الحركة الإصلاحية الجزائرية: تجربة عربية مغمورة
بقلم: د. نور الدين ثنيو-
اقترنت الحركة الإصلاحية الجزائرية بالنشاط الديني والتربوي والتهذيبي، الذي اضطلعت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ عام 1931، تاريخ تأسيسها. وجمعية العلماء، ليست كسائر الجمعيات، فهي أقرب إلى المؤسسة العمومية التي استفادت منها كل فئات المجتمع الجزائري وفي كافة مناطقه، الحضرية والريفية. إن لحظة تأسيس جمعية العلماء، هي بداية العمل الإصلاحي الجماعي ضمن مؤسسة اجتماعية ومدنية، بعدما كان الإصلاح في السابق يتم على صعيد الأفراد فقط.
جاء في المادة الرابعة من قانونها الأساسي: «إن القصد من هذه الجمعية هو محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والجهل، وكل ما يحرّمه صريح الشَّرع وتحجره القوانين الجاري بها العمل». وحتى تؤكد طابعها الاجتماعي في تعبيره الديني واللغوي، أوردت في مادتها الثالثة: «لا يسوّغ لهذه الجمعية، بأي حال من الأحوال، أن تخوض أو تتدخل في المسائل السياسية»، توضيحا منها أن الجمعية ملتزمة بالنشاط الإصلاحي الذي لا يخالطه أي عمل سياسي، وأنها مكتفية بتهذيب الأمة وترقيتها المادية والمعنوية.
ولعلّ ما جاء في التقرير العلمي للشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ما يحدد طبيعة وخصائص النشاط الإصلاحي، الذي قصدته جمعية العلماء بأنها: «جمعية علمية دينية تهذيبية، فهي بالصفة الأولى تعلّم وتدعو إلى العلم وترغّب فيه وترغّب على تمكينه في النفوس، بوسائل علنية واضحة لا تتستر. وهي بالصفة الثانية تعلّم الدين والعربية لأنهما شيئان متلازمان وتدعو إليهما وترغّب فيهما. وتنحو في الدين منحاها الخصوصي وهو الرجوع به إلى نقاوته الأولى، وسماحته في عقائده وعباداته، لأن هذا هو معنى الإصلاح الذي تأسست لأجله ووقفت نفسها عليه. وبمقتضى الصفة الثالثة، تدعو إلى مكارم الأخلاق التي حض الدين والعقل عليها لأنها من كمالها، وتحارب الرذائل الاجتماعية التي قبّح الدين اقترافها وذمّ مقترفيها، وسلكت في هذه الطريق أيضا الجادة الواضحة».
كان المؤتمر الذي عقدته جمعية العلماء عام 1935، منعطفا رسخت به التجربة الإصلاحية في الجزائر، وأنها أفضل سبيل إلى ترقية الإنسان الجزائري. فقد أتى المجتمعون، خاصة منهم أعضاء المجلس الإداري على كل الرصيد المتوفر للجمعية طوال خمس سنوات من التربية والتعليم والعمل التهذيبي والأخلاقي، من أجل محاربة الآفات الاجتماعية، والحد من غلواء وتجاوزات السلطة الاستعمارية. ولعلّ الشاهد القوي على مكانة هذا المؤتمر، المقدمة التاريخية والعلمية التي أفاض فيها نائب رئيس الجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي، في ذكر بالبيان والبرهان، قيمة وأهمية الحركة الإصلاحية والتجاوب الطبيعي بينها وبين المسلمين الجزائريين. ومما جاء في خطابه: «فقد ضم هذا المؤتمر بين حناياه أبناء المدن والقرى والخيام، وجمع أبناء السواحل بأبناء الصحارى، سكان الشرق بسكان الغرب».
أكد الإبراهيمي التوجه الوطني للحركة الإصلاحية، وأنها خطاب يتجاوز النظم الطرقية، إن جمعية العلماء جمعية علمية تهذيبية أخلاقية، تساير العصر ولا تتنكر لحقائقه، رائدها الأساسي وحدة الأمة. كما أن طريقة عرض مداولات المؤتمر تمت على النمط المعهود في اجتماعات المؤسسات ذات الاعتماد القانوني، الأمر الذي رشحها إلى مواصلة نشاطها الإصلاحي باقتدار كبير وتجربة تراكم تاريخها الخاص.
قدم أعضاء المجلس الإداري، حصيلة التقرير الأدبي من طرف الشيخ عبد الحميد بن باديس، والتقرير المالي، الشيخ العربي التبسي. وباقتراح من رئيس الجمعية، توزعت نقاط التقرير الأدبي على النحو التالي :
1 ـ الأمية وآثارها وطرق مقاومتها.
2 ـ التعليم بقسميه المسجدي والمكتبي، وشرح أحواله وعوارضه التي هو عليها الآن، وكيف ينبغي أن يكون.
3 ـ الإسراف المالي ومظاهره من الولائم والمآتم.
4 ـ الوعظ والإرشاد والطرق التي ينبغي أن يؤدّى بها.
جمعية العلماء المسلمين حركة إصلاحية دينية، وسيلتها إلى الإصلاح العام: التربية والتعليم. فقد سعت منذ نشأتها إلى تعميم نشاطها إلى كافة شرائح المجتمع الجزائري في مختلف مناطقه. كما أن مجلسها الإداري اتسع إلى كل رجال الإصلاح في الجزائر انتفت فيه أي نزعة جهوية أو مذهبية. فقد اتسع جوف الجمعية إلى كل معتنقي الفكرة الإصلاحية، ولعلّ أولى خصائص الحركة الإصلاحية هو توجهها العام الذي يرمي إلى تربية وتعليم العوام، وفتح التمثيل والإشراف والتأطير إلى كل ما آنس في نفسه القدرة على النشاط الإصلاحي.
والحقيقة أن دراسة تراث الحركة الإصلاحية الجزائرية في إطار جهدها الجماعي المؤسساتي (1931 ـ 1956)، يظهر من جملة ما يظهر طابعها العمومي الذي أوصلها إلى المجال السياسي، عندما يعني التأثير في قطاع واسع من الأهالي، بقصد تعديل مركزهم الاجتماعي والقانوني ليرتقي إلى مصاف مواطنين يتمتعون بالحقوق السياسية والحريات العامة. فقد صار لجمعية العلماء أنصار ومؤيدون، كما أنها أقحمت نفسها في تأييد شخصيات وأحزاب سياسية، بمناسبة انتخابات الهيئات التمثيلية، وكذا المشاركة في بعض التجمعات السياسية، مثل المؤتمر الإسلامي، يونيو 1936، أحباب البيان والحرية 1943، المشاركة كطرف أصيل في المشاورات مع الجبهة الوطنية لتحرير فرنسا، من أجل إصلاح الأوضاع في الجزائر، ديسمبر 1943… تقديم مقترحات حول المسألة الدينية إلى الجمعية الجزائرية بعد تأسيسها عام 1947.
خاضت جمعية العلماء مشروعها الإصلاحي في مدلوله العام، الذي يطال ليس الدين واللغة فحسب، بل كافة القضايا الاجتماعية التي أفرزتها الحياة المدنية الحديثة، إصلاحا يمتد إلى تغيير حياة الإنسان الجزائري من كونه أهليا إلى مواطن حر في وطنه الجزائر، وهذا ما يستشف من التعديلات المتتالية للقانون الأساسي لجمعية العلماء. وفي التعديل الأخير الذي أدخلته على قانونها الأساسي، رسمت الجمعية أهدافها ووسائل تحقيقها على النحو التالي: «القصد من هذه الجمعية هو نشر الدين الإسلامي على وجهه الصحيح، البعيد عن كل بدعة، ومحاربة كل ما يحرّمه صريح الشّرع، كالخمر والميسر والآفات الاجتماعية الأخرى، ومحاربة الجهل والبطالة والإسراف، وكل منهي عنه بطبيعته من الدين والأخلاق الفاضلة. ولتصل الجمعية إلى أهدافها النبيلة، تعمد إلى اتخاذ الوسائل الآتية: إلقاء محاضرات تهذيبة للرجال والنساء، إلقاء محاضرات دينية في المساجد للجنسين، نشر الجرائد والمجلات، تأسيس نوادٍ لتثقيف الشبان بواسطة الدروس والمحاضرات، تأسيس مدارس لأبناء المسلمين يتعلمون فيها لغتهم العربية التي هي لسان دينهم، والقراءة والكتابة وأصول الدين وأصول التربية. وتكون هذه المدارس بإشراف الجمعية ومسؤوليتها: نظام المدارس التابعة لها ونوع التعليم والشهادات، كما هو مبيّن في اللائحة الداخلية للجمعية». واضحة شمولية النشاط الإصلاحي لكافة مجالات حياة المسلم والمسلمة، وإذا أضيف له السياق الاستعماري الذي يجري فيه ذلك النشاط، أضحى الأمر كله عملا سياسيا لكونه يرمي إلى بناء هوية عربية وإسلامية تختلف عن الحالة الفرنسية القائمة في الجزائر. فمن طبيعة الوضعية الاستعمارية أن تحَوّل نشاط الأهالي إلى عمل سياسي بوعي أو بدونه، ولعلّ قوة نشاط جمعية العلماء هو الذي حدا بالإدارة الفرنسية إلى التعامل مع رجال الإصلاح كحزب سياسي في الجزائر، والجمعية هي دائما الوحيدة من دون سائر الجمعيات التي يرصد نشاطها في الفصل الخاص بالأحزاب السياسية الجزائرية عندما ترفع التقارير إلى المصالح الإدارية والعسكرية.
٭ كاتب وباحث جزائري