تَحَرُّرٌ..
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
إنَّ حياةَ الدُّعَاةِ النَّاجحين ومَسيرةَ العلماءِ الْمُصْلِحين لَجَديرةٌ بالدِّراسةِ والتأملِ وجَنْيِ العِبَرِ. لا سيما الذين كان لهم تَأثيرٌ بَلِيغٌ عَميقٌ طَويلٌ رُغم الظَّرْفِ العَصِيبِ والمحيطِ الملتهبِ والواقع النَّكِدِ الذي كابدوه..
وها هي تأتي علينا ذكرى وفاةِ أحدِ أولئك .. وهو الشيخ الرئيس عبد الحميد ابن باديس رحمة الله تعالى عليه.. الذي رحل عن هذه الدنيا مساء الثلاثاء 16 أفريل 1940..
الحاجَةُ مَاسَّةٌ لاستخلاص العِظات والدروس من سِرِّ نجاحاته في أَتون ذلك العصر المتناقض، والشَّعب الْمُغَيَّب، الذي ما فَتِأَتْ أيادي المحتل الفرنسي دائبةً على مَسْخِهِ وسَلْبِهِ ..
وخَيْرُ مَن يُجَلِّي هذه الزوايا هم تلاميذُه المبَاشِرُون، خُصوصا الذين ساروا على دربه، ومارسوا ما أفنى حياته في سبيله..
اليوم أَنْقُلُ لكم شهادةَ أحدِ طُلابهِ وغَرْسِ يدِهِ، وهو الشيخُ المعلِّمُ المجاهدُ عمار مطَاطلَة ..رحمه الله تعالى ..
والشيخ مطاطلة .. سبق وأن شَرُفْتُ بكتابةِ مقالةٍ عنه، تحت عنوان "ثلاث ساعات"، سَردتُ فيها مجريات لقائه بالشيخ ابن باديس، مع مُلَخَّصٍ مُرَكَّزٍ عن مسيرة كفاحه ..
يعود اجتماعي به في مناسبة تكريمه بمدينة قسنطينة في منتصف شهر ديسمبر عام 2006، من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، شعبة قسنطينة .. وحينها أتحفنا بالكثير عن شيخه..وألقى كلمةً طيبةً مؤثرةً عن شخصية العلامة ابن باديس..
ومما جاء فيها: "..نعم .. نَجَحَ ابنُ باديس في مسعاه إلى أبعد حدود النجاح.. لماذا؟ لأنه رجل آمن بربه، وتحرر من نفسه، وأخلص لله في عمله، وأَحَبَّ أمتَه وشَعبَه.. وهكذا كانت ثمرةُ إيمانِ ابنِ باديس بربه أنه لا يَخشى إلا ربه، ولا يَخاف أحدا في معصية الله، ولو كان أباه، وتَحَرَّرَ رضي الله عنه من نفسِهِ، فأصبح في حِصْنٍ من أي ترغيبٍ أو ترهيبٍ، حاولتْ فرنسا أن تُغريه بالمناصبِ والمالِ والجاهِ على أن يتخلى عن المبادئ التي أَعْلَنَها، فعَجَزَتْ، وبَاءَتْ كلُّ محاولاتها بالفشل، ولقد رَدَّ عليها بما رَدَّ به صلى الله عليه وسلم على عمِّهِ وقومِهِ حين قال: يا عم! والله لو وَضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره اللهُ أو أهلك دونه .
وهكذا تحرر ابنُ باديس من نفسِهِ، فاستغنى عن الغِنَى، فكان بذلك أَغْنَى من كل غَنِيٍّ .." اهـ . هذا بعضُ ما قَالَهُ الشيخُ مطاطلة عن شيخه ابن باديس ..رحمهما الله تعالى .
إنها لَفتةٌ عظيمةٌ عن تلك الشخصية المميَّزة، تُلقي ضوءا واضحًا على أحد أعظم أسرار نجاحه في مشروعه النَّهْضَوِي..إنه التحرُّرُ من النفس وطَغْوَاها..
والتحررُ من أغراض النفس أَبعدُ غَوْرًا من مُجَرَّدِ التَّمَرُّدِ على الترغيبات والترهيبات في حق روَّاد الدعواتِ والإصلاحِ والتوجيهِ والتربيةِ والتعليمِ..
إنه يمتدُّ إلى التحرر من أهواء النفس التي تُهْلِكُ صاحبَها وتُجْهِضُ مشاريعَه الإصلاحية، من حُبِّ القيادةِ..والرياسة..والسيطرةِ..والثروةِ..والمدحِ..والظُهورِ..
والتصدُّر.. وتشييد أمجاد الذات.. والعَصَبِية..
وقائمةُ سَخَائِمِ بواطِنِ القَادَةِ مُتنوعةٌ مَعروفةٌ ..
وإذا علم أعداؤه والكائدون له بضعف نفسه ونقاط ثغراتها فهي مصيبة أخرى، إنهم لن يتوقفوا عن حِيَلِ جَذبه نحوها، ونَصْب الشِّرَاكِ والفِخَاخ في طريقه، وإلقاءِ الطُّعْمِ بين خطواته، واستمالته بروائحها..حتى يسقط في بَرَاثِنِها..يَتواطَؤُ على ذلك شياطين الإنس والجن..
إن سَطْوَةَ رغائب النفس تُخَدِّرُ العقلَ، وتُغشي العينَ، وتَصُمُّ الأُذنَ، وتُلجمُ اللسانَ، وتُقيِّدُ اليدَ، وتَغُلُّ القَدَمَ..فأَنَّى للداعية بعد ذلك أن ينطلق في مشروعه، وكيف يَثْبُتُ في مواجهة التحديات ..ولُعابُه يَسيلُ أمام الْمُغريات، ورُكَبُهُ تَتَضَعْضَعُ عند الرُّعْبِ من فَقْدِ شهوات النفس تلك..
الشيخُ تحرَّر من نفسه، وجعل وجهتَه إرضاءَ ربِّه، وخدمةَ دينِهِ، وإسعافَ شعبِه، ورفعَ الأغلال عن وطنه .. أما نفسُهُ فَتَحْتَ رِجله ..وكلُّ دعواتها مرفوضةٌ إذا تَشَاكَسَتْ مع مقاصده وارْتَطَمَتْ بمشروعه..
إنه أَمْرٌ جَلَلٌ .. خصوصا في المجالات التي تكون فيها المنافسة بين الْمُتَصَدِّرِين، ويوجد التحاسد بين الأقران، وتَكْثُرُ بُنَيَّاتُ الطريق..
فمَن تحرر من نفسه .. لا تَستفزُّهُ الانتقاصاتُ، ولا تَستجِرُّهُ المناوشاتُ، ولا تأخذُهُ العزةُ بالإثم، ولا كِبْرَ يَحملُهُ على بَطَرِ الحق أو احتقار الخلق..
من هنا نفهم سر ذلك الوصف الذي نَعَتَ به العلامةَ ابنَ باديس تلميذُهُ الشيخُ مطاطلة كما هو في عيونه حيث قال: "..شخصيةُ ابنِ باديس شخصيةٌ مَلائكيةٌ.." .
لا شكَّ أن هذا أمرٌ مُضْنٍ وجُهْدٌ عظيمٌ..قد يَستبعده البعضُ .. ويظنه ضَرْبًا من التقديسِ وإسباغِ العِصمة..
معاذ الله مِنْ دَعوى العِصمة لغير الأنبياء من البشر..وإنما هذه منازل قد يبلغها بعضُ الناس مع بقاء صفة الخَطَّاءِ الإنسانية.. فالكلام هنا عن قادةِ البشريةِ الأطهارِ، وليس عن أيِّ أحدٍ..فنجاحاتُهم لم تكن عن طريق مُعَبَّدَةٍ ناعمةٍ، بل عن صراطِ المجاهدةٍ الكبيرةٍ لأنفسهم والمكابدة والمعالجة الشديدة..وإلا فكيف يستوعب المخالِفَ، ويتحمل المتعالم، ويترفق بالكائد، ويتسع صدره للطاعن، ويَنْصَحُ بصدقٍ للواشي به خَلْفَ ظَهره..فضلا عن تضحيات أُخرى مادية واجتماعية..
نعم..من أراد الإصلاحَ وَلَمَّ الشَّمْلِ ورَتْقَ الفَتْقِ وتقريبَ الصفوفِ لا بُدَّ أن يَتحرر من أزَّاتِ نفسِهِ وطموحاتِهَا المفسدةِ لمقاصدِهِ والمبْطِلَةِ لنياتِهِ الخيَّرَةِ ..
في هذا السِّياق والنِّطاق .. لا أَمَلُّ من تكرار الجُمَلِ الجميلةِ البليغةِ في بيان أسباب تمكين الصحابة رضي الله عنهم التي خَطَّها قلمُ داعية الهند الشيخ أبو الحسن الندوي حينما قال: ..خرَجَ حَظُّ نفوسِهم من نفوسِهم، وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم إنصافَهم مِن غيرهم، وأَصبحُوا في الدنيا رجالَ الآخرة، وفي اليوم رجال الغد، لا تُجزعهم مصيبةٌ، ولا تُبطرهم نعمةٌ، ولا يَشغلهم فقرٌ، ولا يُطغيهم غِنى، ولا تُلهيهم تجارةٌ، ولا تَستخفهم قوةٌ، ولا يُريدون عُلواً في الأرض ولا فَساداً، وأَصبحوا للناس القُسطاسَ المستقيمَ، قَوَّامِينَ بالقِسْطِ، شهداءَ لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين؛ وطَّأ لهم أكنافَ الأرض، وأَصبحوا عِصمة للبشرية، ووِقاية للعالم، ودَاعية إلى دين الله .اهـ .