يوم رحلَ الشيخ عبد الحميد ابن باديس استدعاء الـمشهد الـمهيب
بقلم: عيسى عمراني-
إنّ أقلّ ما ينبغي أن يقوم به جيل تجاه سلفه الصالح أن يذكره ويدعو له ويستحضر ما قام به من أجل أن يحيا الخلف حياة كريمة، دون أن تتكرر معاناته.
والإمام “عبد الحميد ابن باديس” واحد من أولئك الأسلاف الذين ظلوا مضرب المثل في التضحية والتفاني والإيثار، وقد سال في ذلك حبر كثير، ونستحضره في هذه الرّقوم في ذكراه الثمانين، من خلال مشهد وفاته وموكب جنازته، ذلك اليوم المشهود.
قد قام الرّجل في زمن وجيز بما لم تقم به جماعة في وقت مديد، فكان بحق أمة في واحد أو “أمة في رمّة” كما وصفه رفيق دربه الشيخ “البشير الإبراهيمي، (والرِّمّة بكسر الراء في اللغة: العظم البالي، وبضمها: القطعة البالية من الحبل )، وهذا لتعدد مواهبه واتساع دائرة انشغالاته ومسؤولياته، ومجالات نضاله -رغم جسمه النحيف – إن على مستوى التعليم الذي أعطاه النصيب الأوفى، أو الدعوة والإصلاح والسياسة والخطابة والكتابة وغيرها، مسخرا كلّ طاقته ونشاطاته لبلوغ غايته السامية -إذ لا معنى للحياة إن خلت من مثل أعلى – فلم يدع بابا من أبواب الإصلاح إلاّ وطرقه للنهوض بها، خدمة لأمته وإحيائها من جمود وركود خيّم عليها لعقود من قبل المستدمر الفرنسي المستبد وأعوانه.
ظلّ الشيخ يقوم بعمله اليومي دون راحة، ولم يتأخر عن نشاطه التعليمي إلاّ ثلاثة أيام قبل أن يتوفاه الله، لمّا تدهورت حالته الصحية على حين غِرّة، وراح يصارعها وهي تزداد سوءا يوما بعد آخر، وبقي يقاوم في تجلد ويتحمل ويكابد، دون أن يفصح بذلك أو يكشف لمقربيه عما يعاني منه، فتفاقم الأمر وأنهكه الضر ولم يعد قادرا على بذل أدنى جهد، وهذا للمرة الأولى في حياته، وهو الذي ظلّ يتمتع بصحة وعافية طوال حياته، لم يشكُ من أي علّة في جسمه، أو كما يبدو ذلك للعيان، ولم يكن يستعمل نظارات في أثناء القراءة، وها هو اليوم يستسلم للفراش، ويضطر إلى تعطيل نشاطه، مستأذنًا من تلامذته، طالبًا منهم أخذ إجازة لمدة أسبوعين، ولم يعتادوا على أكثر من ثلاثة أيام عدا العطل المقررة، وعندما يستفسرون شيخهم محتارين، يجيبهم خائر القوى وهو يئن “إنّي متهالك.إنّنيمريض للغاية، فاعذروني” يقولها وهو يتقلب وعيناه غائرتان (وهما اللتان كانتا ثاقبتين تقدحان شررًا فطنة وذكاء) وشَعرُ لحيته منفوش مبعثر، ثمّ يتمدد على بطنه، واضعًا رأسه بين يديه، من شدة الألم الذي يمزق أحشاءه ولم يطق مقاومته إلاّ بإخراج آهات متتالية مندفعة من الأعماق.
يحدث ذلك والإمام يعاني منعزلا وحيدا بين جدران غرفة ضيقة بمدرسة التربية والتعليم، اتخذها منذ فترة مقرا لإقامته واستقبال ضيوفه من علماء تونس والمغرب، ورجال جمعية العلماء..
اشتد الألم بالشيخ فنقل إلى البيت العائلي، وهناك أحاط به والده وإخوته منهم “الزبير” و”عبد الحق “أصغرهم وتلميذه، وأختهما “البتول”… وقد خيم على البيت جو كئيب مهيب، وصمت رهيب، وحزن عميق
مرض الأسد الهصور الذي كان يهابه الجميع، وظلّ مصدر قلق الإدارة الفرنسية، حتى وهو على فراش الموت، فقد كانت تصفه بالعدو الأكبر للفرنسيين وأعوانهم من الجزائريين، وكان له تأثير قوي على الأهالي
نعم لقد عاش الرجل طودا شامخًا ثابتا على مبادئه، لا مبدّلا ولا مغيّرًا لم يهتز ولم يحد عنها قيد أنملة حتى أتاه الله اليقين.
زاره والي قسنطينة ساعات قبل أن تفيض روحه إلى بارئها، مقترحا عليه -وهو على تلك الحال – أن يصرّح بندمه على توريط جمعية العلماء في السياسة، وأنه لا يحمل حقدا لفرنسا، وهنا حاول الشيخ أن يقوم من فراشه ولكن دون جدوى ثم قال لمن حوله: «أخرجوني من هنا أو أخرجوه» وخرج الوالي مذموما مدحورا، يجر أذيال الخيبة والفشل، وكان هذا آخر موقف له.
كيف لا وقد قال يومًا لرفيقه “التبسي”.. أمّا أنا فو الله لو قال لي الاستعمار قل: لا إله إلا الله، ما قلتها”.
كان الوالد يمسك بيد ابنه الذي باتت علامات الفراق تبدو جليّة على وجهه الشاحب، مترقبا حالته لحظة بعد أخرى، بعدما يئس من محاولات العلاج عن طريق الحكيم ابن جلول ابن خال الإمام، الذي اقترح الاستنجاد بالطبيب الفرنسي الشهير “ليفي فلانسي” نظرا لخطورة حالته وتدهورها، ويتنقل الطبيب من العاصمة، ولكنه يقف عاجزا أمام قضاء الله وقدره، وكان الشيخ مدركا حالته وأحس بدنو أجله، ولم يخش الموت وهو الإنسان المؤمن الصبور، وقد علّق ذات يوم على صرخة قوية انبعثت من فرنسي اصطدمت سيارته بأخرى، معللا ذلك بفراغ قلبه من الإيمان بالله، لأن الإيمان يحفظ للمؤمن ثباته واطمئنانه عندما تحل به الملمات، وتفاجئه الصدمات مهما كانت عظيمة.
فاضت روح الإمام الجليل ورجعت إلى ربها راضية مرضية، بعد ظهر يوم الثلاثاء التاسع من شهر ربيع الأول العام 1359 للهجرة، الموافق السادس عشر من شهر أفريل 1940 للميلاد ولم يتجاوز خمسين عاما وبضعة أشهر، وإنه لعمر قصير ولكنه مديد.
غطى الوالد وجه ولده (البِكر) وعبراته تنهمر على خديه متمتما: رحمك الله يا ابني، وأدخلك الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا..
كما بكاه إخوته وأخواته في هدوء، ولكن أخته الباتول لم تتمالك نفسها، وراحت تبكي بحرقة أخاها “سيدي حامد”(كما كانوا يدعونه) معددة مناقبه رفقة نساء الجيران اللائي أقمن عليه مأتما وعويلا، ويدخل الوالد الغرفة مواسيا ابنته مؤنبا إياها مطمئنا بأن شقيقها سيكون -إن شاء الله- من خيرة شباب الجنة، ثم يطلب منها أن تدعو له بالرحمة، ولهم جميعا بالصبر.
غُسّل الفقيد ووضع جثمانه على نعش بفناء البيت، وأذّن “البرّاح ” في الناس معلنًا نعي الشيخ، فاهتزت المدينة من أركانها، وهرع السكان شطر البيت يتوافدون عليه فرادى وزرافات، ليودعوا معلم الأمة وإمامها وزعيمها.وراح الخبر المفزع ينتشر ويتوسع عبر ربوع البلاد من أقصاها إلى أقصاها، بسرعة البرق كالنار في الهشيم، وظل البيت يعج بزواره الذين ظلوا يتهافتون عليه ويتزايد عددهم ساعة بعد أخرى إلى اليوم الموالي، متأثرين بمصابهم الجلل، وألسنتهم لاهجة مردّدة: “لمن تركتنا يا عبد الحميد”.
أثارت وفاة الشيخ المفاجئة ضجة بين الأوساط المحلية والوطنية والعالمية، وبلبلة على ألسن الناس، فمنهم من أشار بأصبع الاتهام إلى السلطات الفرنسية ومكائدها، فرآها المسؤولة عن وفاته، فزعموا أنه قُتل مسمومًا، ومنهم من ردّه إلى مرض باطني (سرطان بالأمعاء ) كان يعاني منه جسمه النحيف ولم يعالجه، في ظل تخاذل من هم حواليه، ومنهم من أرجعه إلى الإرهاق الشديد نتيجة العمل الدؤوب الذي كان يقوم به دون انقطاع ما يقرب من ثلاثة عقود ،فأنهكه العياء، وفريق رده إلى بثٍّ وحزنٍ نجَما عن استيائه من أوضاع البلاد والعباد.
تكفلت “جمعية التربية والتعليم الإسلامية – التي أسسها الشيخ العام 1930- بتنظيم مراسيم الجنازة والدفن الذي تم يوم الأربعاء السابع عشر من شهر أفريل بعد العصر، فانتقت ثلاثمائة شاب منها، تولوا القيام بإعطاء الإرشادات العامة للمشيعين، حفاظا على النظام، منهم شباب من دار الأيتام التي كان يديرها “الزبير” أخ الإمام، وتكفل تلامذته وطلبته من الجامع الاخضر بنقل الجثمان، حتى لا يتهافت المشيعون على النعش بنية المشاركة في حمله، مما قد يؤدي إلى الفوضى أو بعض المواقف والعادات التي لا تمتُّ للدين بصلة، فخُصّص لذلك أربعة وثلاثون شابا، يتناوبون على الحمل أربعة أربعة.
شاركت في الجنازة مختلف الجمعيات الإسلامية: التربية والتعليم، وجمعية العلماء، وجمعية السلام، والكشافة الإسلامية بأفواج: الرجاء، والإقبال، والحياة السطايفية، وتلاميذ المدارس العربية والفرنسية، والنساء، ومختلف الهيئات والشخصيات، وقد ناهز عدد المشيعين مئة ألف، ولم يكن عدد سكان قسنطينة آنذاك يتجاوز نصفه، فقد قدموا من كل حدب وصوب، ولو أجل الوالد الجنازة ليوم آخر، ولم تمنع السلطات الاستعمارية الحشود المتوافدة لتضاعف العدد -حسب شهود عيان – ولغصت شوارع المدينة بالبشر، وجاء هذا المنع نتيجة حالة الطوارئ التي فرضت على البلاد بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، فلم يسمح بالتنقل إلا لمن يحصل على رخصة السفر، ولكن الحدث كان أكبر وأجلّ في النفوس من حظرهم، فجعل أعدادا كثيرة تخترقه متتسللة إلى المدينة.
سار الموكب الجنائزي في يوم مشهود يتقدمه الشيخ العربي التبسي ومبارك الميلي والدكتور ابن جلول، تحت أعين السلطات الفرنسية التي كانت تتابع هول المشهد بحذر واهتمام وترقّب وتأهب، مشدوهة أمام السيل العرم والجيش العرمرم، الذي ظلّ يتكاثف ويتكاتف، كل بضع خطوات من مساره، بعد التحاق المتوافدين من مختلف المناطق، وغاب عن حضور الجنازة رفيق دربه الشيخ “الإبراهيمي” الذي كان في منفاه بـ”آفلو” من ولاية الاغواط، وا”لطيب العقبي” الذي انسحب من الجمعية من قبل بسبب خلاف مع رئيسها (ابن باديس) وأعضائها واختلاف في الرؤية حول موقفها من ألمانيا تجاه فرنسا عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقد قوبل هذا الغياب باستياء كبير من طرف إخوانه ،وحرّر له الأستاذ حمزة بوكوشة رسالة لوم وعتاب.
وصل الموكب إلى مقبرة عائلة آل باديس بحي الشهداء (حي مزيان سابقا)، وتقدّم الشيخ العربي التبسي للصلاة على الجنازة بالمقبرة، لتتلى كلمات تأبينية من قِبله، ومن طرف الشيخ مبارك الميلي، والدكتور محمد الصالح بن جلول.
وقف الشيخ “مبارك” على صخرة عالية يؤبن أستاذه ورفيقه، مستفتحًا بقوله تعالى: “بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير…” ولم يتمالك نفسه من شدة التأثر، فخرّ مغشيا عليه، ليحمل سريعًا بعيدا، ثمّ ينقل إلى بيته، أين ظل طريح الفراش هامدا مدة أسبوع، لم ينبس خلالها ببنت شفة، وقد كان يعاني من مرض السكري فترة طويلة، واشتد عليه بعد هذه الفاجعة وكان سببا في وفاته مبكرا سنة 1945 ، ولم يبلغ الخمسين.
وترك الشيخ التبسي في كلمته عبارته الخالدة: “..لقد كان الشّيخ عبد الحميد ابن باديس في جهاده وأعماله هو الجزائر كلّها، فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس”.
وممّا جاء في كلمة الدكتور ابن جلول المطوّلة “ها أنا أقدّم باللغة الفرنسية أمام هذا القبر احتراماتي السامية للشيخ عبد الحميد ابن باديس… لقد أصبح الشيخ ابن باديس اليوم غير موجود، لكن اسمه لم يمت بالنسبة لعائلته وأصدقائه، وقد خلّد اسما مشهورا بعده، وأجمل من العالم أجمع، بما فيهم المسلمون والمسيحيون والإسرائليون، وقد كوّن مدرسة وصنع أجيالا من الصفوة المختارين من الدين ومن مذهبه.
أغدق الله عليه شآبيب رحمته، وبكل أسى وحزن، ستشعر بفقدانه قسنطينة كلّها، والجزائر بأكملها، والعالم الإسلامي. لقد انطفأت شخصية رائعة، إسلامية جزائرية، ونحن جميعًا نبكيه اليوم… شكرا لكم أيها الحاضرون الذين أتيتم من بعيد للبكاء على هذا القبر الذي هو عزيز علينا جميعًا. وداعًا أيّها الشيخ ابن باديس، وداعًا يا حبيب الخير، ويا رفيق العلي القدير” وكتب الشيخ الإبراهيمي من منفاه خطابا عن هذه المصيبة التي حلّت بالجزائر والعالم الإسلامي، بعث به إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني ومما جاء فيه: “..أعتقد أن الراحل أخي العزيز لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريبا دون بعيد.. واحسرتاه ..رحم الله الراحل العزيز، جزاء ما بث من علم وزرع من خير، وثقّف من نفوس، ولله ذلك اللسان الجريء، وذلك الجنان المشع، وذلك الرأي الملهم، وإنّا لفقدك يا عبد الحميد لمحزونون”.
صحيح لم يترك ابن باديس صاحبة ولا ولدا (فزوجه سُرّحت بإحسان، ونجله الوحيد توفي في حادثة يافعًا يانعًا)،ولكنه خلّف من بعده أمة تذكره وتشكر له صنيعه، فكان لفراقه أثر بالغ وجرح عميق في قلوب الشعب الجزائري، و الشعوب العربية والإسلامية من مختلف أنحاء المعمورة، كما ترك فراغا رهيبا في أوساط العلماء وأنصار الحركة الإصلاحية من أتباع الجمعية ومن غيرها، لكن موته أحيا فكْره وفكَره (أفكاره) النهضوية الغزيرة، ومواقفه الثورية الجريئة، فاحتضنها أتباعه ومحبوه من الأخيار والرجال الأطهار، فراحوا يصدعون بها ويصدحون، فعبّأت المجتمع وفكّت قيوده وأعدته ليوم الملحمة.
رحم الله فقيد الجزائر والأمة العربية والإسلامية، هذه وقفة على طلل، للتذكّر والتأمل، فلنعمل بوصية الشيخ التبسي تجاه من عاش لأجل الإسلام والجزائر، خاتم القصيدة المولدية بقوله:
هذا لكم عهدي به حتى أوسّد في التُّرب
فإذا هلكتُ فصيحتي تحيا الجزائر والعرب