النُّورُ..
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
إنَّ للقرآن لصولةً على النُّفوس، وسُلطانا على العقول، فهو نور ربنا جل جلاله، وهدايته، يُضيءُ العقولَ، ويُطمئِّنُ القلوبَ، ويُسكن الجوارح .
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)( ).
ما أعمقَ أثرَهُ لَمَّا يَخرجُ مِن أهلِهِ ويُصادفُ مَحَلَّه..
مِنْ أروع ما سمعتُ من أثر كتاب ربنا جل جلاله في هذه الأزمنة المتأخرة ما سمعتُهُ من فضيلة الشيخ المجاهد المؤلِّف المعمَّر محمد الصالح الصديق حفظه الله تعالى وبارك في عمره لما زارنا في قسنطينة هذه السنة، ذكر فيها حادثةً شخصيةً له، سبق لي واطلعتُ عليها قَبْلُ، ولكن لسماعها منه مباشرة طعمٌ آخر ونكهة مختلفة .
تعود القصة إلى حدود سنة 1933، حيث أتمِّ حفظ القرآن الكريم، ولَمَّا يبلغ بعدُ التسعَ سنوات من عمره المبارك . وكانت فرحة عارمة في كل الأسرة، لا سيما على أبيه الشيخ البشير، ورغم غيرته الشديدة على زوجته الجميلة التي كان يرفض حتى أن يُسمع لها صوت؛ طلب منها أن تُزغرد بقوة، وقال لها: "زغردي يا فاطمة، فقد أتم ابننا حفظ القرآن الكريم" .
ومكافأة له على ذلك الإنجاز الحبيب خَيَّرَهُ والده بين أن يشتري له سيارة ليلعب بها في فناء المنزل، أو الذهاب معه في زيارة إلى العاصمة في عطلةٍ .
فاختار الثانية، لِمَا سمعه عن العاصمةِ، وصورتِها الجميلةِ في فؤاده، التي تزداد إشراقا كلما عاد منها زائرٌ إلى قريته وأخبرهم عنها .
وكذلك كان الأمر، فتوجهوا إلى العاصمة، وقضوا هناك 3 أيام . وأثناء زيارته للعاصمة اندهش اندهاشا عظيما ..من عمرانها، منازل كبيرة، فخامة شوارع، محالات واسعة، سلع متنوعة، رجال ونساء بهئيات غريبة، سيارات فارهة، بيوتات مثيرة، بهندسة عجيبة، بل تَمَلَّكَهُ الإعجابُ بإحدى البيوت، واستفسر والدَه عن هوية صاحبه، ومن شدة تعلقه بذلك البيت وَعَدَ والدَه جازما بأنه سيسكنُ بهذا المنزل، وهو ما كان بعد مدة من الزمن، فهو اليوم يقطن في ذلك البيت بحي القُبَّة بالعاصمة .
وبعد أيام التجوال، اصطحبه والده في اليوم الأخير إلى نادي الترقي حيث حضر محاضرةً للشيخ الطيب العُقبي، الذي أثرت فيه كلماتُهُ أيما تأثير، والشيخ العقبى من الرعيل الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ..
وفي هذا اليوم الأخير من إقامتهم بالعاصمة التحق بهم خاله، الشيخ الطاهر آيت عيسى . الذي قضى بعد ذلك شهيدا، سنة 1957 على يد الإجرام والاستدمار الفرنسي لما علموا من مواقفه المشرفة من ثورة التحرير المباركة.
فبعد نادي الترقي توجهوا إلى الجامع الجديد حيث أدوا صلاة الظهر، وعند انصرافهم من المسجد وعلى بُعد خطوات هنالك التقيا بخاله الشيخ الطاهر، فسلَّمَا عليه، ثم قال لهم الخالُ: ما رأيكم لو نتجول في شوارع العاصمة، فخرجوا إلى شارع "باب عَزُّون"، وبعد قطعهم مسافة قليلة صاح الشيخ الطاهر: ها هو الشيخ ابن باديس .. ها هو الشيخ ابن باديس.. لمحه وهو يهم بالخروج من مكتبةٍ ..
فعَدَّلَ كلٌّ منهما من هَيئتِهِ وهندامِهِ، لاستقبال الشيخ المبجل ..
ولخاله هذا صلة سابقة بالشيخ ابن باديس، فقد زاره الشيخُ في قريته، في "تِمْلِيلِين" في "تقْزِيْر"، بالقرب من آزفون، ومكث عنده في بيته 7 أيام.
قال الشيخ محمد الصالح: كُنتُ أتخيل الشيخَ ابنَ باديس رجلا ضَخما كالجبل، طويلا عريضا، لما سمعتُ من كثرة ذكره، لكن لما وصل إلينا رأيته صغير الجسم، يَلبس ثيابا بسيطة جدا، لا تُوحي بالتَّقدم والتَّحضر..لكن في الحقيقة .. هذه الثياب البسيطة تحمل في داخلها شُعلةً متقدة..
وما أن تلاقينا حتى تصافحوا في شغف وحرارة، فوقف والدي وخالي في جهةٍ والشيخ ابن باديس في جهةٍ، فتحدث الشيخ ابن باديس مع خالي لسبق تعارفهما . ثم سأل الشيخُ ابن باديس خالي: من هذا؟ مشيرا إلى أبي..فقال له: هذا الشيخ البشير ..
قال الشيخ محمد الصالح: وأنا واقف أمام سارية أتأمل وأنظر في الشيخ ابن باديس متسائلا في نفسي: أهذا هو الذي شغل فرنسا، ودوَّخ العالم، وملأ الجزائر حيوية ونشاطا وعملا، هذا الرجل النَّحيف، أهذا الذي يتحدث الناس عنه..
ثم بعد نحو ربع ساعة أو أكثر بقليل انتبه الشيخ ابنُ باديس لوجودي، فسألهم قائلا: ابنُ مَنْ هذا الطفل؟ فقال له خالي: هذا ابن الشيخ البشير، لقد حفظ القرآن وعمره 8 أعوام وستة أشهر ..
فتقدَّم إليَّ الشيخُ ابنُ باديس بخطوات، وعندما وصل إليَّ وَضَعَ يدَه اليُمنى على رأسي في حنانٍ ورفقٍ، وتلا هذه الآية في صوت خاشع: (وأَنْزَلَ اللهُ عليك الكتابَ والحكمةَ وعَلَّمَكَ ما لم تَكُنْ تَعْلَمْ وكان فضلُ اللهِ عليكَ عظيما).
قال الشيخ محمد الصالح: العجيب أن رأسي كان يَعُجُّ بالصور المختلفة والأضواء اللامعة المتجمعة من الأيام التي قضيتها في الجزائر..كُنتُ جمعت في مخيلتي صورا عجيبة جدا لفراغ رأسي من هذه الصور، لنشأتي في رأس جبل في قريتي بعيدا عن المدن، وأكبر مدينة عرفتها وظننتها من المدن الكبيرة هي مدينة "عَزَازْقَة"..
"وكانت الجزائر بمناظرها الفاتنة قد انتقشتْ في قلبي تلك الأيام، فعندما آوي إلى مضجعي ليلا تستيقظ في نفسي فأراها كما عشتها نهارا تتعاقب على فكري، ديارها وشوارعها المكتضة، وأضواؤها المختلفة . وهكذا صرتُ مفتونا بالجزائر ليل نهار، وفي اليقظة والمنام.."..
لكن لما قرأ الشيخ ابن باديس تلك الآية أحسستُ كأن أسلاكا كهربائية سَرَت في كياني..فلما نزع الشيخ ابن باديس يده عن رأسي اختفت جميع تلك الصور والمناظر الساحرة، ولم تبق إلا صورة الشيخ ابن باديس في ذهني..ونبراته، وما تُوحيه هذه الآية من معان، وما تُعْنَى من أبعاد ..
وهكذا رأيتُ الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس وسمعتُهُ لأول مرَّة وآخر مرة ..ولكنه ترك في نفسي بسمتِهِ العجيبِ، ووقارِهِ الذي يَغْمُرَ النفسَ هيبةً وجلالًا، وقوتِهِ الروحيةِ التي تُطَاوِلُ الظَّلَمَةَ والعُتاةَ؛ أَثرا عميقا لا يُمحى...
رحم الله الشيخ ابن باديس وبارك لنا في عمر سيدي الشيخ محمد الصالح الصديق..
نعم..إنه القرآن ونوره لَمَّا يخرج من الإنسان القرآني، الذي امتزج القرآنُ بلحمِهِ ودمِهِ وكلِّ ذرَّاتِ جسدِهِ، لَمَّا يقرأه رجلٌ يعيش بالقرآنِ وللقرآنِ..
وعندما يخترق عقلَ وروحَ إنسانٍ صافٍ طاهرٍ بريءٍ..فإنه يفعل فعله فيه.. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾( ).
ومن هنا نفهم إسلام بعض الصحابة الكرام وتأثرهم بمجرد سماعهم للقرآن الكريم ..
بينما عند خروجه من جوفِ إنسانٍ هو فيه غريبٌ مهجورٌ، أو لما يقرأه إنسان من باب الفُلكلور..أو التزلف أو التزيد..فإن نوره ـ للأسف ـ يَخبو، وحرارته تبرد، ووهجه ينطفئ ..لأن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا..
وكذلك لما يتلقاه صاحب كِبْرٍ وعنجهيةٍ وغطرسةٍ فإنه لن يتجاوز أذنيه..ولن يعرف طريقه إلى قلبه، لكثافة ظُلُمَاتِهِ وحَلاَكَةِ سَوَادِهِ..(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).
اللهم اجعلْ القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجِلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، بارِكْ لنا فيه، وانفعْنا بما فيه، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار..عَلِّمْنا منه ما جَهِلْها، وذَكِّرْنَا منه ما نُسينا، واجعله لنا إماما ونورا وهاديا.. يا أكرم الأكرمين ..