بين ابن باديس والعقبي... وبرقية التأييد
حسن خليفة

بين ابن باديس والعقبي… وبرقية التأييد

بقلم: حسن خليفة-

ثمة نقاط ظلت، في بعض منعطفاتنا التاريخية الوطنية في بعض المراحل، وفي المراحل الحسّاسة والمتميزة خاصة، والواجب الأخلاقي والعلمي أن نعمل على بيان تلك النقاط وإظهار وجه الحق والحقيقة فيها .يتصل هذا الأمر بالثورة التحريرية المظفرة، كما يتعلق بمحطات تاريخية أخرى.

من تلك النقاط ما تعلّق بالعلاقة بين الشيخين الكريمين العلامة عبد الحميد ابن باديس والشيخ الطيب العقبي، عليهما من الله تبارك وتعالى شآبيب الرحمة، في شأن برقية طلب العقبي إرسالها قبل الحرب العالمية الثانية بقليل لتأييد الحكومة الفرنسية، ورفض الشيخ ابن باديس والمكتب الإداري للجمعية ذلك.. فما هي القصة؟.

تناول هذه المسألة أكثر من كاتب ومهتم: كالدكتور عبد الكريم بوصفصاف، والدكتور أبو القاسم سعد الله وغيرهما، ولعل أكثر من أهتم بسرد الوقائع بشكل مؤثر هو الأستاذ حمزة بوكوشة في كتابه: “مارأيتُ وما رويتُ “( ص 95) .وقد جاء كلام الأستاذ بوكوشة موضحا للمسألة.

اشتدّ طلب الشيخ العقبي لابن باديس حيث قال: “ونحن نريده في هذا الوقت الحرج ؛حيث إن الحرب العالمية الثانية على الأبواب، وجميع الهيئات (كاتحاد الزوايا، وجماعة الميعاد الخيري)، وقد أشار علينا بعض أحبابنا الذين يدافعون عن قضايانا أن نخرج من هذا السكوت لأن سكوتنا يعتبر عداء”.

عرضوا القضية على ابن باديس وقالوا له: إن سكوت العلماء في هذه الظروف الحرجة مضرّ بها، والأولى أن يصرّحوا بالتضامن مع الحكومة الفرنسية، فقال لهم(ابن باديس): ماالذي صنعته هذه الحكومة معنا من إحسان: مدارسنا معطلة، ومعلّموها يحاكمون محاكمة المجرمين. قالوا له: إن لم يكن تأييد الحكومة، فليكن تضامنا مع الشعب الفرنسي في محنته، فالشعب الفرنسي يجده انصار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الفرنسيين حجة بأيديهم يفنّدون بها مزاعم خصومهم الذين يتهمون الجمعية بالتنكر للسطلة الفرنسية وبغض الفرنسيين، فهم يقولون دائما إن حركة العلماء لا تستحق العطف؛ لأنّ أهدافها ضد السياسة الفرنسية بالجزائر.

فقال ابن باديس: لا أستطيع أن أتحمّل مسؤولية البتّ في هذه المسألة قبل أخذ رأي المجلس الإداري، وذلك تمهيدا للاجتماع العام الذي سيجتمع الأسبوع المقبل ، وأعرض عليه هذه القضية”.

وقد التقى الشيخ حمزة بوكوشة الشيخ الطيب العقبي بعد رجوعه من الاجتماع بيوم واحد من الاجتماع، وكان معهما الشيخ محمد العيد(الشاعر) والشيخ فرحات بن الدرّاجي.فحكي لهم الشيخ العقبي مادار في الاجتماع وقال: متى كان ابن باديس ـفي مواقفه ـ يتوقف على استشارة المجلس  الإداري للجمعية؟

(هذه واحدة من الظنون والاتهام هنا كبير وعريض ومؤذ للشيخ ابن باديس ).

والمعني: ان ابن باديس لم يقبل اقتراح العقبي: الذي رآى في عرض المسألة على المجلس الإداري تكأة ليس غير، والعقبي حريص على تلبية طلب أحباب العلماء من الفرنسيين كالمسيو فيوليت ،خاصة وأن لفيوليت منّة في عنق العقبي؛ “لأنه عندما اتُّهم العقبي بمقتل كحول بعث إليه رسالة وهو وزير دولة يبرّئه فيها، ومما قيل: إن العقبي لمّا وردته الرسالة بعد خروجه من السجن قرأها على جمع حاشد بنادي الترقي، وقال: إذا متُّ فادفنوا رسالة فيوليت معي في قبري ـسامحه الله وتجاوز عنا وعنه ـ فعجب عقلاء النّاس من وصية العقبي هذه وهو المؤمن الموحد، وذكرتهم بمن يوصون أن يدفن معهم جواب سؤال الملكين في القبر”.

ويشير الأستاذ بوكوشة إلى مسار المسألة، بعد ذلك بقوله:

انعقد المجلس الإداري لجمعية العلماء بنادي الترقي وعرض ابن باديس القضية بهدوء وطلب من أعضاء المجلس إبداء رأيهم وكانت الغالبية ضد كتابة البرقية وإرسالها؛ لأنّ ذلك يُظهر الجمعية في مظهر المتملق، فدافع العقبي عن نظريته وهوأن إرسال البرقية ينفي التهم عن الجمعية ولايزيد ها ذلك إلا قوة، فعارضه كثير من الأعضاء، ولم يؤيد نظريته إلاّ قليل منهم، كل ذلك وابن باديس ساكت.

فقال الشيخ العقبي: هذه دروشة. الحرب على الأبواب وإنّ سكوتنا في هذا الوقت الحرج الذي ارتفعت فيه أصوات كل الهيئات بالتأييد يعدّ عداوة سافرة للحكومة (الفرنسية) ويغري خصومنا بنا فتقضي الحكومة على نوادينا ومدارسنا وجرائدنا، ونفسح المجال لخصومنا وهذا أقلّ شيء ينالنا وإذا بعثنا برقية تأييد للشعب الفرنسي لا للحكومة الفرنسية فإننا نجد من هذا الشعب من يقفُ بجانبنا إذا ما تحرّشت الحكومة بنا ونبقى على اتصال بأمتنا ولو في زمن الحرب.

ولما طالت المناقشة دون جدوى طلب الشيخ عبدا لحميد ابن باديس التصويت برفع الأيدي فكانت النتيجة أربعة أصوات منهم العقبي قالوا بإرسال البرقية، وأثني عشر صوتا قالوا بعدم الإرسال، بل منهم من قال: إذاوافقت الجمعية على إرسال البرقية فإنني استعفى (استقيل).وهو الشيخ محمد الطاهر الجيجلي.

ولما انتهى التصويت تكلم ابن باديس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وكان مما قال: “لو أيدت أغلبيتكم إرسال البرقية ما بقيتم تُرئسوني في مجلسكم هذا. كيف نكتب برقية ولاء لفرنسا ومدارسنا مغلقة والتعليم فيها معطّل، وأعضاء جمعيتنا في أعماق السجون: الشيخ عبد العزيز الهاشمي، والشيخ عبد القادر الياجوري وعلي بن سعد، وعبد الكامل.ثمّ قال: بما أن أغلبيتكم قررت عدم إرسال البرقية فإني إذا متُّ أموت قرير العين لما رأيته منكم. فقال العقبي: إن إرسال البرقية ديبلوماسية فنحن نرسلها للشعب الفرنسي لاللحكومة الفرنسية ليعيننا، فسمع من ردّ عليه ولعله ابن باديس: إنه لا فرق بين الشعب الفرنسي والحكومة الفرنسية.

فقال العقبي: إذا لم ترسلوا البرقية فإني استقيل من الجمعية. فقال له الأعضاء: لانرسل البرقية ولانقبل استقالتك. ولما ألحّ وهدد بالاستقالة قال له الشيخ الشيخ العربي التبسي: نرسل البرقية ويمضيها الشيخ العقبي. فقال له العقبي: يمضيها ابن باديس. فقال ابن باديس: لن إمضيها ولن أرسلها.

المسألة التي دعت العقبي إلى الاستعفاء هي برقية تملّق للحكومة اقترح ارسالها فقرر المجلس الإداري للجمعية بأغلبية عدم إرسالها. وكيف نرسل برقية ولاء ومدارسنا معطلة وأعضاء جمعيتنا في السجون. ودافع العقبي عن فكرته علانية وخوّف َ من الحكومة وحذّر، فتعالت الهتافات ضده أن اسكت. وهذه أول مرة قاطع فيها الجمهور العقبي في الجزائر.

وقال ابن باديس: إني أقولها صراحة واجتماعنا هذا لا يخلو من جواسيس رسميين وغير رسميين. إني لن أمضي البرقية ولن أرسلها ولو قطعوارأسي. وماذا تستطيع فرنسا أن تعمل. إن حياتنا حياة مادية وحياة روحية معنوية. تستطيع فرنسا القضاء على حياتنا المادية بقتلنا وسجننا ونفينا وتشريدنا، ولكنها لن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.