عَمِّي عَلِي..
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
إن الإيمان فعلُهُ عميقٌ، وأثره بليغ.. يَقلبُ التُرْبَ تِبْرًا، ويجعل الضيق واسعا، ويحوِّلُ المرَّ حُلوًا، والكدر نقاء، والألم أملا، والسجن جنة، يُذيب الصخر الصلد، ويلين قاسي الحديد، ويبعث الحياة في الرُّفاة بعد ظن الممات ..
إن لقطاتٍ من ثورة التحرير في هذا البلد الطيب تؤكد ما يفعله الإيمان في أصحابه، وإن مواقف رجالات هذا الشعب المكافح تجسد تلك المعاني غاية التجسيد وأجمله..
في هذه الأيام من شهر نوفمبر ونحن تحت ظلال ذكرى انطلاق ثورة التحرير المباركة على ربوع هذه الوطن الغالي يطيب لي أن أنقل إليكم قصةً مؤثرةً سمعتها من سيدي الشيخ الأستاذ محمد الصالح الصِّدِّيق حفظه الله تعالى.. في مثل هذه الأيام من العام المنصرف لما زار مدينة قسنطينة بمناسبة تكريمه في جامع الأمير عبد القادر..عدَّدَ لنا صُوَرًا ناصعةً إيمانيةً لآبائنا المجاهدين..
والشيخ الصِّدِّيق التحق بصفوف الثورة التحريرية منذ فجر اندلاعها يوم الاثنين 1 نوفمبر عام 1954..
وفي سنة 1955 جاءه البطل المجاهد العقيد محمد أمزيان اِعزُّورَن، الشهير بـ"سي سعيد برِيرُوش"، في الولاية الثالثة في منطقة آزفون، بالقبائل، وهو من تولى إدارة المعركة العجيبة الخالدة التاريخية، التي ضحك فيها قادة الثورة من قادة فرنسا..وعن هذه المعركة كتب الشيخ الصِّدِّيق كتابه "العصفور الأزرق"..
طلب العقيد "سي سعيد برِيرُوش" من الشيخ الصِّدِّيق إلقاء درس على المجاهدين بمناسبة 17 رمضان .. فقبل الدعوةَ.. وجُمع له عدد كبير، لا يقل عن 70 مجاهدا..وبعد تناول العشاء الذي كان الأُكلةَ الشعبية "الطعام" أو "البربوشة" الشهير في المشرق بالمغربية..
بعدها جلس المجاهدون على شكل هلال، وجلس الشيخ الصِّدِّيق في الوسط، قُبالتهم، وجلس بجنبه على اليسار "سي السعيد بريروش" ..
ولَمَّا هَمَّ ببداية الدرس طُلبَ منه التأخير قليلا، انتظارا لأحد المجاهدين الذي كان يتوضأ ..
قال الشيخ الصِّدِّيق" وأثناء الانتظار مررتُ ببصري من يمني إلى يساري، ودققتُ النظر في كل المجاهدين، من أولهم إلى آخر الهلال ..
ثم حكمتُ في قرارة نفسه حكما جازما، بأن هؤلاء لا يمكن أن ينتصروا على الجيش الفرنسي..بل سينهزمون ..بل هم ينتحرون في هذه الحرب..فالنصر سيكون من نصيب فرنسا بلا ريب..
قال الشيخ الصِّدِّيق:.. وهذه الفكرة الخبيثة السيئة الخسيسة بَنَيتُها على حالهم..
فهؤلاء المجاهدون.. فيهم الشاب والكهل والشيخ والعجوز..بينما الجيش الفرنسي في أسنان متقاربة..فكيف لهم أن يقفوا في وجه ذلك الجيش..
وهؤلاء المجاهدون مسلحون بأسلحة متنوعة.. بعضهم له بندقية صيد، وآخرون له رشاش، وآخر له بندقية بدائية مربوطة ومثبتة بأسلاك حديدية، وهناك من له مسدس معوج..فهل ينتصر هؤلاء على جيش فرنسا المدجج بالأسلحة المتطورة الفتاكة المدمرة..هل يستقيم هذا عقلا وطبعا ووضعا وشرعا..
ثم تأملتُ في لباسهم المختلف ..منهم من يلبس البرنوس المربوط الوسط بحزام..وآخر القشابية، وآخر القندورة..وآخر السروال والسترة. وآخر المعطف.. وهناك من يلبس اللباس العسكري..بينما الجيش الفرنسي يرتدي زيا عسكريا موحدا عصريا..وللثوب العسكري الاحترافي أهمية لا يستهان بها ..فهو يعين على سرعة الحركة ورشاقتها والقفز والجري اللازم..أما ثياب المجاهدين فلا تساعد على ذلك بتاتا في الغالب ..
ثم تأملتُ في طعام المجاهدين.. غذاؤهم الكسرة، قطعة صغيرة لكل واحد.. أحيانا يزدردها مع اللبن، وأحيانا كثيرة يُسيغها مع الماء .. وفي حالات.. والله.. كانوا يأكلون الحشيش.. هل ينتصرون على جيش يتناول وجبات متوازنة صحية ..
ثم نظرت في طريقة تنقل المجاهدين..أحيانا يتنقلون مشيا على الأقدام عشرات الكلمترات ..بين الجبال والوديان والأدغال..فتتبلل ثيابهم وتتمزق أرديتهم..فانظر الحالة المزية التي تُرهق أجسامهم، وتستهلك طاقتهم ..فكيف تكون حالهم عند نشوب المعارك بأجسام مرهقة وثياب مبللة ممزقة..في مرة من المرات مات أحد المجاهدين غرقا في النهر الذي سحبه لقوته ولثقل ثيابه المبللة..أثناء عبورهم خلاله في ليلة مظلمة باردة..
بينما الجيش الفرنسي يركب السيارات العسكرية القوية السريعة ..تُقِلُّهم من باب الثكنات..ويُنقلون عبر الطيارات العمودية وغيرها .. إلى قلب المعركة فينزل العسكر صحيحا قويا في كامل طاقته..
هذه المقارنات هي التي أنتجت في ذهن الشيخ الصِّدِّيق أن المعركة غير متكافئة، وستنتهي حتما بالهزيمة النكراء..
وانقطعتْ سلاسلُ هذه الأفكار السوداية بمجيء ذلك المجاهد الذي كانوا في انتظاره حتى فرغ من وضوئه..
فشرع الشيخ في الدرس، وكان في تفسير قوله تعالى من سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} .
قال الشيخ الصِّدِّيق: هذه الآية جمعت عوامل النصر: ..الثبات..ذكر الله كثيرا..طاعة الله ورسوله..عدم التنازع..الصبر ..واستمر الدرس أزيد من ساعتين ..
وبعد فراغه التفتُّ إلى المجاهد البطل سي سعيد بريروش..قائلا له: أريد أن أستمع الآن بدوري إلى المجاهدين بعدما استمعوا مني هذه المحاضرة ..فتوجه سي بريروش إلى جمع المجاهدين وأخبرهم برغبتي..فالتفوا جميعا إلى شخص واحد قائلين مجمعين: "..عَمِّي علي.. عَمِّي علي.." .
و"عَمِّي علي" هذا مجاهد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، ذو لحية طويلة كَثَّةٍ بيضاء..عليه
بُرنس..كيف خرج هذا العجوز ليقف في وجه فرنسا .. وأنَّى له ذلك..
قال الشيخ الصِّدِّيق: لكن "عَمِّي علي" هذا.. قال كلمة قصيرة كانت كفيلة بتغيير ما في نفسيا جذريا..حتى أصابني الخجل المرير من نفسي وما كان يدور فيها.. حتى لو وسعني جيبي لتواريت فيه لشدة حيائي من ذاتي ومن تلك الوساوس التي جعلتني أصنف المجاهدين في صفوف المنتحرين..
قال "عَمِّي علي" بكل بساطة:..يا الشيخ قديما الجنة بعيدة وصعبة..لا بد من أعمال كثيرة للفوز بها ..من صلاة كثيرة وصوم وحج وعمرة وقراءة قرآن وأعمال بر وخير..أما اليوم الأمر أسهل..أَدخلُ إلى المعركة أَقتلُ .. أُقتلُ..وتدخل الجنة ..وهناك تتقابل مع كبار المجاهدين الشيخ الحداد وغيره من الأبطال..
قال الشيخ الصِّدِّيق: ..إن شعبا فيه مجاهدون يفكرون في الشهادة ..يفكرون في الموت ..معنى هذا أنهم يسترخصون حياتهم، معنى ذلك أن حياتهم لا تساوي عندهم شيئا..والمجاهد التي تكون هذه حاله ستجده مِقداما ولا يتأخر ويجاهد ويكافح ويضحي..
ثم يتابع الشيخ الصِّدِّيق قائلا: في تلك البقعة التي ألقيتُ فيها الدرس على المجاهدين في قرية تُدعَى "ثَاوُذُوشْتْ".. شَيَّدَ أهلُها مسجدا عظيما بعد الاستقلال بنحو 15 عاما.. دعوني إليه لتكريمي فيه في عام 2013.. وشاء الله تعالى أن ألقي عليهم درسا في نفس البقعة بعد الاستقلال كما ألقيت هناك درسا أيام الثورة..لكن الأول منهما كنت في الدرس خائفا، والأرض التي ألقي فيها الدرس مملوكة لفرنسا، أما الآن ألقيتُ الدرس ورأسي مرفوع بكل سعادة وطاقة، على أرض محررة مستقلة..
جزى الله خير الشيخ محمد الصالح الصِّدِّيق على هذه الفتة المعبرة المؤثرة، ورحم الله شهداءنا الأبرار، وأجزل ثواب "عَمِّي علي" رحمه الله تعالى، الذي بكلماته البسيطة الصادقة تلك أحسن تلخيص أكبر دروس النصر الذي تهزم فيه الفئةُ القليلةُ الفئةَ الكثيرةَ الكبيرةَ.. إذا تعلقت بالله، وطمعت في الحياة الباقية، ولم تخلد إلى الحياة الفانية.. كما قال الخليفة أبو بكر الصِّدِّيق لخالد ابن الوليد رضي الله عنهما: "احرصْ على الموت تُوهب لكَ الحياة" .