في ذكرى الشيخ المجاهد عمار مطاطلة: المربي الكبير والعالم الحر

بقلم: عبد الحميد عبدوس-

مرت يوم الاثنين الماضي (23 مارس 2020) الذكرى الخامسة لوفاة العلامة المجاهد الشيخ عمار مطاطلة الرئيس الشرفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأحد أنجب تلاميذ رائد النهضة الجزائرية الحديثة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمة الله عليهما ـ. لقد  عرفتُ الشّيخ الفاضل عمّار مطاطلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين عالمًا صادقَ الإيمان، راسخ العلم، جريئا في الحقّ، لا يخاف في الله لومة لائم؛ وكان مع ذلك كريمَ الخُلُق، شديدَ التّواضع، أنيقَ العبارة والهندام.

وُلد الشّيخ عمّار مطاطلة في 26 نوفمبر 1915 ببلدية عين قشرة ولاية سكيكدة. وجهه والده منذ نعومة أظافره لحفظ كتاب الله  العزيز، فدخل الكتّاب وعمره أربع سنوات وحفظ القرآن الكريم وعمره إحدى عشرة سنة، فقدّمه والده لصلاة التّراويح في سنّ الثّالثة عشر.

ولما بلغ التاسعة عشر من العمر(سنة 1934) التحق بالجامع الأخضر بقسنطينة مدرسة الشيخ عبد الحميد بن باديس الشهيرة باديس ، فاجتاز امتحان القبول، وأصبح طالبا في المدرسة البادسية.

واستمرّ بالجامع الأخضر حتّى أكمل الشّيخ عمّار مطاطلة دراسته سنة 1938. ولكن بسبب تعلّقه بالشّيخ ابن باديس استأذَن والدَه في البقاء سنة أخرى فأذن له.وفي سنة 1939 اندلعت الحرب العالمية الثّانية فعاد إلى بلدته عين القشرة.

لم يكتف الشيخ عمار مطاطلة بالاغتراف من العلم الوافر لمعلمه الجليل العالم الرباني المجدد، والفقيه المجتهد، ولكنه تأثر بخصاله الأخلاقية كصرامته في الحفاظ على الوقت و جديته في العمل.

في سنة 2008 كنت في زيارة للشيخ الراحل عمار مطاطلة في بيته بالأبيار بأعالي العاصمة، وروى لي بحضور نجله المجاهد والضابط السامي الجنرال المتقاعد عبد الحميد مطاطلة، أنه لم  ولن ينسى أبدا ذلك اليوم الذي كان فيه جالسا بجانب الشّيخ الورتلاني في أحد دروس الإمام عبد الحميد بن باديس واثناء الدرس أخذته سنة من النعاس فأيقظه معلمه الشّيخ ابن باديس بصوته الجهوري قائلا: قم أيّها الفتى، لستَ وحدك بحاجة إلى النّوم. وبعد أن ظهرت على ملامحي علامات الخجل والارتباك توجه إلي بالسؤال: كم تظنّني نمت؟ فقلت: لا أعلم، فقال: لقد أطفأتُ المصباح في السّاعة الثّانية صباحا، وأوقدتُه في الرّابعة. ثمّ وجّه كلامه للطّلبة قائلا: “كيف يحلو لنا النّوم والشّعب الجزائري غارق في الجهل والأمية والفقر؟ فليس من حقّنا أن ننام”.

ومن يومها أصبحت حياة  الشيخ العلامة عمار مطاطلة جهاداً متواصلا من أجل الإسلام والوطن واللّغة العربية، شعاره “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا.”، وظل متمسكا بنهج شيخه في التضحية والإيثار، إلى أن انتقل إلى جوار ربه قبل خمس سنوات.

في سبتمبر 1949 اصبح الشّيخ مطاطلة معلما بمدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فالتحق بمدرسة التّهذيب بـ”شاطودان” (شلغوم العيد حاليا) وبقي هناك سنتين. وفي سنة 1951 نُقل إلى وهران حيث التحق بمدرسة التربية الواقعة بحي الحمري وكُلِّف بإدارة مدرسة التّربية والتّعليم، وبعد سنة حُوّل إلى مدرسة مديوني بالمدينة نفسها.

وفي سنة 1953 بطلب من الشهيد الشّيخ العربي التّبسي، توجّه إلى مدرسة سبدو التي تقع جنوب غرب مدينة تلمسان حوالي 35 كيلومتر فأشرف على إعادة بناء المدرسة  التي كانت عبارةً عن غرفتين ولا تفي بالغرض وحولها إلى مدرسة حديثة وبنى بجانبها مسجدا، وكان الافتتاح يوم 27 سبتمبر 1953 واستمر في نشاطه التّعليمي للنّشء ويؤمّ النّاس في المسجد، بما في ذلك صلاة الجمعة، ويعلّمهم القرآن.

أثار افتتاح هذا الصرح التعليمي والديني بمدينة سبدو غيظ ونقمة وحقد عملاء الاستعمار ودعاة الجمود والدجل، وسعوا للكيد له عند إدارة المستدمر الفرنسي، الذي قام ببث جواسيسه لمراقبة المدرسة وكتابة التقارير حول دروس معلمها (الشيخ عمار مطاطلة) وعن دروسه الدينية وخطبه الجمعية للمواطنين. انتبه الشيخ مطاطلة لوجود جواسيس فرنسا، ولكنه لم يغير من طبيعه دروسه وخطبه التي كانت تتعمد بث الوعي الوطني والإصلاح الديني في الناشئة وعند المواطنين. فالشيخ عمار مطاطلة معروف بصلابته في الحق وعدم التنازل عن مواقفه  وقناعاته في كل الظروف.

وفي سنة 1956 تَمّ غلق المدرسة والمسجد معا من قِبل السّلطات الاستدمارية الفرنسية التي اعتقلت جلّ أعضاء المدرسة واغتالت البعض الآخر، ووضعت الشّيخ عمّار مطاطلة تحت الإقامة الجبرية.

وبعد أن قضى الشّيخ عمّار مطاطلة مدّة الإقامة الجبرية، قامت جبهة التّحرير الوطني بتهيئة وسائل إخراجه من تلمسان، وتم نقله  إلى مدينة وجدة بالمغرب الشّقيق وذلك في أواخر عام 1956.

بالمغرب الشقيق أشرف الشّيخ عمّار مطاطلة على تسيير مُجمّع مدرسي يحتوي على مستويين ابتدائي ومتوسّط فكان هذا عمله بالنّهار؛ أمّا باللّيل فكان يعمل في نطاق جبهة التّحرير حيث تولّى مهمّة منظّم في الثّكنة التي كان يشرف عليها الرّئيس الرّاحل هوّاري بومدين وعبد الحفيظ بوصوف، واللّذان طالبا منه تسخير إمكاناته العلمية لخدمة الثّورة الجزائرية داخل المغرب الشّقيق، وكان اسمه الثّوري عبد الله.

بعد استرجاع الاستقلال عاد الشّيخ عمّار مطاطلة في جويلية 1962 إلى تلمسان، فعُيّن بإحدى مدارس سبدو التي كان معلّما حرّا بها أيّام الاستدمار مساهما في عملية البناء والتّشييد.

أتذكر أنه في أحد لقاءاتنا سمعت من الشيخ عمار مطاطلة أنه شعر بالصدمة والحزن مما قاله الرئيس الأسبق للجزائر الزعيم الراحل أحمد بن بلة الذي أجاب  بغضب شديد بعض محدثيه الذين طلبوا منه الترخيص لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالعودة لنشاطها للمساهمة في إكمال دورها التعليمي والإصلاحي بعد الاستقلال، قال لهم: لا أريد أن تحدثوني أبدا عن جمعية العلماء المسلمين… إنها من الماضي، ولن تعود للنشاط.

انتقل الشيخ عمار مطاطلة من تلمسان إلى العاصمة حيث عُيّن بمدرسة بحي الأبيار أين استقرّ به المُقام. وانتظم في الجامعة لتحضير شهادة الكفاءة للتفتيش. التحق الشيخ بعدها بالأكاديمية ثمّ بالمركز الوطني لمحو الأمّية سنة 1972 وترأّس البعثة الجزائرية التي شاركت في دورة تدريبية بالقاهرة في نطاق منظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة سنة 1974. ثمّ واصل الشّيخ بعدها العمل في المركز إلى غاية تقاعده عام 1978، ليتفرّغ سنة 1981 لحمل مشروع بناء مسجد “البرهان” بحي الأبيار على عاتقه الذي عمل به إماما متطوّعا، كما كان من مؤسّسي مسجد الخلفاء الرّاشدين بالحي نفسه. وكان من العلماء الأحرار عُرف بقول كلمة الحقّ والشّجاعة في أداء الشّهادة، وتعرّض للأذى ولكنّه لم يبال به، وواصل مسيرته في العمل الجاد وحُسن النّية والنُّصح لله ولرسوله وللمؤمنين.

كان الشيخ عمار مطاطلة من المساهمين رفقة الشيخ الشيخ أحمد حماني والشيخ عبد الرحمن شيبان  في إعادة تأسيس  جمعية العلماء المسلمين في سنة 1991، وكان من الكتاب البارزين  في جريدة البصائر، كما عُيّن بعد المؤتمر الثالث للجمعية في سنة 2008 رئيسا شرفيا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريّين.

توفّي الشّيخ عمّار مطاطلة يوم الاثنين 03 جمادى الآخرة 1436 هجرية، الموافق لـ: 23 مارس 2015 بمنزله بحي الأبيار بالجزائر العاصمة

تبرع الشّيخ عمّار مطاطلة قبل عام من وفاته بمكتبته العامرة النّفيسة المحتوية على مئات الكتب إلى جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة.

ترك بالإضافة إلى عشرات المقالات، مذكّرات عن حياته ومسيرته العلمية والتعليمية والنضالية في جزأين بعنوان: “مذكّرات حياة ” الجزء الأول و”ذكريات أحداث” الجزء الثاني، طبعت سنة 2012.

وله عدة ابناء وبنات منهم: الدكتور المجاهد أحمد مطاطلة عضو مجلس الأمة ونائب رئيس المجلس الدستوري سابقا، عبد الحميد مطاطلة المجاهد والجنرال المتقاعد من الجيش الوطني الشعبي، والأستاذ نجيب مطاطلة المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا. فرحم الله الشيخ المربي المجاهد العلامة عمار مطاطلة وجعله مع الذين رضي عنهم و أسكنه الفردوس الأعلى.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.