المسألة الوطنية في منهج ابن باديس
بقلم: التهامي مجوري-
لأول مرة -فيما أعلم- يصدر كلام عن أعلى هيئة في الدولة الجزائرية بهذا الوضوح والتقدير العالي تثمينا للجهد الباديسي الذي يجمع كل الجزائريين على إيجابيته في البناء الوطني الفعال، وأتمنى أن يجد هذا الكلام الراقي والعاقل والمتزن طريقه في مشاريع بلادنا التنموية؛ لأنّ مشكلاتنا منذ استرجاع السيادة الوطنية ونحن نعاني من التفريق بين النظر والتطبيق، وتمزيق الهوية وتحويلها أشلاء بما نصطنع من أوهام ثقافية وسياسية متناحرة، وباصطناع الصراعات الوهمية التي أودت بمائتي ألف من أبناء الجزائر في سبيل وهم لم يشهر في حينه انه وهم. ولم نهتد يومها إلى أن ما نقوم به وهم، سواء بصم آذاننا عن الاستماع لمنطق العقل أو بالترويج لروح الانتقام وتصفية الحسابات التي كانت وبالاً على المجتمع.
إنّ ابن باديس -رحمه الله- توصل إلى تلك المعاني السامية، وإلى تحقيق تلك المكاسب العالية، ليس بالتغني والتمني، وإنمَّا كان باجتهادات عالية المستوى تركها بعده كقوانين حارثة في الأرض زارعة فيما يشبه الأمثال الشعبية يتداولها تلامذته وتلاميذ تلامذته والحكم الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الأصول العشرين التي سماها أصول دعوة جمعية العلماء، التي تعبر عن دستور ثقافي أخلاقي عقدي يعمل على مد الجسور مع الإنسانية إلى أبعد حد ممكن في إطار ما يخدم الإنسان بجميع انتماءاته.
فقد انطلق من دائرة الأسرة التي هي أضيق دائرة، فاتجه إلى تعميم فكرة تعليم المرأة لأنَّ من علم ذكر علم شخصاً، بينما من يعلم أنثى فقد علم مجتمعاً؛ لأنَّ تعليم الأنثى ينعكس على حسن رعاية الأطفال تربية وتعليما، وفي نفس الوقت وجه نداءه إلى النخبة في شعاره السياسي المتميز في سنة 1925 “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كلّ شيء”، في إشارة منه إلى المسألة الوطنية في بعديها التاريخي السياسي، ذلك أنَّ الحق الذي ينبغي التمسك به هو أنّ الجزائر وطن مستقل عن فرنسا ولن يكون فرنسا، وكل جزائري معني بهذا الفهم بل لا فهم دونه إلاَّ القبول بالاستعمار كأمر واقع، أما كيفية تحقيق هذه الاستقلالية في وقت لم يُبقِ الاستعمار على شيء خارج هيمنته وسيطرته، وضع ابن باديس شعارا يقول فيه: “فلنعتمد على أنفسنا ونتكل على الله”؛ لأن الاستقلال لا يتحقق إلاّ بالشعور به أولاً، ثمَّ بالعمل على تحقيقه بجميع الوسائل الممكنة، بعيداً عن اليأس والتردد والخوف والإيمان بالقوة المادية..
لقد عمل الشيخ ابن باديس طيلة حياته وفي نضاله قبل إنشاء الجمعية وبعد انشائها وانتخابه رئيساً لها غيابياً، لم يتزحزح عن هذا الخط الذي لا يومن بتحقيق شيء خارج الإرادة الوطنية الجادة..؛ بل عمل في إطار الجمعية على لملمة الشتات الوطني فيما يعرف في تاريخنا الوطني بالمؤتمر الإسلامي، في إطار يجمع شتاتا على قواسم وكنية مشتركة جمعت في إطارها كلّ جزائري صادق يريد النهوض ببلد انهكه الاستعمار وأراد محوه من الوجود بما في ذلك من لم يكن له وجود وامتداد شعبي يؤهله لأن يكون طرفا في التكتلات السياسية والثقافية.
إنَّ جمعية العلماء اليوم وهي تسير على درب مؤسسها وصحبه، تعمل على إحياء هذا التوجه الوطني الخالص الذي تهون أمامه جميع التضحيات وتستصغر جميع المخاطر والمعوقات؛ لأن المصلحة الوطنية أقوى دافع للحفاظ على البلاد وتحقيق استقلالها الكامل غير المنقوص، وذلك لا يتحقق ما لم نقدر أنفسنا حق قدرها فنتمسك بثوابتنا الوطنية الراسخة، ونرتب أولوياتنا ونعمل على استبعاد المشوشات الآنية على حساب القضايا الأساسية للأمة.