أول خطبة جمعة بمسجد “كتشاوا” بعد الاستقلال
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
الحمد لله ثم الحمد لله، تعالت أسماؤه وتمت كلماته صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته،جعل النصر يتنـزل من عنده على من يشاء من عباده حيث يبتليهم فيعلم المصلح من المفسد ويعلم صدق يقينهم وإخلاص نياتهم وصفاء سرائهم وطهارة ضمائرهم.
سبحانه تعالى جعل السيف فرقانا بين الحق والباطل، وأنتج من المتضادات أضدادها، فأخرج القوة منالضعف وولد الحرية من العبودية وجعل الموت طريقا إلى الحياة، وما أعذب إذا كان للحياة طريقا، وبايعه عباده المؤمنون الصادقون على الموت، فباءوا بالصفقة الرابحة، واشترى من المؤمنين أنفسم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا?.
سحانه تعالى جده، تجلى على بعض عباده بالغضب والسخط فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون وآياته في الآفاق يتبعها قوم فيفلحون، ويعرض عنها قوم فيخسرون.
وأشهدأن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده، وهزمالأحزاب وحده.
وأشهدأن محمدا عبده ورسوله شرع الجهاد في سبيل الله، وقاتل لإعلاء كلمة الله حتى استقام دين الحق في نصابه وأدبر الباطل على كثرة أنصاره وأحزابه وجعل نصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة منوطا بالإيمان والصبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل متبع لهداه داع بدعوته إلى يوم الدين.
ونستنزل من رحمات الله الصيبة، وصلواته الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمان الدين وعزة الإسلام وكرامة الإنسان وحقوقالوطن.
واستمدمن الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوافيهذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.
وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل، وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.
ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكلساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.
ونحيي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلهاأوذينا.
أحييكيا مغنى الكمال بواجب وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي
يااتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل،وهذاهو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها.
وهذاالمسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم،بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد و عاد التوحيد إليه فالتقيتم جميعا على قدر.
إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد للساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلا الله عادتلمستقرهامنه كأن معناها دام مستقرا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارقالعادات في هذه الثورة.
وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوامنغير تعب، وفيئة منه إلى الحق من دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.
يامعشر الجزائريين: إذا عدت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين، ونشهد هذا المشهدالمحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا، وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا نملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذلك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.
أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون غريبا، لأن البغيمماركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الإنسان عرقا نزاعا إلى الحيوانية وشيطانا نزاغا بالظلم وطبعا من الجبلة الأولى ميالا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشر به عيسى روح الله وكلمته.
يا معشر المؤمنين: إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليهاالمسجدفي الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروسالعلم والنافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.
أيها المسلمون: إن الله ذم قوما فقال: ? ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه?، ومدح قوما فقال: ?إنما يعمر مساجدالله من آمن بالله و اليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين?.
يا معشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذيقال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه،ولكنهرضي أن يطاع فيما دون ذلك))، فهو قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالحأرضكم،ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه،وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.
يا معشر الجزائريين، إن الثورة قد تركتفيجسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتىينسىاليتيم مرارة اليتم، وتنسى الأيم حرارة الثكل، وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.
يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا، وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعةالعاطرة.
إنحكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوّة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هيأحسن،ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا.
وفقكمالله جميعا، وأجرى الخير على أيديكم جميعا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين علىالبر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان.
قال تعالى: (وعد الله الذينآمنوامنكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم،وليمكننلهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا).
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.