المرأة والإصلاح في فكر ابن باديس
بقلم: د. علي الصلابي-
أدرك ابن باديس رحمه الله أن المجتمع لا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام وشطره يقبع في ظلمات الجهل، كما أدرك أن التعليم سيؤدي إلى تكوين جيل لا ينتمي إلى الجزائر وفكرها وعقيدتها، وقد كتب ابن باديس كثيراً عن المرأة، ولعلنا نقتطف بعضاً مما كتبه في هذا المجال حيث كتب في أحد مقالاته مؤكداً: أن البيت هو المدرسة الأولى، والمصنع الأصلي لتكوين الرجال، وتديُّن الأم هو أساس حفظ الدين والخلق، والضعف الذي نجده من ناحيتها من رجالنا معظمه نشأ من عدم التربية الإسلامية في البيوت وقلة تدينهنَّ. ويقول في مناسبة أخرى: لماذا تعاقب المرأة بعلمها؟ هل هو وِرْدُ صفاء للرجال ومنهل كدر للنساء؟ هل له تأثير حسن على فكر الذكور قبيح على فكر الإناث؟
أما الخطوات العملية التي اتخذها ابن باديس في هذا السبيل فإنه لما تأسست جمعية التربية والتعليم حرص رحمه الله أن يتضمن قانونها الأساسي أن يكون تعليم البنات مجاناً سواء كن قادرات على دفع مصاريفه أم عاجزات عن دفعها، وذلك تشجيعاً لهنَّ على الإقبال على الدراسة.
وزيادة على هذا فإنه كان يتصل شخصياً بالمواطنين يحثهم على إرسال بناتهم إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم، وكان يفعل ذلك أثناء جولاته في أنحاء القطر ويطلب من زملائه العلماء الدعوة إلى تعليم المرأة.
ولم يكن كافياً أن تتعلم الفتيات الصغيرات، فقد خصَّصَ دروساً للنساء في المسجد الأخضر، وغيره من مساجد قسنطينة، وكنَّ يحضرن بأعداد كبيرة حتى ضاقت عليهنَّ جنبات المسجد المخصصة للنساء.
ولنا أن نتساءل لماذا كل هذا الاهتمام بتعليم المرأة؟
إن داعية كإبن باديس لم يكن ليخفي ما يدبر للمرأة المسلمة خُفية وعلانية، ولم يكن منعزلاً بعيداً عن ساحة المجتمع، فكما كان بعض الجاهلين بالإسلام يحرصون على إبقاء المرأة جاهلة، كان في الطرف الاخر من يدعوها إلى الخروج غير المنضبط، بل وتلقِّي العلوم الغربية، فقد أدركت الدراسات الاستشراقية التنصيرية والاستعمارية ما يمكن أن يؤديه تعليم المرأة تعليماً غربياً من تحولات اجتماعية نحو التغريب، فما إن صدر كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» حتى صفَّقوا له وهلَّلوا. وكانوا يدركون أن التخريب يكون أبلغ إذا كان من الداخل، فقد ذكرت الوثائق الفرنسية، أهمية كتاب طاهر الحداد «امرأتنا أمام الشريعة والمجتمع» الذي نادى فيه بأن الشريعة الإسلامية لم تكتمل في عهد صاحب الرسالة (ص)، وأن المجال مفتوح لمزيد من التشريعات بخصوص المرأة، بإعطائها مزيداً من الحقوق، وبمعنى أدق تقليد المرأة الغربية.
وانطلقت بعد ذلك الصحف الفرنسية تدعو إلى تعليم المرأة الجزائرية التعليم الغربي، ومن ذلك ما كتبته صحيفة صدى تلمسان في إجابة للمحرر عن تعليم المرأة الجزائرية بقوله: نعم ويكون أجدى إذا كان باللسان الفرنسي، فجاء ردَّ ابن باديس عليه: نعلم ونجزم أن تعليم المرأة إذا لم يكن بلسان قومها ـ بلغت من درجات العلم ما بلغت ـ يكاد يضلُّها عن الطريق المستقيم.
وقد تقدم ابن باديس خطوة رائدة في تعليم المرأة، حيث إنه بعد أن أنهت بعض التلميذات دراستهنَّ في مدرسة جمعية التربية والتعليم القسنطينية فكَّر في إرسالهنَّ إلى مدرسة جمعية دوحة الأدب السورية، وبعث رسالة بهذا الخصوص إلى رئيسة هذه الجمعية جاء فيها:
يسرُّك يا سيدتي أن تعرفين «تعرفي» أن بالجزائر نهضة أدبية تهذيبية تستمد حياتها من العروبة والإسلام، غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي، ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عنها مجلة الرابطة العربية، رغبت أن نرسل بعض البنات ليتعلمن في مدرسة الجمعية، فهي ترغب في حضرتكم أن تعرفوها بالسبل إلى ذلك.
فالمرأة عند ابن باديس: خلقت لحفظ النسل وتربية الإنسان في أضعف أطواره {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف : 15].
فهي ربة البيت وراعيته والمضطرة بمقتضى هذه الخلقة للقيام به، فعلينا أن نعلمها كل ما تحتاج إليه للقيام بوظيفتها، ونربيها على الأخلاق السوية التي تكون بها المرأة امرأة لا نصف رجل ونصف امرأة.
والمرأة الجزائرية كونها مسلمة: فعلينا أن نعلمها ما تكون به مسلمة ونعرفها عن طريق الدين ما لها وما عليها، ونفقِّهها في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *} [الأحزاب : 35].
والمرأة المسلمة كونها جزائرية فيقول ابن باديس بأنها:
بدينها، ولغتها، وقوميتها. فعلينا أن نعرِّفها حقائق ذلك لتلد أولاداً منا ولنا يحفظون أمانة الأجيال الماضية للأجيال الاتية، ولا ينكرون أصلهم، وإن أنكرهم العالم بأسره، ولا يتنكرون لأمتهم ولو تنكر الناس أجمعون.
والطريق الموصل إلى هذه الأهداف: هو التعليم: تعليم البنات تعليماً يناسب خلقتهنَّ ودينهنَّ وقوميتهنَّ.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)