العلامة الأديب محمد الصالح الصديق الهرم الثقافي الشامخ
القلم: عبد الحميد عبدوس-
من الكتاب اللامعين والدائمين لجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، العلامة الشيخ محمد الصالح الصدّيق، العالم والمجاهد والمفكر والأديب والفقيه والصحفي، الذي حرص على ربط صلة مثمرة وغير منقطعة مع قراء جريدة البصائر منذ صدور أول عدد من سلستها الرابعة في 20 ماي 2000 من خلال ركنه الدائم ”ما قل ودل”.
لقد شيد العلامة محمد الصالح الصديق خلال رحلته الفكرية هرما ثقافيا وفكريا شامخا يعتبر فخرا للجزائر ومكسبا ثمينا للثقافة العربية والإسلامية، ووضع اللبنة الأولى في صرحه الأدبي والفكري قبل أكثر من نصف قرن بصدور باكورة مؤلفاته(أدباء التحصيل) سنة 1951 عندما كان طالبا بجامع الزيتونة المعمور في تونس، رغم صعوبة ظروف النشر آنذاك، صدور هذا الكتاب في تلك الفترة المبكرة من حياة الكاتب محمد الصالح الصديق، أعطى دفعا معنويا وامتيازا أدبيا لهذا الشاب النابغة الطموح، الذي انتزع إعجاب زملائه وأساتذته في جامع الزيتونة، ثم جاء كتابه الشهير (مقاصد القرآن) في سنة 1955، وهو الكتاب الذي أدخله في كوكبة المؤلفين المرموقين على المستوى العربي والإسلامي، وبشر بنضوج موهبة أصلية وثرية تألقت على مدى أكثر عشرات السنين في ميادين الفكر، والفقه، والثقافة، والأدب، والنقد، والصحافة، وجلب له في ذلك الحين تقدير وثناء المفكرين والأدباء والزعماء والرؤساء والملوك العرب الذين أهدى لهم الكتاب.
يروي الأستاذ محمد الصالح الصديق وقائع زيارته لمصر خلال الثورة ولقائه بالأديب الكبير والمفكر الشهير عباس محمود العقاد الذي زاره في بيته بالقاهرة، قال:« قصدت مجلسه الكائن ببيته بمصر الجديدة، ولما دخلت وجدت العقاد يجلس بين نخبة من المثقفين والأدباء، وبمجرد إلقائي السلام عرف العقاد من لهجتي أنني جزائري، فقال لجلسائه: قوموا للجزائر. ثم طلب مني الجلوس إلى جانبه، وسألني أسئلة محرجة عن الثورة التحريرية».
تعود علاقتي المتميزة بأستاذي الكاتب الأديب الشيخ محمد الصالح الصديق إلى ما يقارب خمسة عقود من الزمن، أي منذ أن أكرمني الله تعالى بالتتلمذ عليه في نهاية ستينيات القرن العشرين في ثانوية ابن خلدون ببلدية الحمامات غرب العاصمة، وهي الثانوية التي كان يديرها العالم المجاهد عبد المجيد حيرش، تلميذ الإمام عبد الحميد بن باديس، عليهما رحمة الله، فقد تفضل أستاذي بإهدائي العديد من مؤلفاته العامرة بكنوز المعرفة والحكمة الزاهرة بأسلوبه الجذاب المشرق الذي يعتبر نموذجا لما اصطلح على تسميته في فن الكتابة العربية بـ” السهل الممتنع” .
وتقديرا للإسهام الكبير الذي قدمه عميد الكتاب الجزائريين المعاصرين العلامة المجاهد الأستاذ محمد الصالح الصديق، في إثراء الثقافة الجزائرية، قررت وزارة الثقافة سنة 2016 في مبادرة حميدة لتشجيع النشر، وتكريم كبار المبدعين، طبع الأعمال الكاملة لصاحب (مقاصد القرآن) والتي صدرت سنة (2015) فيما لا يقل عن 51 مجلدا من الحجم الكبير عن دار هومة للنشر والتوزيع. ويعتبر الأستاذ الأديب محمد الصالح الصديق هرما ثقافيا حيا، ومفخرة للثقافة الجزائرية، بل للثقافة العربية الإسلامية في العصر الحديث، تجاوزت كتبه المطبوعة 138كتاب، اقتحم عالم النشر بإرادة وموهبة نادرتين منذ ربيع شبابه الباكر.
إن فكرة جمع الإنتاج الأدبي والفكري والتاريخي للأستاذ محمد الصالح الصديق في إصدار مترابط ومتسلسل، ومتكامل يسهل للقارئ اقتناء والعودة إليه، والاستفادة من أفكاره ومعارفه بأسلوبه وفصاحة لغته هي فكرة جديرة بالتقدير والتنويه، لأن هذه الأعمال الكاملة هي “فضاءات واسعة لشتى العلوم والمعارف، فيها قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وعمق الفكرة مع الحلاوة، والمحظوظ من اقتناها، والسعيد من رحل فيها، وحلق في أجوائها، واستنار بأضوائها”.
ولد العلامة الأديب الأستاذ محمد الصالح الصديق، في 19 ديسمبر 1925 بقرية أبيزار، بدائرة عزازقة، ولاية تيزي وزو، زاول تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه على يد والده المرحوم الحاج البشير آيت الصديق، الذي عين إماما لقرية أبيزار لمدة أربعين سنة، بعد أن قدم إليها من قرية إبكرين مسقط رأسه، وقرية البطل الشهيد مراد ديدوش، حفظ القرآن الكريم وعمره 9 سنوات، أخذه والده الشيخ البشير في نزهة إلى العاصمة في ربيع سنة 1934م. والتقوا بإمام النهضة الجزائرية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولما علم الإمام بأن الفتى محمد الصالح حفظ القرآن وهو لم يتجاوز السنة التاسعة من عمره، وضع يده على رأس الصبي، وقرأ قوله تعالى:{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
ولا عجب أن يكون لبركة القرآن الكريم الذي حفظه العلامة المجاهد الشيخ محمد الصالح الصديق وهو في صغره، وخدمه على امتداد عمره، ودعاء الإمام عبد الحميد بن باديس له في أول لقاء له به أطيب الأثر في مسيرة التفوق والتألق لـ “عقاد الجزائر” كما يطلق عليه في الوسط الثقافي.
شارك الأستاذ محمد الصالح الصديق في الثورة الجزائرية منذ اندلاعها في الفاتح من نوفمبر 1954 إلى غاية تحقيق النصر في جويلية 1962، وكانت مشاركته بالسلاح والقلم، وخدم الثورة في جبهة الإعلام، والسياسة، والدبلوماسية، كما ساهم في بناء الجزائر بعد استرجاع الاستقلال في مجالات التعليم، والتربية، والثقافة، والشؤون الدينية والإعلام.
قال عنه العلامة الراحل سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين:” طاقة ثقافية، أدبية، تربوية، أخلاقية، دينية، وطنية، عرفته في جميع أطواره أديبا تستهويه العبارة البليغة أكثر مما تستهوي السبيكة الذهبية الغني البخيل…عرفته في ميدان التأليف فارسا يخوض المعارك المظفرة في مختلف الجبهات، مركزا اهتمامه على توجيه الرأي العام، والناشئة بصفة خاصة، إلى ما ينمي معارفهم، ويوسع دائرة تفكيرهم، ويغذي فيهم الحس الوطني الفدائي الحضاري، بأسلوب يتسرب إلى النفوس تسرب الينابيع إلى الحقول الخصبة العطشاء في غزارة وتنوع في الإنتاج”.
وقال عنه الدكتور عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بمناسبة تكريم الأستاذ محمد الصالح الصديق في المكتبة الوطنية في سنة 2008 بوسام العمداء:”…إن مما يتميز به محمد الصالح الصديق في إنتاجه هو التنوع المعرفي داخل الوحدة الثقافة، فهو ذو منهج صاعد، يربط بين قضايا الإنسان في الأرض، وأحكام وحي السماء، تعددت جوانب الإنتاج لديه، فهو يستلهم من وحي السماء مقاصد القرآن وما احتوت، ومن الينبوع النبوي جوامع الكلم وما شملت، إلى الغوص على ضوء ذلك في كهوف الوطن العجيبة، وما احتوت من الدروب الحمر، ومعاناة اللهب والجمر، إن على من يريد أن يدرس محمد الصالح الصديق أن يقرأ عناوين كتبه ليستبطن أولا الروح التي نفخت، والملكة التي أنتجت، والإرادة التي صممت وجسدت”.
ذات مرة سئل العلامة الأديب الشيخ محمد الصالح الصديق عن شعوره عندما تتولد عنده لحظة الكتابة، فأجاب:” أشعر بقوة تتدفق في الأعماق وتتزاحم أنوارها وتنثال معانيها على الفكر والقلم، ولا أشعر بالراحة إلا عندما أفرغ ما في جعبتي”.
وبعد أن نال الكاتب محمد الصالح الصديق وسام الاستحقاق الثقافي، مازال يعتبر فارس كتاب الجزائر ويواصل عطاءه الصحفي والثقافي والإبداعي الخصب بموهبة لا تنضب وعزيمة لا تفتر وبلغ عمره المبارك 94 سنة (1925-2019) نسأل الله تعالى له موفور الصحة والسعادة والمزيد من التأييد والتسديد وبركة العمر المديد !.