الشيخان رحمهما الله تعالى والوهابيـة
إن الشيخين العلامة عبد الحميد بن باديس والظاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عليهما رحمة الله تعالى حرصا على حسن التعامل مع خصومهم، وحين وصفت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأنها وهابية، كان الرّد صريحا لا مجاملة فيه ولا مداهنة في مقالات وكتابات ننقل لكم بعض منها: جاء في آثار ابن باديس (5/ 32 ـ 33) قوله ـ رحمه الله ـ : قام الشيخ محمَّد بنُ عبد الوهَّاب بدعوةٍ دينيَّةٍ؛ فتَبِعه عليها قومٌ فلُقِّبوا ﺑ: «الوهَّابيِّين»، لم يَدْعُ إلى مذهبٍ مُستقِلٍّ في الفقه؛ فإنَّ أتباعه النجديِّين كانوا قبله ولا زالوا ـ إلى الآن بعده ـ حنبليِّين؛ يدرسون الفقهَ في كُتُبِ الحنابلة، ولم يَدْعُ إلى مذهبٍ مُستقِلٍّ في العقائد؛ فإنَّ أتباعه كانوا قبله ولا زالوا ـ إلى الآن ـ سنِّيِّين سلفيِّين: أهلَ إثباتٍ وتنزيهٍ، يؤمنون بالقَدَرِ ويُثْبِتون الكسبَ والاختيار، ويصدِّقون بالرؤية، ويُثْبِتون الشفاعة، ويترضَّوْن عن جميع السلف، ولا يُكفِّرون بالكبيرة، ويُثْبِتون الكرامة، وإنما كانَتْ غايةُ دعوةِ ابنِ عبد الوهَّاب تطهيرَ الدِّين مِنْ كُلِّ ما أَحْدَثَ فيه المُحْدِثون مِنَ البِدَعِ في الأقوال والأعمال والعقائد، والرجوعَ بالمسلمين إلى الصراط السويِّ مِنْ دِينِهم القويمِ بعد انحرافهم الكثير وزَيْغِهم المُبين، لم تكن هاتِهِ الغايةُ التي رمى إليها بالقريبة المَنال ولا السهلةِ السُّبُل؛ فإنَّ البِدَعَ والخرافاتِ باضَتْ وفرَّخَتْ في العقول، وانتشرَتْ في سائر الطوائف وجميعِ الطبقات على تعاقُبِ الأجيال في العصور الطوال؛ يَشِبُّ عليها الصغيرُ، ويشيب عليها الكبيرُ، أقام لها إبليسُ مِنْ جنده مِنَ الجنِّ والإنس أعوانًا وأنصارًا، وحُرَّاسًا كبارًا مِنْ زنادقةٍ مُنافِقين، ومعمَّمين جامدين محرِّفين، ومتصوِّفةٍ جاهلين، وخُطَباءَ وضَّاعين، فما كانَتْ ـ وهذا الرسوخُ رسوخُها، وهذه المَنَعَةُ مَنَعَتُها ـ لِتقوى على فعلِها طائفةٌ واحدةٌ ﻛ: «الوهَّابيِّين» في مدَّةٍ قليلةٍ، ولو أعدَّتْ ما شاءَتْ مِنَ العُدَّة، وارتكبَتْ ما استطاعَتْ مِنَ الشدَّة … إنَّ الغاية التي رمى إليها ابنُ عبد الوهَّاب وسعى إليها أتباعُه هي التي لا زال يسعى إليها الأئمَّةُ المجدِّدون والعلماءُ المُصْلِحون في جميع الأزمان ..” أما العلامة الإمام محمّد البشير الإبراهيميّ رحمه الله، فكتب في العدد 9 من جريدة “السنّة النبويّة المحمّدية” تحت عنوان “تعالوا نسائلكم”، إذ يقول: “ويقولون عنّا إننا وهابيون، كلمة كثر تردادها في هذه الأيام الأخيرة، حتى أنست ما قبلها من كلمات، عبداويين وإباضيين وخوارج، فنحن بحمد الله ثابتون في مكان واحد، وهو مستقرّ الحقّ، ولكنّ القوم يصبغوننا في كل يوم بصبغة، ويَسِموننا في كلّ لحظة بِسِمة، وهم يتّخذون من هذه الأسماء المختلفة أدوات لتنفير العامّة منّا وإبعادها عنّا، وأسلحة يقاتلوننا بها، وكلّما كلّت أداة جاءوا بأداة، ومن طبيعة هذه الأسلحة الكلال (الضعف) وعدم الغناء، وقد كان آخر طراز من هذه الأسلحة المفلولة التي عرضوها في هذه الأيام “وهابي” ولعلهم حشدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها وحفلوا بها ما لم يحفلوا بغيرها، ولعلّهم كافأوا مبدعا بلقب “مبدع كبير”. وواصل الشيخ البشير قائلا: “إنّ العامّة لا تعرف من مدلول كلمة “وهابي” إلا ما يعرّفها به هؤلاء الكاذبون، وما يعرف منها هؤلاء إلا الاسم، وأشهر خاصّة لهذا الاسم وهي أنّه يذيب البدع كما تذيب النّار الحديد، وإنّ العاقل لا يدري ممّا يعجب! أمن تنفيرهم باسمٍ لا يَعرف حقيقتَه المخاطَب منهم ولا المخاطِب! أم من تعمّدهم تكفير المسلم الذي لا يعرفونه نكاية في المسلم الذي يعرفونه! فقد وجّهت أسئلة من العامّة إلى هؤلاء المفترين من “علماء السنّة” (وهي جمعية أسّسها الطرقيون بإيعاز من السّلطات الفرنسية آنذاك مضاهاة لجمعية العلماء) عن معنى الوهابي فقالوا: هو الكافر بالله وبرسوله، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}، أمّا نحن فلا يعسر علينا فهم هذه العُقدة من أصحابنا، بعد أن فهمنا جميع عقدهم، وإذ قد عرفنا مبلغ فهمهم للأشياء وعلمهم بالأشياء، فإنّنا لا نردّ ما يصدر منهم إلى ما يعلمون منه، ولكنّنا نردّه إلى ما يقصدون به، ولا يقصدون بهذه الكلمات إلا تنفير الناس من دعاة الحقّ، ولا دافع لهم إلى الحشد في هذا إلا أنّهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم، ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضجّ مبتدعة الحجاز فضجّ هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رَحِم ماسّة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة “وهابي” تُقذف في وجه كلّ داع إلى الحقّ، إلا نواحا مردّدا على البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهابية، وتحرّقا على هذه الوهابية التي جرفت البدع، فما أبغض الوهابية إلى نفوس أصحابنا، وما أقسى هذا الاسم على أسماعهم، ولكن ما أخفّه على ألسنتهم حين يتوسّلون به إلى التّنفير من المصلحين، وما أقسى هذه الوهابية التي فجعت المبتدعة في بدعهم وهي أعزّ عزيز لديهم، ولم ترحم النفوس الولهانة بحبّها، ولم ترْثَ للعبرات المراقة من أجلها. ثمّ يصحح مفهوما مغلوطا ويدلي بشهادة حق حيث يقول: “يا قوم! إنّ الحق فوق الأشخاص، وإنّ السنّة لا تسمّى باسم من أحياها، وإنّ الوهابيين قوم مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميع المسلمين في هذا العصر بواحدة، وهي أنّهم لا يقرّون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتيسّر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر؟” ويدافع عن منهج الجمعية بقوله:
” أئذا وافقنا طائفة من المسلمين في شيء معلوم من الدّين بالضّرورة، وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندهم -والمنكر لا يختلف حُكمه بحكم الأوطان- تنسبوننا إليهم تحقيرا لنا ولهم وازدراء بنا وبهم، وإن فرّقت بيننا وبينهم الاعتبارات، فنحن مالكيون برغم أنوفكم، وهم حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمل في طريق الإصلاح الأقلام، وهم يُعملون فيها الأقدام، وهم يُعملون في الأضرحة المعاول، ونحن نعمل في بانيها المقاول”. وختم الشيخ البشير كلامه قائلا: “إنّنا نجتمع مع الوهابيين في الطريق الجامعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وننكر عليهم غلوّهم في الحقّ كما أنكرنا عليكم غلوّكم في الباطل، فقَعوا أو طيروا، فما ذلك بضائرنا وما هو بنافعكم”(آثار الإبراهيمي، 01/ 123- 125). في زمن أصبح المرء لا يستطيع أن يقول كلمة الحق في أي موقف ولأي شخص، وإلا ساءت علاقته بالكثيرين. وقد تكون كلمة الحق مكلفة أحيانا إذا كانت تتعلق بموضوعات مهمة وحساسة كالأمور العقدية. بل أصبح من الممكن أن يتنازل الشخص عن الكثير من الأمور ومنها المبادئ التي يفترض عليه أن يتمسك بها كمسلم، وعلى الرغم من أن القيم والمعايير تتبدل في مجتمعنا بشكل أبطأ من التغير المادي، إلا أن البعض تغير لديه الكثير من القيم والمبادئ، ما جعل الشيخ محمد البشير الإبراهيميّ رحمه الله يعلق على هذا بقوله: “قبّح الله خبزة أبيع بها ديني، وأعقّ بها سلفي، وأهين بها نفسي، وأهدم بها شرفي، وأكون بها حجّة على قومي وتاريخي، ولكن أين من يعقل أو من يعي” (آثار الإبراهيمي، 03/ 156).