اهتمام ابن باديس بموطأ الإمام مالك
بقلم: د. علي الصلابي-
إيماناً من الشيخ عبد الحميد بن باديس بمكانة السنة النبوية الشريفة في العملية التربوية، فقد جعلها مادة رئيسية وأساسية في البرنامج الدراسي والمقرر التعليمي لتلاميذه وطلابه، ففي البرنامج التعليمي الذي أعلنت عنه «الصراط السوي» لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والذي تضمن برنامج الدروس العلمية جاء ما يلي: تشتمل الدروس العلمية على التفسير للكتاب الحكيم وتجويده وعلى الحديث الشريف.
يقول رحمه الله تعالى: تقوم الدعوة الإصلاحية على أساس من الكتاب والسنة، فلا جرم كان رجالها من المعتنين بالسنة، القائمين عليها رواية ودراية، الناشرين لها بين الناس، ومن عنايتهم تحرّيهم فيما يستدلون به ويستندون إليه منها، فلا يجوز عليهم إلا ما يصلح للاستدلال والاستناد، ولا يذكرون منها شيئاً إلا مع بيان مخرجه ورتبته حتى يكون الواقف على بينة مما لو التزمه كل عالم كما هو الواجب ؛ لما راجت الموضوعات والواهيات بين الناس فأفسدت عليهم كثيراً من العقائد والأعمال.
وكان ابن باديس كثير الدعوة إلى الاقتصار على الصحيح من المرويات، ومحاربة الضعيف، وعدم روايته إلا مع بيان رتبته، لتحذير الأمة منه ومحاربة الآثار السيئة التي يتركها الحديث الضعيف ـ عند رواجه في عموم الناس ـ على مستوى الفكر والاعتقاد والعلوم والسلوك.
ويرى ابن باديس أن الطالب الذي يعده للتغيير الإسلامي المنشود لابد وأن يكون قد أخذ حظه من الثقافة الحديثية إيماناً منه بأن السنة النبوية الشريفة مصدر أساسي لفهم الإسلام الفهم الصحيح، وبالتالي للوصول إلى تطبيقه التطبيق السليم، وطالب العلم الشرعي ما لم يأخذ حظه الكبير من السنة، وما لم يتضلع في علوم الحديث فإن فهمه للإسلام سيكون فهماً قاصراً أو منحرفاً قائماً على النقص من هذا الدين أو الزيادة فيه وكلاهما فهم يجر إلى أوخم العواقب وأسوأ النتائج.
ولما كان علم «مصطلح الحديث» بمثابة المدخل الطبيعي لعلوم السنة، ذلك: أنه مجموعة من المباحث والمسائل يعرف بها حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد، فقد قرره على تلاميذه إلى جانب اهتمامه بالمصطلح، فإنه ـ أي الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ قد اهتم بعلم الرواية الذي يقوم على النقل المحرر الدقيق لكل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ولكل ما أضيف من ذلك إلى الصحابة والتابعين على الرأي المختار.
ولما كانت دواوين السنةكثيرة ومراجعها متعددة، فهناك الصحيحان وهناك الجوامع والمسانيد والمعاجم والمستدركات والمستخرجات والأجزاء، ولكن تبقى كتب السنة وهي البخاري ومسلم، وسُنن أبي داود، والترمذي والنسائي وابن ماجه على قول أو موطأ الإمام مالك على قول ثان؛ في المحل الأرفع والمكان الأول، ولكل كتاب من هذه الكتب ميزة خاصة فالبخاري بالفقه ومسلم بإيراد كل الروايات والطرق للحديث، والترمذي يُعنى بالحديث، وأبو داود حصر أحاديث الأحكام، وابن ماجه حسن التبويب في الفقه، وأما النسائي فقد توافرت له أكثر هذه المزايا.
ولكن ابن باديس اختار من بين هذه المدونات والمصنفات موطأ الإمام مالك بن أنس، وذلك لجملة من الاعتبارات والأسباب منها:
– السبب الأول: نفي التهمة التي كان أعداء الإصلاح، وخصوم ابن باديس ـ رحمه الله ـ يرفعونها في وجهه وهي أنه صاحب فكر دخيل، لم يحترم فيه المرجعية التي كانت سائدة في هذه الديار، ويذكر الشيخ ابن باديس ـ رحمه الله ـ موقفه في ذلك من خلال مقالة بعنوان «عبداويون» ثم «وهابيون» ثم ماذا؟ لا ندري والله.
– أما السبب الثاني فهو القيمة العلمية للموطأ، فهو كتاب حديث ورواية، وهو كتاب فقه ودراية، فقد اعتنى فيه صاحبه بالمرويات، ووضع لتحقيق ذلك منهجاً دقيقاً متقناً، يدل على إمامته في هذا الفن، وهو أمر أطبقت عليه شهادات المحدثين، قال الإمام الذهبي: اتفاق الأمة على أنه حجة الرواية.
كما اعتبر الإمام البخاري ـ صاحب الصحيح ـ أن أصح الأسانيد على الإطلاق هو: مالك عن نافع عن ابن عمر، ويذهب أبو داود صاحب السنن إلى أن أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، ثم مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: روى الترمذي في آخر سننه عن يحي بن سعيد القطان أنه قال: ما في القوم أحد أصح حديثاً من مالك بن أنس.
– وهناك سبب ثالث في نظري، لاهتمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالموطأ للإمام مالك، وهو تأثر هذا الأخير بعالمين جليلين من علماء الأندلس وهما ابن عبد البر المتوفي 493هـ وأبو بكر بن العربي 543هـ، وكلاهما له إعتناء بالموطأ وإحتفاء به، إذ شرحه الأول بشرح مستفيض، حافل بالفوائد وسماه بـ «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد». وشرحه الثاني شرحاً وافياً وعنوانه: بـ «القبس شرح موطأ مالك بن أنس».
وكان الشيخ ابن باديس يملك نسخة من القبس وأخبرأنها كاملة، وقد بذل جهداً لكي يخرجها لكن المنية عاجلته، فقال في ترجمته لابن العربي: وصنف في غير فن تصانيف مليحة كثيرة مفيدة منها.. وكتاب المسالك في شرح موطأ مالك: منه نسخة في مكتبة الجزائر بها نقص، وعندنا منه جزء فيه ما يكمل ذلك النقص.
تلك هي أهم العوامل التي كانت وراء اهتمام ابن باديس بالموطأ، والتي يمكن ردها إلى سبب رئيسي وهو أن الشيخ ابن باديس وجد في الطريقة التي اتبعها الإمام مالك رحمه الله المنهجية المثلى في تكوين العالم الجامع بين الفقه والحديث وبين الرواية والدراية، فعبر عن ذلك بقوله: «وإذا رجعت إلى موطأ مالك سيد أتباع التابعين، فإنك تجده في بيان الدين قد بنى أمره على الآيات القرآنية وما صح عنده من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وما كان من عمل أصحابه الذي يؤخذ منه ما استقر عليه الحال آخر حياته». لذا اهتم الشيخ عبد الحميد بن باديس بالموطأ للإمام مالك وانبرى لتدريسه على الطريقة السلفية، لطلابه في الجامع الأخضر، وختمه كله في فترة ناهزت على خمس عشرة سنة وأقيم بالمناسبة حفل مشهود.
مراجــع البحث:
1. د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت ، ط 1، 2016م، ص (324 : 329).
2. جلال الدين السيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، تحقيق أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار الكوثر، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، رجب 1415هـ، ص 3 ـ 4.
3. د. عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، الشركة الجزائرية للنشر، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1417هـ – 1997م، (2 / 388)،(4 / 68).
4. صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة عشرة، 1984م، ص 107.
5. د. محمد الدراجي، الشيخ عبد الحميد بن باديس السلفية والتجديد ، دار قرطبة، الجزائر، ط1، 1428 هـ – 2007 م، ص 106 – 108.