهى درس الفقه على الساعة التاسعة والنصف، بقي الجميع في القسم فالفناء لم يكن للاستراحة واللعب كما هو حاله في المدارس الحديثة، بل هو مكان للعبور فقط. بعد مرور ثوان دخل الأستاذ المخصص لتدريس العربية، إنه الأستاذ محمد الميلي وهو شاب يافع، والده الشيخ مبارك كان عضوا فعالا في الجمعية، جلس على مكتبه، وحل محل الشيخ حماني وبدأ درس العربية. كان درسا ممتعا وعميقا، بدأنا نتعلم بجد أصول الإنشاء، ثم عرج الأستاذ إلى درس النحو والصرف، قربت الساعة إلى الحادية عشر، جمع الجميع أدواتهم في المحافظ التي حظوا بها بدل الكيس، بعدما أصبحوا تلاميذ كبارا في معهد ابن باديس، خرجوا من الأقسام ثم من المعهد، ليعودوا إليه على الساعة الثانية عشر.
اتجه سي عمرو ورفقته إلى الغرفة في رحبة الصوف، وقد أضناهم الجوع، دخلوا الغرفة عبر المقهى، وصعدوا في السلم إلى الطابق الأول، وأنغام عيسى جرموني تملأ المكان، وقرع طقطقات الدومينو تسايرها، وجلساء المقهى يقصرون الوقت لأنه ضائع بالنسبة لهم. ها هي الغرفة، أوقد أحد الفتية البابور، وطبخ الكسكس المعتاد، أكل الجميع بسرعة،ثم عادوا أدراجهم إلى المعهد، فالدروس تبدأ على الساعة الثانية عشر وتنتهي على الساعة الخامسة مساء. هي دروس متنوعة تخلو من العلوم الحديثة، ولكنها تركز على علوم تذكر باختلاف الذات الجزائرية عن الذات الفرنسية، وتشير إلى ضرورة تمفصل الجزائري عن الفرنسي، وتحدد ضرورة الانفصال عن فرنسا على الرغم من أن مشروع الجمعية لم يكن مشروعا سياسيا.
في الأيام التي تلت تعرف التلاميذ على شيوخ وأساتذة آخرين، ومنهم الأستاذ عبد الرحمن شيبان، والأستاذ عبد القادر الياجوري، ولقد حرص هؤلاء على تدريسهم برنامجا تربويا محددا، وبذلوا جهودا جبارة لإعادة إحياء التاريخ الجزائري دون تدريسه، فالجزائر فرنسية، ومادة التاريخ غير مسموح بها، لكن المواد التي كانت تدرس كافية لفهم التاريخ. أما مدير المعهد فقد كان الشيخ العربي التبسي، وكاتبه هو الأديب رضا حوحو.
3- برنامج الدراسة في معهد ابن باديس: ينقسم العام الدراسي في المعهد إلى ثلاثيات، ينتهي الثلاثي الأول عند مناسبة المولد النبوي الشريف، حيث يسافر التلاميذ إلى قراهم ومدنهم، للمكوث لأيام، ثم يعودون بعد ذلك للدراسة إلى حين حلول يوم 16 أفريل وهو يوم وفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وفي هذا اليوم تنطلق عطلة الربيع وينتهي السداسي الثاني. في الربط بين المولد النبوي الشريف ووفاة العلامة الجليل ابن باديس يتحول الزمان إلى زمان مختلف عن الزمان الفرنسي، ويدخل الجميع في تاريخ مختلف، فالأعياد تذكر بالتاريخ الذي من الواجب الدفاع عنه واسترجعه. أما الثلاثي الأخير فيمتد من نهاية عطلة الربيع إلى شهر جويلية حيث يجتاز الجميع الاختبارات في يوم واحد لينجح من نجح ويرسب من رسب، ويعيد السنة يتذكر سي عمرو التلميذ في معهد ابن باديس نتيجة اختبار السنة الأولى حيث تفوق على أقرانه حصل على إجادة تامة وأثنى عليه الشيخ العربي التبسي. قال قال لي الشيخ العربي التبسي، وهو يمنحني شهادة تدل على نجاحي أن والدك يعول عليك فأنت تلميذ جاد واصل ذلك، أتمنى أن تلتحق بالزيتونة يوما ما، لكن هذه الأمنية لم تتحقق، بسبب الفقر واندلاع الثورة، لكن كان لسي عمرو دور آخر في الثورة دور القيادي رائد، فهو من أنزل علم فرنسا من أمام مبنى الحاكم في مدينة ميلة، بحضور السلطات الفرنسية، ثم رفع العلم الجزائري، بعد ذلك ولا يزال إلى اليوم يتذكر هذه اللحظة التاريخية، لكنه سيعزل نفسه عن الصراعات السياسية التي نشبت بعد ذلك، فهو مجاهد مخلص، ومثل هذه الصراعات تفسد مبادئها التي ناضل من أجلها.
ما هو البرنامج الدراسي المخصص للدرس في المعهد؟ كان البرنامج تكملة للبرنامج الذي قدم للتلاميذ في مدارس الجمعية عبر أنحاء الجزائر، فهناك تواصل بين المواد المدرسة بين هذه المدارس والمعهد. كانت دروس الفقه دروسا مركزية في البرنامج يقول سي عمرو أننا كنا نقرؤها في السنة الأولى من كتاب ابن عاشر، ولكننا في السنوات التي تلت توسعنا في دراسة الفقه فدرسنا رسالة أبي زيد القيرواني، وتداول الأساتذة والشيوخ على تدريسنا مادة الفقه لأربعة سنوات، أما المادة الثانية فهي العربية بعلومها، النحو والصرف، الإنشاء والإملاء، وأهم الكتب المدرسة هو كتاب قطر الندى وبل الصدى ومن بين المواد التي كنا نأخذها تجويد القرآن على القراءات، ثم المحفوظات الأناشيد الحساب والجغرافيا التي كنا ندرسها من كتاب أحمد توفيق المدني، أما التاريخ فهو مادة محذوفة من البرنامج، ويذكر سي عمرو أن التاريخ الوحيد الذي كنا ندرسه هو تاريخ الفتح الإسلامي لكن دون ذكر الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، حتى يتراكم الغبار على ذكرى التاريخ الجزائري العربي الإسلامي.
أما الكتب التي تم الاعتماد عليها، فهي متوفرة كان التلاميذ يشترونها من مكتبة بمحاذاة المعهد، وهي كتب مطبوعة في تونس، مصر ولبنان، كانت مسموحة من قبل الاستعمار الفرنسي، أما صاحب المكتبة فرجل وطني، التحق بعد ذلك بالثورة واستشهد، إذ حرص على اقتناء كتب العربية، وكتب التراث الإسلامي، وتعريفها للتلاميذ. عمل الموريسكي الجزائري على المحافظة على أصله كما عمل الموريسكي الأندلسي، فقد كان يسبح في النهر، ونيته هو الوضوء، كان يصلي غصبا عنه في الكنيسة، ولكنه كان يتصور نفسه مقابلا للقبلة. كذلك الجزائري قاوم مقاومة صامتة وصاخبة، ومن يظن في كل زمان أن الجزائري قد يحيد عن أصله فقد كذب.
مرت السنة الدراسية سريعة، حفلت بأحداث الحياة اليومية، تردد فيها التلاميذ على دروس ألقاها أساتذة زيتونيون تميزوا بالجد، الإخلاص وحب الوطن، على الرغم من أنهم لم يتحدثوا يوما في السياسية، لكن تعريف هؤلاء الشباب الهوية وتاريخ الذات عبر الرموز الثقافية، يعني فسحة للتمفصل عن تاريخ فرنسا في تلك الأثناء كان عمل الحركة الوطنية متخفيا، ولكن الفتية الصغار بدؤوا يسمعون همسا عن نضال حزب الشعب الجزائري، ففهموا أن هناك حركة بدأت تستجمع نفسها إيذانا بالثورة المظفرة؟
انتهت السنة الدراسة وحل اليوم الأخير في مدينة قسنطينة، أعاد التلاميذ الغرفة إلى صاحبها، وعادوا إلى قريتهم فرحين بالنجاح في السنة الأولى من دراستهم في معهد ابن باديس، ولكنهم خبأوا أمتعتهم البسيطة عند صاحب الدار من أجل العودة في السنة الدراسية التالية، وحملوا ثيابهم وركبوا في حافلة ميلة الواقفة في روت بيان فيRoute bien fait ، وصلت الحافلة بعد الظهر، فنزلوا في وسط مدينة ميلة، وترجلوا بعد ذلك مسافة عشرين كيلومترا إلى أن وصلوا القرية، فوجدوا الحياة كما تركوها قبل شهرين ونصف، كان الجميع في أنظارهم، فرحوا كثيرا بلقائهم في تلك الليلة أمرت الأم الحنون بذبح ديك للعشاء وقامت بطبخه مع الكسكس وتناول الجميع العشاء وناموا كما كانوا يفعلون دائما، إنها نهاية السنة الدراسية 1952 /1953، لقد اقتربت الثورة، وكان العمل دؤوبا في الخفاء لتهيئة الظروف لانطلاقها.