السَّاعَةُ..
بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-
إن الثمار الطيبة تحتاج إلى وقت لتضج، والزرع النافع يستغرق وقتا ليُفْرَكَ، وربما تمر عليه الفصول المتناقضة من قَرٍّ وحَرٍّ، وقيض ومطر، وجفاف ورطوبة..
كل هذه التقلبات ليقوى عودُه، ويستوي على سوقه، ويزهي ويحلو ..
وسير الأمم والشعوب وتطورها قد يحتاج في دورته إلى مثل دورة النبات..
فكيف إذا تعرض شعب للمسخ وسُلطت عليه شتى أنواع التفريغ، ومورست عليه سياسات ماكرة، وخطط جهنمية، ودسائس مسمومة..
ومن أبرز شواهد ذلك شعبنا وبلادنا الجزائر .. هذا البلد الذي ابتلي باستعمار وحشيٍّ.. مجرمٍ، أخرج كل ما لديه من خُبث ودهاء وخبرة لتكريس ثالوثِ قتلِ الأمم وإبادةِ الشعوب..، وهو: الجهلُ .. والفقرُ.. والمرضُ.. مع سياسات أخرى لا تقل في فتكها عن ثالوث الموت ..
وإن الثلة التي قادت الثورة الجزائرية المظفرة كانت على وعي بذلك، وتقدر لتلك المخاطر قدرها، وتدرك بعمق طبيعة تغيير المجتمعات، وعلى فهمٍ ناضج بما تحتاجه عملية استرداد ثقافتنا، والمعركة المحتدمة التي تنجم عن استرجاع الذات، وترميم المقومات الشخصية، وتنظيف الهوية مما سَخَّمَ الاستعمار به وجهها ..
سمعت من سيدي الشيخ محمد الصالح الصديق حفظه الله تعالى قصة عميقة الغور في مدلولاتها مما هذه المقالة بصدد معالجته.. وهي قصة ذكرها في العديد من المناسبات، كما نشرها في بعض تأليفاته..
والحادثة تعود أيام إقامته بجارتنا تونس، حينما كان ملاحقا من الاستدمار الفرنسي في سنوات ثورتنا..
كما أنها تُجلي طبيعة علاقته بالعقيد الشهيد عميروش آيت حمودة أسد جرجرة، رحمه الله تعالى، وأحد القادة التاريخيين لثورتنا .
قال حفظه الله تعالى: توثقت العلاقة بينا مدة إقامته بتونس، التي استمرت أربعة أشهر، ولم نكن نفترق إلا عند شدة اشتغاله بأعمال ثورية .. أو عندما أكون منهمكا بالجريدة ..
أحببنا بعضنا البعض حُبًّا كبيرا ..
وعندما عزم أن يعود للجزائر عام 1957، جاءني إلى المكتب.. ودعاني لتناول الغداء..
وقال لي متحديا: بالرغم من أنك تعرف تونس جيدا، ودرستَ فيها بالزيتونة..ولكنك لا تعرف المطعم الذي أدعوك إليه.. وبالفعل أخذني إلى مطعم بتونس العاصمة أجهل وجوده ..ولما فرغنا من الغذاء نظر إليَّ وقال: يا فلان .. اليوم أُفارقك..
تأثرتُ تأثرا كبيرا جدا لكلامه ..
فسألتُهُ: إلى أين يا سي عمروش ..؟
فقال: أعود إلى البلاد.. إلى الجزائر ..أعود إلى إخوتي..أعود إلى البندقية..
ثم مد يده إلى رُسغه..وفَكَّ الساعة من يده..وناولني إياها.. ونظر إليَّ بعمق..
وقال لي: هذه هديتي إليك..ساعة لتَعُدَّ بها ما بقي لخروج فرنسا ..من دقائق ..
قال الشيخ: وتلك الساعة عندي أحتفظ بها إلى الآن ..
فضحكتُ وقُلت له: يا سي عميروش! .. قُلْ:..أسابيع.. قُلْ: شهورا .. قُلْ: ..سنوات..
قال: لا..
فسألته مستغربا متعجبا: هل بلغ بك اليقين من خروج فرنسا في هذه المدة القصيرة إلى هذه الدرجة من الوضوح..
فقال لي: نعم.. إنها ستخرج.. قطعا .. ولكن ليست العبرةُ بخروج فرنسا..وإنما العبرة هل نحن قادرون على الحرية أم لا ..
ثم قال لنا الشيخ الصديق: وصدق الشهيد عميروش رحمه الله تعالى وتقبله في الشهداء .. صدق فيما قال..هل ندرك تماما معنى الحرية..وماهيتها.. وأين حدودها..بحيث لا تعتدي على الآخرين ..
هل الحرية أن تفعل ما تشاء..
قال لنا الشيخ الصديق: أحيانا أرى من شرفة بيتي أناسا يرمون الزبالة في الأرض وعلى بُعْدِ خطواتٍ منهم فقط حاوية القمامة..
هل الحرية أن يلقي من شاء ما يشاء أين يشاء دون النظر إلى الأذى والضرر الذي يلحق الناس من تصرفاته..
هل التحرر أن يفعل الإنسان ما يشاء دون القيام بالواجبات ومراعاة حقوق الآخرين.. إن كسر قيود الاستعمار ورفع نير الاستدمار تعقبه الخطوة الكبرى، وهي إزالة المخلفات التي زرعها في عقولنا، والتطهر من الجراثيم التي نشرها في دمائنا، والقضاء على بذور الفساد التي زرعها في نفسيات بعضنا، والوقوف في وجه كل ما يضيع علينا نعمة الاستقلال.. ولتقصيرنا في هذا الأمر كانت النتائج المخيبة والوضعية الكارثية التي نعيشها بعد الاستقلال.. ولو كان التغيير يحتاج إلى سنوات لكنها قد طالت جدا في وضعنا .. فقد مر على استقلالنا نصف قرن ونيف..منذ 1962 ..
فإذا وعينا جيدا كلام العقيد الشهيد عميروش نَستثمر استقلالنا السياسي حق الاستثمار .. ونكون أوفياء لتلك الدماء الطاهرة، ولذلك الجهد المضني الذي أطاقه من سَلَفَنَا.. فكل واحد منا يبذل جهدَهُ، ويقوم بواجباته، بحسب قدرته، والمساحة المتاحة له، والمواهب التي يتمتع بها .. فكما أن الحرية كسر للقيود .. لكنها أيضا مسؤولية وحدود..
رحم الله شهداءنا، والشهيد العقيد عميروش الذي استشهد في مثل هذا الشهر مارس، في 29 منه ..
وبارك فيمن بقي على الدرب غير مُبَدِّلٍ، وثَبَّتَ السائرين على الطريق، ووقنا الله مكر الماكرين، وكيد الكائدين وفساد المفسدين..(ومكر أولئك هو يَبُور) كما وعد ربنا ذو القوة المتين .