شرعة الحرب في الإسلام
بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
من لوازم الحرب سفك الدماء, والدماء في الإسلام محترمة معصومة إلاّ بحقها, وليست عصمة الدماء خاصةً بالمسلمين في حكم الإسلام، بل مِثْلُهم في ذلك ثلاثة أصناف من الكتابيين وهم الذميون الذين استقروا في دار الإسلام وفي ذمته, والمعاهدون الذين استقروا فيها بعهد محدد بأجل, والمستأمنون وهم كل من دخلها بأمان مؤجل أو غير مؤجل؛ فهذه الأصناف دماؤهم معصومة كدماء المسلمين, ولا يجوز للحاكم كيفما كانت سلطته أن يستبيح دم أحدهم إلاّ بحقه.
وأول حق يكتسبه المسلم بإسلامه, أو الذمي ومَنْ معه من الأصناف المذكورة هو عصمة دمه وماله, فإذا سفك دمَ غيره عَدْوًا بغير حق استبيح دمه, ورفعت العصمة عنه بما كسبت يداه, وإذا أخذ مال غيره بغير وجه شرعي أخذ من ماله بقدره من غير زيادة، ولا إجحاف، ولا ظلم.
فالحرب في الإسلام لا تكون إلاّ لمن آذنه بالحرب, أو وقف في وجه دعوته يصدّ عنه المُستَعِدِّين لتلقيها, والإسلام في أعلى مقاصده يعتبر الحرب مفسدة لا تُرْتَكَبُ إلاّ لدفع مفسدة أعظم منها, وأول مفسدة شرعت الحرب لدفعها مفسدة الوثنية, ومفسدة الوقوف في سبيل الدعوة الإسلامية بالقوة.
ولو أن قريشًا لم يقفوا في طريق الدعوة المحمدية, وتركوها تجري إلى غايتها بالإقناع لما قاتلهم محمد – صلى الله عليه وسلم - ولكنهم بدأوها بالعدوان، والتقبيح, والحيلولة بينها وبين بقية العرب, والقعود بكل صراط لصد الناس عنها.
ومن اللطائف الحكمية أن القتال لم يشرع في القرآن بصيغة شرع, أو وجب, أو غيرهما من صيغ الأحكام, وإنما جاءت الآية الأولى فيه بصيغة الإذن المشعرة بأنه شيء معتاد في الاجتماع البشري, ولكنه ليس خيرًا محضاً ولا صلاحًا سرمدًا, وإنما هو شر أحسن حالاته أن يدفع شرًا آخر.
ومما وقر في نفوس البشر أ ن بعض الشرور لا تدفع بالخير, ولا تنقصم إلاّ بشر آخر.
وإذا كانت الأحكام على الأشياء إنما هي بعواقبها وآثارها فإن الشر الذي يدفع شرًّا أعظم منه يكون خيراً كقطع بعض الأعضاء لإصلاح بقية البدن, وكقتل الثلث لإصلاح الثلثين كما يؤثر عن الإمام مالك, قال - تعالى -: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ].
ففي قوله - تعالى -: [يُقَاتَلُونَ] وفي قوله: [بأنَّهُمْ ظُلِمُوا] وفي قوله: [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] بيان للشروط المسوِّغةِ للحرب في الإسلام تحمل عليها نظائرها في كل زمان.
شرعت الحرب في الإسلام أي أذن فيها بدستور كامل للحدود التي تربطها, وتحدد أولها وآخرها, وتخفف من شرورها, وتكبح النفوس على الاندفاع فيها إلى الخروج عن الاعتدال، وتعدي الحدود.
وإذا كان الإسلام الذي هو آخر الأديان السماوية إصلاحاً عاماً لأوضاع البشر فإن أحكام القتال فيه إصلاح وتهذيب لمسألة طبيعية فيهم وهي الحرب.
إن أحكام الحرب في الإسلام مثال غريب في تاريخ العالم: ماضيه وحاضره يصور الحرب عذابًا تحفّه الرحمة من جميع جهاته, ويتخلله الإحسان في جميع أجزائه.
ولو وازناها بالقوانين المتبعة في الحروب إلى يومنا هذا, وقارنا أسبابها في الإسلام ببواعثها اليوم لوجدنا الفروق أجلى من الشمس.
ولو لم يكن من مظاهر العدل في الإسلام إلاّ قوانينه الحربية لكان فيها مَقْنَع للمنصفين باعتناقه؛ ذلك أن الحرب تنشأ عادة عن العداوات والمنافسات على المصالحِ الماديةِ,والعداوةُ مِنْ عمل الشيطان يوريها بين أبناء آدم؛ ليرجعوا إلى الحيوانية الضارية التي لا عقل لها, ولا رحمة فيها, ولا عدل معها؛ فجاء الإسلام بتعاليمه السامية المهذِّبة للفطرة، المُشَذِّبة للحيوانية, فحددت أسباب الحرب وأعمالها تحديدًا دقيقًا, وحرمت البغي والعدوان, وقَيَّدتها بقوانين هي خلاصة العدل، ولبابه حتى كأنها عملية جراحية تؤلم دقائق؛ لتترك الراحة والاطمئنان العمرَ كلَّه.
حرم الإسلام التعذيب والتشويه والمُثْلَةَ في الحرب, أوصى بالأسرى خيراً حتى جعل إطعامهم والإحسان إليهم قربة إلى الله, أمر بألا يُقْتَل إلاّ المقاتل, أو المُحَرِّض على القتال, أو المظاهر على المسلمين, نهى وتوعد عن قتل النساء والصبيان والشيوخ الهَرْمَى والقَعَدَة والرهبان المنقطعين في الصوامع, نهى عن عقر الحيوان المُنْتَفَع به, نهى عن إتلاف الزرع وإحراق الأشجار وقطعها.
وما وقع ليهود المدينة إنما هو تصرف خاص لحكمة, لا تشريع عام للتشفي والانتقام.
ووصية أبي بكر- رضي الله عنه - للجيش هي الكلمة الجامعة في هذا الباب, وهي التطبيق العملي لمجملات النصوص من الكتاب والسنة.
وما نسبة هذه الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام من قبل أربعة عشر قرناً إلى ما يجري في حروب هذا العصر الذي يَدْعُونه عصر النور والعلم والإنسانية والمدنية - إلاّ كنسبة نور النهار إلى ظلمة الليل.
أين ما يرتكب في حروب هذا العصر المدني من تقتيل النساء, وبَقْرِ بطونهن على الأجنة, ومن قتل الصبيان والعجزة, وهدم البيوت بالقنابل الجوية, والمدافع الأرضية على من فيها, ومن هدم المعابد, ومن تسميم المياه والأجواء, وإحراق الناس أحياءً، إلى القنبلة الذرية التي لا تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم؟
أين هذه الموبقات من تلك الرحمة الشاملة التي جاء بها الإسلام؟ والإسلام يعتبر السلم هو القاعدة, والحرب شذوذ في القاعدة؛ لأن الإسلام دين عدل، ورحمة، وعمران، وعصمة في ما يسميه علماء الإسلام بالكليات الخمس وهي: الدين, والعقل, والعرض, والمال, والنسب.
والدين هو ملاك التهذيب النفسي, والعقل هو قسطاس الآراء التي تقوم عليها الحياة, والعِرْض هو مقياس الشرف الإنساني, والمال هو قوام الحياة, والنسب هو مناط الفخر, وملاك القوميات والنظام التفاضلي والتنافس المحمود, فإذا انهارت هذه الكليات ارتكست الإنسانية, وتردت إلى الحيوانية؛ فحاطها الإسلام بحصون من الأحكام المنيعة.
ولحرص الإسلام على السلم جاءت آية الأنفال آمرةً بالجنوح له كلما جنح له العدو؛ حتى لا يُسْبَقَ المسلمون إلى فضيلة.
والإسلام يأمر بالوفاء لذاته, ويجعله من آيات الإيمان, وينهى عن الغدر, ويجعله شعبة من النفاق, يأمر بالوفاء حتى في الحرب التي هي مظنة الترخيص في الأخلاق, والتساهل في الفضائل, يقول –تعالى-: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ].
ويقول في وجوب انتصار المسلم للمسلم: [إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ], ويقول: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ].
هذه هي آداب الحرب في الإسلام وأعماله.
* كلمة ألقاها الشيخ من إذاعة صوت العرب بالقاهرة, 5 جوان 1955, وهي منشورة في كتاب: آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 5/ 92-94 .