التجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري -أضواء وملاحظات-
سيف الإسلام بوفلاقة

التجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري -أضواء وملاحظات-

بقلم: د. محمد سيف الإسلام بوفلاقة-

يتبدى للدارس لشخصية الأمير عبد القادر الجزائري جملة من الشخصيات، فهو المجاهد المكافح المغوار، وهو الفارس الذي لا يُشقُ له غبار، وهو الفقيه العلاّمة الموسوعي، البحر الزاخر في شتى العلوم والفنون، وهو المتصوف الشاعر، والشاعر المتصوف، الذي عُرف بتغريده في سماوات الشعر، وتحليقه في آفاقه الرحبة، وطرقه لمختلف الأغراض الشعرية .

ومن خلال هذا البحث نسعى إلى إلقاء بعض الأضواء على تجربة الأمير عبد القادر الشعرية، وذلك من خلال تلمس أهم الأغراض التي طرقها الأمير، بغرض تجلية أهم السمات التي طبعت هذه التجربة، وليس من شك في أن مئات الصفحات لا يمكن أن تُقدم دراسة وافية، وإحاطة شاملة،بشعر الأمير عبد القادر من مختلف الجوانب الفنية، والأسلوبية، والتركيبية.

إن هذه الصفحات تقدم لمحات مقتضبة عن التجربة الشعرية لدى الأمير عبد القادر، وذلك نظراً لاتساع تجربة الأمير، وعمقها، وغموضها في كثير من الجوانب، ولاسيما منها الجانب الصوفي، الذي يحتاج بمفرده إلى دراسات مُستقلة، حتى يتمكن الدارس من تحليله، وتشريحه، وفهم كنهه، وإدراك أعماقه.

وقبل الولوج إلى الكون الشعري عند الأمير عبد القادر، نرى أنه من المفيد أن نقدم لمحة مقتضبة عن شخصيته، ومكانته، مما يُسهم في نفض بعض الغبار عن أفكاره، ورؤاه التي ستنتصب لنا، ونتصدى لها من خلال شعره.

إن الأمير عبد القادر واحد من الشخصيات الفذة التي ستظل الأجيال تذكرها على مر الأزمان، و هو مصباح من المصابيح الوهاجة التي قلما يجود الزمان بأمثالها،وبادئ ذي بدء نقدم هذا الوصف الشامل الذي أورده العلاّمة الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوانه،والذي وصفه به ابنه الأمير محمد في كتابه (تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبد القادر)، إذ يقول عنه: «كان معتدل الطول،مليء الجسم، يعلوه رأس ضخم،يتوجه شعر كثّ مختضب بالسواد.يبرز من بين عينيه الشهلاوين أنف أقنى،مطلّ على فم مطبق،تموج فيه ابتسامة تطمع بحنان ناعم،وراءه حزم حازم،يشع من عينين نافذتين كالكهرباء.يمشي مستقيماً،ويقعد كالمستوفز، وينهض بعزم،إذا ركب وثب إلى ظهر الجواد وثباً،وبقي إلى آخر أيامه يحبّ الخيل،ويداعبها،ويُعنى بها، ولا يسير  إلا مزعاً وإرقالاً.يصحو من نومه قبل الفجر،فيصلّي الصبح حاضراً، ويقرأ ورده المعتاد بصوت هادئ مسموع،ثم يضطجع،فيغفو إلى ما بعد بزوغ الشمس،وينهض ليملأ نهاره بعمل مستمر. لا ينقطع لحظة واحدة عن عمل يؤديه، أو كتاب يستفيد منه، أو مؤلف يعدّه، أو قصيدة ينظمها، أو رسالة يحبّرها… وأكثر رسائله من المطولات. فإذا وجد فضلة من وقت اشترك في خياطة ثوب،أو مباراة بالشطرنج مع أحد أخصائه. وكان يُجيد استخدام الإبرة في السلم إجادته استخدام السيف في الحرب، لا يهدأ ولا يفتر: عاملاً، جاداً طوال يومه، حتى يصلي العشاء الآخرة، فيذهب إلى فراشه ليستريح من عناء نهار كامل،لم يترك فيه دقيقة واحدة بغير عمل،وكان حادّ الذكاء،عجيب الحافظة،بارعاً في تصريف الأمور،شديد التمسك بدينه،حافظاً عهوده ،ووعوده،غير أنه كان عصبي المزاج، عنيفاً في الدفاع عما يعتقد أنه حق، لا يلين للقوة مهما قست وطغت،فيه شيء من عنجهية البادية وعنادها على ليونة في القلب أمام الجمال، وتراخٍ لعزة المرأة»(1).

ولا يختلف اثنان في شجاعة الأمير عبد القادر، وبسالته الخارقة، فلا نعجب عندما يقترح عليه والده الشيخ محيى الدين قيادة الحركة الجهادية، فيُلبي مباشرة دون أي اعتراض على الرغم من حداثة سنه قائلاً: «إن واجبي طاعة أوامر والدي». وقد كان الأمير حاكماً عادلاً،وفارساً مقداماً،وشاعراً خنذيذاً،وقائداً فذاً،فقال عنه العقيد الإنجليزي شارل هنري تشرشل متحدثاً عن شخصيته،وعن نظرة مواطنيه إليه أنهم كانوا ينظرون إليه«بتقديس خرافي إلى رجل يتمتع بشخصية رسمية،ويتقدم بلا خوف دون أن يلحقه أذى حيثما هدد الخطر، فهو مرة يمرق من صفوف الرماة الأعداء،ومرة يطلق النار في شكل تربيعي، ويكتسح حربات البنادق بسيفه، وأخرى يقف دون حراك مشيراً بامتعاض إلى قنابل المدافع وهي تئز حول رأسه، وإلى القذائف وهي تنفجر حول قدميه،فكان الرجل قدوة في الشجاعة والثبات مثل الحلم والعدل مع خصومه أسرى بين يديه،فكان المحارب الموهوب، والحاكم الفذ،فسجل له التاريخ في كل ذلك، وفي جهاده بشكل أخص مواقف بطولية أجبرت أعتى الجنرالات الفرنسيين على إبرام هدنات معه، واتفاقيات كان يستغلها بدوره للتدريب والتنظيم واستيراد السلاح من خارج الجزائر، فمضى على هذا النهج حتى كانت الفاجعة التي اضطرته إلى وضع السلاح، عام: 1947 م بعد الخيانات والمؤامرات،بشروط أخلّ بها المحتلون الفرنسيون،فبدل أن يُفسحوا له في باخرة لهم للاتجاه إلى المشرق العربي أو تركيا وجهوها نحو فرنسا، فبات في وضع أسير تحت الإقامة الجبرية في أمبواز بجنوب فرنسا،حيث مكث حتى عام:1852م،حين أطلق سراحه،فانتقل إلى اسطنبول،فأهداه السلطان العثماني قصراً في (بروسة) لم يمكث فيه أكثر من سنتين بعدما قرّر الاستقرار في دمشق،منطلقاً منها في عدة رحلات داخل الوطن العربي وخارجه حتى وفاته سنة:(1300هـ/1883م)»(2).

الأغراض الشعرية عند الأمير عبد القادر:

كما سبق وأن أشرنا فالأمير عبد القادر لم يكن رجل سياسة وجهاد، وشجاعة فحسب، بل كان أيضاً رجل فكر، وعلم، وأدب، عُرف باعتكافه على القراءة، واجتهاده الكبير في سبيل التحصيل العلمي، حيث إنه اطلع على كثير من الكتب الفكرية العالمية مُترجمة، كما راز في التراث الشعري العربي انطلاقاً من العصر الجاهلي، حتى العباسي، وحفظ عشرات الأبيات لفحول الشعراء، وهذا ما جعل منه مؤلفاً، وكاتباً، وباحثاً، وشاعراً فذاً.

إن المتتبع لتجربة الأمير الشعرية يُدرك أن الشعر قد لازم الأمير طوال حياته، وكان يحلُ معه حيثما حلّ، وكان أنيسه وصاحبه أيام الفرح والقرح، وفي ليالي الشجن والسرور، ورافقه عندما أضحى أسيراً في فرنسا، وبعد ذلك في تركيا، وفي المدينة المنورة، ومكة، وفي دمشق، وغيرها من الأصقاع التي أبدع فيها الأمير قصائده العذاب.

وقبل الولوج إلى عوالم الأمير عبد القادر الشعرية، تجدر الإشارة إلى أن الكثير من الباحثين الذين تصدوا لشعر الأمير بالدراسة والتحليل، يرون بأنه متباين من حيث قيمته، بتباين الأغراض، وبانتقال الأمير من موضوع إلى آخر، فهذا الأستاذ الأديب رابح بونار يرى بأن شعر الأمير تظهر عليه روح شعرية مقبولة في مواضيع الحماسة، والفخر، والتصوف، والغزل، وأما إنشائه في غير هذه الموضوعات فيبدو عليه التكلف، والإسفاف، والأغلاط النحوية، وضعف الخيال وفتور العاطفة.

وفي دراسة الدكتور فؤاد صالح السيد أكد على أن شعر الأمير عبد القادر من الناحية التاريخية ارتبطت كل مرحلة منه بفن معين من الفنون الشعرية،إذ يرى أن شعر الفخر والحماسة هو أوثق صلة بحياة الأمير من شعر الوصف، ويُرجع ذلك إلى أن أشعاره في الفخر والحماسة هي انعكاس مباشر،ونتيجة لمعاناته في حروبه،وهي تعبر عن تجربته الحربية،ومن الناحية النفسية رأى أن الأمير ارتاح لبعض الفنون الشعرية أكثر من غيرها،وهذا يعود إلى الجو النفسي الذي مرّ به الأمير في كل مرحلة من مراحل حياته، وقد ضرب مثلاً بشعره الصوفي، ومساجلاته مع شيخه محمد الشاذلي القسنطيني، فهو الأقرب كما يرى الباحث للأمير أثناء أسره بالأمبواز في فرنسا،أما شعر المدح الأدبي فقد كان الأكثر صلة به أثناء وجوده في دمشق.

أولاً: الفخر والحماسة :

يُجمع الكثير من الدارسين لشعر الفخر والحماسة عند الأمير عبد القادر على أنه ينقسم إلى قسمين رئيسين:الفخر الطبيعي(الفطري)، والفخر الوضعي (الاكتسابي)، ويرون بأنه أحد أهم الفنون الشعرية التي عالجها الأمير في ديوانه،وذلك لارتباطه بنضال الأمير،وبطولاته، وحماسته، والتزامه بقضايا أمته، وفي مقدمتها قضية التحرر، والخلاص من المستعمر الفرنسي،ومن جانب آخر فلا نستغرب من استكثار الأمير للفخر والحماسة،فهو ابن عائلة شريفة،ذات حسب ونسب،عظيمة الشأن،فهو ينتمي إلى«الدوحة النبوية الشريفة،فهو من الفرع الحسني، الذي يستمد قدره من رسول الله-ص-. من هنا كانت حتمية تقديم الولاء والطاعة لهذه الدوحة النبوية، وطلب الشفاعة النبوية، وبذلك يؤمن المرء لنفسه الاستقرار الروحي والنفسي:

أبوُنا رسولُ الله خيرُ الورى طُرا   * فمن في الورى يبغي يطاولنا قدرا

ولانا غداً ديناً وفرضاً مُحَتماً   * على كل ذي لب به يأمنُ الغدرا

  ويكتفي الأمير بهذا الفخر عن كل منصب، وعن كل رتبة دنيوية.لأنه لا مجال للمقارنة والمفاضلة بين فخر وفخر،خصوصاً إذا كانت المقارنة والمفاضلة بين فخر نبوي شريف، وبين فخر مادي دنيوي.

وحسبي بهذا الفخر من كُل منصبٍ   وعن رتبة تسمو.. وبيضاء أو صفرا»(3).

  ويؤكد الأمير تمسكه العميق، وحبه الكبير لله سبحانه تعالى، ولرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وسريانه في عروقه، وهو أساس عزته، ونجاحه في الدنيا والآخرة، فلا عزة ولا كرامة من دون إيماننا بالله سبحانه وتعالى، وإتباعنا لسنة رسول الله الصادق الأمين

بعليائنا، يعلو الفخار، وإن يكن   *  به قد سما قوم ونالوا بها نصرا

وبالله، أضحى عزنا، وجمالنا   * بتقوى وعلم والتزود للأخرى

ومن رام إذلالاً لنا، قلت: حسبنا   *  إله الورى، والجد،،،أنعم به ذخرا

وفي نفس سياق الفخر الطبيعي الفطري افتخر الأمير بعروبته، وكما يرى الباحث فؤاد صالح السيد ففخر الأمير بعروبته لا يبرز بروزاً واضحاً، ولا ينال حظاً وافراً بالمقارنة مع ما يحوزه فخره بنسبه النبوي الشريف، وكما رأى الدكتور ممدوح حقي في تقديمه لديوانه بشأن فكرة افتخاره بعروبته أن«القومية العربية قد توضحت عنده  وقد سبق بها زمنه بنحو قرن تقريباً.

ويعتبر الأمير نفسه وارثاً للسيادة العربية، والمجد العربي اللذان يبقيان في نظر الأمير، وإن زالت السماء والجبال:

ورثنا سؤدداً للعرب يبقى   * وما تبقى السماء والجبال

أما المصدر الثاني من مصادر عظمة الأمير، الذي أراد أن يحققه بإرادته تحقيقاً علمياً، ويمارسه ممارسة تطبيقية، فهو النسب الوضعي الاكتسابي، وتتوسع دائرة هذا الفخر حتى تشمل الفخر بمناقبه الأخلاقية الحميدة، وبثقافته وعلمه، وبالإمارة والملك، وبشجاعته وحماسته في الحروب، ويمكننا تجاوزاً أن ندخل محيط هذه الدائرة أيضاً، فخره بشجاعة صحبه، وحسن بلائهم، وبالبداوة»(4).

ومن خلال الفخر الوضعي (الاكتسابي)تجلت لنا مناقب الأمير الأخلاقية الحميدة، وتبدت لنا بطولاته، ومكارمه، ورحلاته في سبيل طلب العُلا، وتحمل الأهوال والمشقات إلى غاية الوصول إلى الأهداف الإنسانية النبيلة، والأخلاق الكريمة الفاضلة، فقد صاغ جميع هذه القضايا في قصائد بديعة، وأبيات رقيقة، مثل قوله في هذه الأبيات:

لنا في كُل مكرُمة مجال *   ومن فوق السماك لنا رجالُ

ركبنا للمكارم كل هول *   وخضنا أبحراً ولها زجالُ

إذا عنا توانى الغيرُ عجزاً   *  فنحن الراحلون لها العِجالُ

ومن المناقب الحميدة التي كثيراً ما نلفي الأمير يسعى جاهداً بغرض الوصول إليها، ولـطالما رددها في شعره: التنزه عن اللؤم، وصد الضيم والأذى، والحلم والكرم، والسياسة العادلة، والصبر والإرادة.

فبالنسبة للتنزه عن اللؤم فالأمير عبد القادر يؤكد دائماً على ضرورة بذل النفس، والكرم، والسعي إلى التضحية والوفاء، وهذا ما يحاول أن يبرزه لنا في أشعاره، إذ يحلو له أن تقترن أقواله بأفعاله، إذ أن ما نستنتجه هو أن هناك توافق تام بين النظرية والتطبيق، حيث إنه صادق كل الصدق في تنزهه عن اللؤم قولاً وفعلاً، ويقول في هذا الشأن:

رَفَعْنَا ثَوْبَنَا عَن كُلِّ لُؤمٍ    *  وَأَقوَالي تُصَدِّقُهَا الفِعَالُ

ويذكرنا الأمير من خلال جملة من أشعاره في الفخر والحماسة، ولاسيما ما يتعلق منها بصد الضيم والأذى بمواقف عنترة بن شداد العبسي، الذي يبرز لنا في أشعاره المفعمة بالفخر كيف أنه يبيت على الطوى، حتى ينال به الكريم المأكل:

وَلَقَدْ أبيتُ عَلَى الطوَى وَأظَلَّهُ  * حَتَّى أنَال بهِ كَرِيمَ المَأكَلِ

ويقول الأمير عبد القادر،وهو بصدد الحديث عن صبره الطويل،وتحمله للظمأ الشديد،وصبره على العطش الشديد:

وَلَوْ نَدْرِي بِماءِ المُزْنِ يَزري   * لَكَانَ لَنَا عَلَى الظَّماءِ احتِمَالُ

أما الحلم والكرم والعطاء، فالأمير يشير في هذا الشأن إلى أن عقابه ومجازاته للسفهاء ليس بالتعسف، والاضطهاد،بل إنه بالحلم والتروي، والصبر، والعفو:

وَنَحْلُمُ إنْ جَنَى السُّفهاءُ يَوْماً   * وَمِن قَبْلِ السُّؤالِ لَنَا نَوَالُ

كما افتخر الأمير بسياسته العادلة، وقيادته الحكيمة، وتدبيره الدقيق، ويشبه عدالته في بعض أشعاره بعدالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، ويتمنى أن تكون هذه السياسة بمثابة السراج المنير، الذي يضيء الليالي الحالكات، ويبعد الظلام والجهل، بعد حين من الدهر كادت أن تُطفئ فيه أنوار الهداية والإيمان، حيث يقول الأمير عن سياسته العادلة:

وَقَدْ سِرْتُ فيهم سِيرة عُمَرِية   * واسْقَيْتُ ظَامِيها الهدايَة فارْتَوَى

وَإنيَ لأرجو أن أكون أنا الذي  * يُنيرُ الدَياجِي بالسنا بَعْدَ مَا لَوَى

ويُدلل الأمير على إرادته الفولاذية، وصبره الكبير عند اشتداد البأس قائلاً:

الجودُ والعلمُ النفيسُ وإنني   * لأنا الصَبورُ لَدَى اشْتِدادِ البأسِ

وعن عدم توانيه، وتخاذله، ويأسه يشير الأمير إلى أن جميع هذه الفضائل مرجعها الأساس هو الصبر، إذ يقول:

وَمِنْ عَجَبٍ صَبْرِي لِكُلِ كَرِيهَةٍ   * وَحَمْلِي أثْقَالاً تُجَلُّ عَنِ العَدِّ (5)

وكما افتخر الأمير ببطولاته وشجاعته، وصبره، فكذلك الشأن بالنسبة لعلمه، وثقافته، وقدراته الفكرية، حيث يقول الأمير مفتخراً بتمكنه من العلوم العربية، ودرايته بالحديث، والفقه المالكي قائلاً:

لَنَا سُفُنٌ بَحْرُ الحَدِيثِ بِهَا جَرَى   * وَخَاضَت فَطَابَ الوِرْدُ مِمَّن بِهَا ارتَوَى

وَإنْ  رمت فِقْه الأصْبحي فَعُج عَلَى   * مَجَالِسِنَا تَشْهَدْ لِوَاءَ العَنَا دَوَا

وَإن شِئْتَ نَحْواً فانحِنا تَلْقَ مَالَهُ   *  غَدَا يُذْعِنُ البَصْري زُهْداً بِما رَوَى

بدا لنا الأمير عبد القادر في شعر الحماسة والحرب مُدافعاً عن كرامة وطنه، يبث روح الكفاح والعزم والإقدام في نفوس المجاهدين، وقد رسم لنا من خلال قصائده صوراً لا تُمحى من ذاكرة الأجيال التي تأملت قصائده الجهادية والحماسية فنراه«يجذ رؤوس الأبطال من ضباط الجيش الفرنسي العدو جذاً،بل يعتز بأنه يتقدم جنوده ولا يدفعهم أمامه،فيطيح رأس قائد جيش العدو مفتخراً بقوة تسديده وتصويبه،معتزاً بجنوده من رجال أشداء ذوي عزم وعزيمة يبذلون أنفسهم فداءً له. وربما كان النموذج الذي يلخص هذه الروح التي تشيع في فخره ومنازلاته إحدى معاركه عام :1832م،وقد صار وجهاً لوجه أمام القائد الفرنسي،فتتداخل لديه هنا صور المعارك السابقة مع المعارك الحاضرة،ليصير ذلك كله إحدى صور البطولة و الاستماتة والتحدي والصمود من لدنه وجنوده حوله،فتتجلى في ذلك ملامح المكان دلالة واقعية في جانب،وصورة رمزية في جانب آخر لحياة الإنسان العربي عامة، وابن البادية خاصة،مع حضور الاعتزاز الرمزي بالنسب النبوي، إباءً وصرامة من جهة، وحمايةً رمزية للجهاد في سبيل الحق من جهة أخرى»(6)، وهذا ما تجلى بشكل بارز في وصفه الدقيق لما وقع في معركة خنق النطاح الشهيرة.

وعظمة الأمير عبد القادر تتجلى في واقعيته، فهو المناضل الذي «يضرب بتواضعه لكل واجب مثلاً للمناضل الحقيقي، وهو البطل يضع بطولته في طليعة الجيش، وهو الآمر يفرض بفعاليته طاعة أوامره، وهو الأمير إمارته تسابق إلى الاستشهاد، وتطلع إلى ساحات الشرف:

أميرٌ إذا ما كان جيشي مُقبلاً   * ومُوقد نارِ الحربِ إذ لم يكُن لها صال

إذا ما لقيتُ الخيل إني لأولُ   * وإن جال أصحابي فإني لها تال

أُدافعُ عنهم ما يخافون من ردى  *  فيشكُرُ كُل الخلقِ من حُسنِ أفعالِي

ويعرض الأمير في سخرية لاذعة بالسادات الذين يحملون من البطولة اسمها، ومدلولها براء منهم، يدفعون الجيش إلى أتون المعارك ويحتمون بمؤخرته، متسترين بألقاب الإمارة والقيادة:

ومن عادةِ السَادَاتِ بالجيشِ تحتَمِي  * وبي يحتمِي جيشي وتُحرسُ أبطَالِي

  فالفروسية عند الأمير ليست ادعاء، ولكنها تجارب مريرة، ومعاناة واقعية، وفخرياته ليست قعقعة جوفاء، ولكنها صدى لقعقعات سلاحه، ولا هي برق خلب، ولكنها وميض سيوف، ولا هي ضباب زائف، ولكنها غبار حروب، فهو الفعال قبل أن يقول، وهو الذي يُفرق بين الادعاء والأصالة، بين اللفظة الجوفاء، واللفظة المشحونة بالبرهان الواقعي، فهو القائل:

وما كُلُّ شهمِ يدعي السبق صادقٌ  *  إذا سيق للميدان بأن لهُ الخُسرُ

وما كُلُّ من يعلو الجواد بفارِسٍ   * إذا ثار يقعُ الحرب والجوّ مغبر

وما كُلُّ سيف (ذو الفقار) بحدِّه  *  ولا كل كرَّارٍ(عليا)إذا كَرُّوا

وما كُلُّ طيرِ طار في الجو فاتكا   * وما كل صباح إذا صرصر الصَّقرُ

فذا مثلُ للمدّعين، ومن يكن   *   على قدم صدق، طبيباً له خبرُ

وليست الفروسية عند العرب، ولا عند الأمير براعة وثبة على ظهر الفرس، ولا هي الشجاعة الخرقاء المتهورة. إن الفروسية أخلاق كريمة ومثل عليا، وهو ما نلمسه عند الأمير عبد القادر فهو حين يهديك صورته،يحذرك أن تقنع منها بالمظهر،فإن اعتزازه هو بالمخبر، يرجوك ألا تقف عند حد الملامح والسمات، ولكن أنفذ إلى الأعماق وتلمس الذات الأصلية:

لئن كان هذا الرسمُ يُعطيك ظاهِري   * فليس يُريك الرسمُ صورتنا العُظمى

فثم وراء الرسم شخصٌ مُحجّبٌ   *  له همة تعلو بأخمصها النجما

وما المرءُ بالوجهِ الصبيحِ افتخارُهُ  * ولكنه بالعقلِ والخُلُقِ الأسمى

وإن جُمعت للمرء هذي وهذه   * فتلك التي لا يُبتغى بعدها نُعْمى» (7).

وتذهب رؤية بعض الدارسين إلى أن كلاً من الأمير و الجياد هما توأمان لا ينفصلان في فخره وحماسته، وذكره للحروب، فما إن يحضر الأمير حتى تحضر معه الجياد، وهذا ما تجلى لنا بشكل واضح في قوله:

وعِر جياداً جاد بالنفس كرُها   * وقد أشرفت-مما عراها-على التوى

ألا  كم-جرت-طلقاً بنا تحت غيهب   * وخاضت بحار الآل من شدة الجوى

ومن العناصر التي يلحظها الدارس لشعر الأمير، وتظهر في غرض الحماسة مجموعة من المواضيع الهامة أشار إليها الباحث فؤاد صالح السيد من بينها:

«-معاناته وصدقه: إن شعر الحماسة يتميز بالخبرة والتجربة، والمعاناة التي استمرت سبع عشرة سنة من الجهاد المتواصل، والأمير مخلص وصادق في شعره الحماسي، لأنه لا يتخيل المعارك تخيلاً،بل يصف ما رآه،وعاناه وقاساه، وصف الخبير الذي خاض المعارك،ومارسها ممارسة الجندي والقائد.

-السيوف العطشى المرتوية: ويحلو للأمير أن يردد في شعره الحماسي صورة السيوف العطشى المتلهفة للارتواء. فإذا بها ترتوي بدم الأعادي بعد صدورها من كل معركة:

وأسيافُنا قد جُردت من جُفونها   * ورُدت إليها بعد وٍردِ وقد روى

-الضيغم: شبه الأمير نفسه في واقعة «برج رأس العين» بالضيغم الذي يزيد الأعداء حزناً وأسىً حين ينزل ساحة الوغى فتتلاحق ضربات سيفه الذي لا يعرف التباطؤ والتخاذل:

نزلتُ ببُرج العين نٍزلة ضيغمٍ   * فزادوا بها حُزناً وعمهُمُ الجوى

-دفاعه عن جيشه: ويبلغ شعره ذروة الحماسة حين يُنصب نفسه للدفاع عن جيشه خلافاً لعادة الملوك والأمراء، فهو الدرع الواقي، والحزام الأمين لجيشه، فهؤلاء الفوارس الذين يماثلون الأشبال قسوة وشجاعة وهيبة يتقنون الطعن والضرب بالأمير الذي يُدافع عنهم ويحميهم:

وبي تُتقى يوم الطعان فوارس  *   تخالينهم في الحرب أمثال أشبال

إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمما  * أقول لها: صبراً كصبري وإجمالي

وقد كان الأمير كثير الاعتداد بنفسه، حتى ليظن المرء الذي لا يعرف شيئاً عن سيرته أنه من قبيل المبالغة والغلو، بيد أنه صادق في حقيقة الأمر، وخير دليل على ذلك جهاده الذي استمر سبع عشرة سنة»(8).

ومهما يكن من أمر فقد أبدع الأمير عبد القادر في فخره، وحماسته أيما إبداع، فكتب بحروف من ذهب بطولاته، وشجاعته، وانتصاراته الساحقة، فتلك الانتصارات التي لم تكن لتُخلد، وتحفظ مجرياتها لو لم يتوفر فخر الأمير، وحماسته، ودقة وصفه لمجرياتها.

ثانياً: الغزل :

كما هو معروف فإن غزل الأمير عبد القادر المعروف برصانته، وأخلاقه الفاضلة، ونسبه الشريف، هو ليس ذلك الغزل المادي الفاحش الذي نلفيه لدى الكثير من الشعراء، بل هو غزل «من نوع الغزل الروحي يتحدث فيه عن صبابته إلى زوجته أم البنين، وتغزله بها صادق جياش بالعواطف النبيلة، فكان إذا غاب عنها شكا، وإذا ذكرها تحسر، وإذا أجنه الليل وهي بعيدة عنه صاح من أعماقه بشعر عليه لفحات الحب، وظلال اللوعة والحرقة:

ألا قل للتي سلبت فؤادي   * وأبقتني أهيم بكل واد

تركت الصب ملتهبا حشاه   * حليف شجى يذوب بكل ناد

ومالي في اللذائذ من نصيب   * تودع منه مسلوب الفؤاد

وحينما يشتد هيامه، وتستأثره أشواقه يعتريه قلق ويحفزه تمرد فيعاتب نفسه قائلاً:

إلام فؤادي بالحبيب هتور؟   * ونار الجوى بين الضلوع تثور

وحزني مع الساعات يرنو مجدداً  *  وليلي طويل والمنام نفور

وحتى متى أرعى النجوم مسامراً   * لها دموع العين ثم تفور

وإذا تتبعنا غزل الأمير عبد القادر وجدناه يستهدف منه بث شكواه، وتصوير لواعجه المحرقة إزاء بعض نسائه، وهذا النمط من الغزل هو المحمود لدى من يميلون إلى الجانب الروحي في المرأة، ولعل الذي طبع الأمير على ذلك هو دراساته الأدبية المتصوفة، ونجد للأمير مقطوعة جيدة أنشأها سنة:1272هـ، وفيها يصف أشواقه إلى زوجته في بروسة، وهي تتسم بعاطفة صادقة ملتهبة، وشكوى صارخة،لبعده عنها، وحرمانه من رؤيتها، وفيها تودد الفارس وذلة العاشق، وأنة المحروم في أسلوب خفيف سهل، ونبرات روحية حزينة،حيث يقول فيها:

أقول لمحبوب تخلف من بعدي  عليلاً بأوجاع الفراق وبالبعد

أما أنت حقاً لو رأيت صبابتي *    لهان عليك الأمر من شدة الوجد

وقلت أرى المسكين عذبه الهوى *   وأنحله حقاً إلى منتهى الحد

وساءك ما قد نلت من شدة الجوى *   فقلت وما للشوق يرميك بالجد

وإني وحق الله دائم لوعة   *   ونار الجوى بين الجوانح في وقد

غريق أسير السقم منكلم الحشى   * حريق بنار الهجر والوجد والصد

ويتعجب الأمير من سطوة الحب وانهزام شجاعته القوية أمامها، حيث يقول:

ومن عجب صبري لكل كريهة *   وحملي أثقالاً تجل عن الحد

ولست أهاب البيض كلا ولا القنا   *  بيوم تصير الهام للبيض كالغمد

وقد هالني بل أفاض مدامعي  *   وأفنى فؤادي بل تعدى عن الحد

فراق الذي أهواه كهلاً ويافعاً    *   وقلبي خلا من سعاد ومن دعد»(9).

ويجدر بنا قبل التعمق أكثر في عوالم الغزل عند الأمير عبد القادر، أن ننتقل إلى سؤال هام طرحه الباحث فؤاد صالح السيد، إذ تساءل عن سبب خضوع الأمير عبد القادر للمرأة؟، وكأن الباحث من خلال هذا السؤال يريد أن يشير ضمنياً إلى أن ذلك الفارس المغوار الذي أذل كبراء جنرالات الجيش الفرنسي، وألحق بهم الهزائم تلو الأخرى، لا يبدو أنه سيضعف، ويخضع للمرأة …

إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو سهلة «ولكنها في حقيقة الأمر صعبة، لأن الأمير نفسه في بداية الأمر، لم يجد تعليلاً لهذه الحال الغريبة التي اعترته، فهو يتعجب من سطوة الحب على قلبه ونفسه، فأدى ذلك إلى انهزام شجاعته القوية، ويمكن حصر هذه الأسباب في سببين أساسيين هما: الأمومة، والجمال.

إذ أن السر في هذا الخضوع للمرأة، كامن وراء إعجابه الشديد بأمه، وحبِّه إياها، وشدة تعلقه بها، فقد كان الأمير شديد الاحترام لها، يأخذ برأيها، ويستشيرها في الملمّات الصعبة، والأمور العسيرة، حتى اتهم بأنه يخضع لما تصدره من:مكاتبات،  ومراسلات موقعة باسمه…

وكان الأمير شديد التعلق بوالدته، يصطحبها في أسفاره، وكأنه يتلمس من عقلها الراجح، ومن روحها العضد والطمأنينة، والعزاء لروحه المضطرم، فقد رافقته إلى الأسر، وحملها معه إلى استانبول، وبروسة، ودمشق.

ويبدو تأثير الوالدة على ولدها بعد حادثة وفاتها، فقد عظم على الأمير مصابه، وحزن عليها حزناً شديداً، وبعد رجوعه من دفنها بمقبرة«الدحداح» إلى منزله في«العمارة» بدمشق، توقف عدة مرات في الطريق من هول المصيبة، فقال له البعض ممن كانوا معه: «أرفق بنفسك»، فقال لهم: «كيف ذلك وأنا فقدتُ أعظم من كان يحبني على وجه الأرض»، فربما كان لهذه المحبة العميقة، والخضوع الكلي، والإعجاب الشديد الذي كان يُبديه الأمير لوالدته الأثر الفعال في تحويل محبته، وخضوعه، وإعجابه إلى المرأة بشكل عامٍ وأساسيٍ.

وأما بالنسبة لسلطان الجمال فالأمير نفسه يعجب من واقعه الغريب، ثم إنه يستدرك هذا الأمر، ويُذكر بأنه فارس، والجدير بالفارس أن يخضع لسلطان واحد لا غير، هو سلطان الجمال الذي يمتلك مهج الفرسان، ويخضعهم لسلطانه،إذ يقول في هذا الشأن:

ومِنْ عَجَبٍ تَهَابُ الأُسْدُ بَطَشِي  * ويَمَنْعُنِي غَزَالٌ عَنْ مُرَادِي!!

ومَاذَا؟ غَيرَ أَنَّ لَهُ جَمَالا   *  تَمَلَّك مهجتِي مُلْكَ السَّوَادِ

َسُلْطَانُ الجَمَالِ لَهُ اعْتِزَازٌ  * عَلَى الخَيْلِ والرَّجلِ الجَوَادِ»(10).

إن الأمير عبد القادر ذلك المجاهد البطل المغوار، الذي«دوّخ جنرالات فرنسا بصلابته السياسية،وشجاعته العسكرية إقداماً وبأساً،من دون أن تلين له عريكة لا تخدم وطنه في مفاوضات سياسية، ولا مواجهات عسكرية،لكن التي دوخته هي زوجه (أم البنين) الأثيرة لديه دائماً،التي تزوجها في وهران نحو عام:1822م، وهو في الخامسة عشرة من عمره،أي قبل رحلته مع والده للحج عام(1825م)،فسرعان ما ملكت عليه أمره،فكان يحنّ إليها في حربه وفي سلمه،شاكياً صدودها  وبرودتها،حتى بدا الأمير عبد القادر الأسد الذي يزأر في المعارك، ويقارع الجنرالات،حملاً وديعاً ساذجاً أمام (أم البنين)، يغثو فيرتد إليه صدى غثائه كئيباً بارداً،يئن شكوى وعتاباً في القرب منها مثل البعد عنها في المعارك، وهذا قدر النفوس الكبيرة حيث تجتمع الأضداد،فالأمير عبد القادر الذي يجذّ رؤوس الأعداء بسيفه جذّا،فيخوض في دمائهم مبتهجاً بالنصر،يملك عليه الفزع أمره في الجمال نفسه من وجنة حسناء تتعرض للوشم فتخدش، فتكون الصورة أمامه مثيرة للفزع،كما عبّر عن ذلك في أحد نماذجه بالديوان عندما ورد أن حديثاً جرى عن الموضوع في مجلس بمدينة الطائف كان الأمير حاضراً فيه-أرجح أن يكون هذا في حجته الثالثة بعد إقامته في دمشق-فقال:

فبا للحظ لا المُوسى تخدش وجنة  * فيا ويلتا منه! ويا طول  حسرتي!

وهنا قيمة جمالية في النظر إلى المرأة، فهو لم يُشر إلى أن الوشم حرام، و لا الزينة بالصيغة الطبيعية الشرعية غير ممنوعة، بقدر ما هيمن  على فكره الصورة الجمالية المعنوية التي تعكس زاوية من قيمه في المرأة،وهي الحياء،فالمرأة العفيفة ذات الحياء تحمر وجنتاها حياءً وخجلاً من موقف أو نظرة،فتزداد بذلك جمالاً على جمال من دون تشويه تلحقه(الموسى)بوجنة واحدة باحثة عن زينة سبيلها تشويه ما خلقها الله عليه،فتعيث فساداً في الطبيعة.

هذه السمة مما توفر في (أم البنين) فيما يبدو، فهي ذات حياء حتى من مبادلة الزوج مشاعر المودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين، كما استقرت في وجدانها-ربما- تقاليد المحيط التي ترى صميم العلاقة الزوجية هي الغريزة البشرية والحيوانية ليس غير.

في هذه الخلفية شيء من عزاء للشاعر في هيامه وتضرعه وتفهمه في الوقت نفسه، وإن أودى به في نماذج إلى السقوط في مباشرة لا تخلو من إسفاف وسطحية ترسم صورة مادية لا فن فيها ولا خيال، بل رغبات مادية مباشرة معلنة، تتركز في حرمان وصدود، مصدرهما الأساسي طبيعة الحياة، وقيم المجتمع:

أُقاسي الحُبّ من قاسِي الفُؤاد  * وأرعاه ولا يرعى ودادي

وأبكيها فتضحكُ ملء فيها  *  وأسهرُ وهي فيطِيبِ الرُقادِ

وأبذُلُ مُهجتي في لثمِ فيها  * فتمنعُني و أرجعُ جدَّ صادِ

فما تنفكُ عني ذات عزّ  * وما أنفك في ذُلّي أُنادي»(11).

ويعود الأساس الأول لعدم خوض الأمير في الغزل المادي الماجن إلى تربيته الدينية، في طفولته، وتركيز أسرته، على الجوانب الخُلُقية والروحية، وابتعادها عن النواحي المادية، فنشأ الأمير على حب الطهارة، والعفة، بالإضافة إلى « تأثر الأمير بالتصوف في مراحل حياته كلها في الجزائر، وفرنسة، وبروسة، ودمشق.ومن المعروف أن التصوف ينمي الجوانب الروحية والخُلُقية في الإنسان، ويبعده عن الجوانب المادية الضيقة المغلقة. ولا يخفى أن الحب والغزل الإلهيان عنصران أساسيان من عناصر الشعر الصوفي في الإسلام.

   فإن التآلف بين التصوف ونفسية الأمير، ورغباته، وميوله الفطرية، قد أدى إلى بروز الجوانب الروحية الخُلُقية  بروزاً واضحاً في سلوكه اليومي، وتصرفاته الحياتية .فانعكست هذه الناحية الروحية الخُلُقية في أشعاره الغزلية،فكان هذا الاتجاه العذري في الغزل عند الأمير،غزل الحنين والأنين،غزل الأسى واللوعة والحرمان»(12)

ومن أبرز الخصائص التي تظهر للمتأمل في غزل الأمير، بروز شخصيته، وظهور معاناته، ومن ذلك قوله:

حنيني أنيني زمرتي ومضرتي   دموعي خضوعي قد أبان الذي عندي

وكذلك يظهر على غزله تأكيده على عفة الحبيبة، والسيطرة التامة لذلك الحب على الجانبين العقلي، والعاطفي، أي الوجدان، والعقل، وقد تجلى هذا الأمر في قوله:

ألا من منصفي من ظبي قفر   *   لقد أضحت مراتعه فؤادي

أي أن الحبيب قد سيطر على كامل وجدانه، ومن ذلك قوله أيضاً:

وبي ما يُزيلُ العقل عن مستقره      فلا تعجبوا إن قيل فيه خبالُ

وقد ظهر حرصه على العفة والطهارة في قوله:

وأبذل مُهجتي في لثم فيها   *  فتمنعني وأرجع منها صادِ

وكذلك في قوله:

ومالي في اللذائذ من نصيب   *  تودع منه مسلوب الرقاد

ويشير إلى هذا الأمر كذلك ضمنياً في قوله:

فإن هو لم يجد بالوصل أصلاً  *  ويُدني الطيف من سكني وداري

أقُل للنفس: ويك ألا فذوبي   *   وموتي فالقضاء عليك جارٍ

وكذلك من أهم الخصائص، والسمات التي طبعت غزل الأمير، حرصه على تصوير الفراق في صور بديعة، حتى كأن المرء يجد الصورة مجسدة أمامه،كما يظهر من شعره الغزلي مدى حبه للسهر والليالي،ومناجاته للحبيبة الغائبة،ويتبدى ذله، وانكساره، وشجنه العميق، الذي يظهر من خلال الأسئلة الكثيرة التي يثيرها، والاستغاثات المتوالية التي يطلقها، ومنها تظهر أنواع من العتاب لغياب الحبيب، وقسوته،وبعده عنه.

ثالثاً: الوصف:

من المسلم به أن كل شعر فني يندرج تحت لواء الوصف،فالشاعر عندما يتغزل يصف،وعندما يمدح يصف، وعندما يرثي يصف، وعندما يفخر كذلك يلجأ إلى الوصف،«وكذلك كان شعر الأمير في فخره،ووجدانياته،لكن من المواقع ما يصير فيها الوصف هو السائد حتى يكاد الموضوع نفسه يذوب فيه حين تدق مشاعر الشاعر الوجدانية بما فيها المشاعر الدينية، أو تجنح أشواق الذكرى والحنين، ولعل الصورة التي تُظهر لنا طبيعة الوصف عند الأمير إثر وقوفه قرب جبل أحد في بستان، حيث مكث وقتاً في المدينة المنورة، فاحتدمت المشاعر في نفسه،وتداخلت بين إرادة المكث في المدينة، وضرورة المغادرة حسب مقتضى الحال، فقد هدته المعاناة جسداً وروحاً، فطفق يصف الموقف قائلاً:

إلى الله أشكو ما ألاقي من النوى  * وحملي ثقيل لا تقوم به الأيدي

فقد وصف لنا الشاعر اللحظة والمكان، واحتدام تلك المشاعر بين إرادة يصعب تحقيقها، بل لا سبيل إلى ذلك، فيصف لنا حالته النفسية أدق الوصف، مسلطاً الضوء من شتى الجوانب، فكأنه يقدم لنا مسحاً شاملاً، ورؤية مكتملة لوضعيته النفسية في هذه الحال حيث إنه يقول:

تذكرت وشك البين قبل حلوله  * فجادت عيوني بالدموع على الخد

وفي القلب نيران تأجج حرّها   * سرت في عظامي ثم سارت إلى جلدي

ومالي نفس تستطيع فراقهم  *   فيا ليت قبل البين سارت إلى اللحد

بطيبة طاب العيش ثم تمررت   *  حلاوته، فالنحس أربى على السعد

أردد طرفي بين وادي عقيقها   *  وبين قباها ثم ألوي إلى أُحُد

منازل من أهواه طفلاً ويافعاً   *  وكهلاً إلى أن صرت بالشيب في برد»(13).

ويظهر لنا للوهلة الأولى أن وصف الأمير في هذه المقطوعة البديعة هو وصف معنوي، فهو يصف الحالة النفسية الداخلية، ويقدم لنا رؤية عما يختلج فؤاده إثر فراق هذه المدينة الطيبة، مدينة الإيمان، والسلام.

وقد انقسم الوصف عند الأمير إلى قسمين رئيسين وفقاً لرؤية الباحث فؤاد صالح السيد، فأحياناً هو يظهر أنه وصف بدوي، كما ظهر في قصيدته الشهيرة التي يصف فيها البدو :

ياعاذِراً لامرئ، قد هام في الحضر   * وعاذلاً لمُحب البدو والقفر

لا تذممن بيوتاً خف محملها   * وتمدحن بيوت الطين والحجر

لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني   *  لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر

أو كُنت أصبحت في الصحراء مُرتقياً  *  بساط رمل به الحصباء كالدرر

أو جُلت في روضة راق منظرها  *   بكل لون جميل شيق عطِر

أو كنت في صُبح ليلٍ هاج هاتنه   *  علوت في مرقب أو جلت بالنظر

رأيت في كل وجه من بسائطها   * سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجر

فيا لها وقفة، لم تبق من حزن   * في قلب مضنى ولا كدا لذي ضجر

وأما الوصف الحضري فقد أناخ بكلكله على المرحلة الثالثة من حياة الأمير نظراً لابتعاده على حياة البدو، واقترابه من الحياة الحضرية،عندما أقام في مدن المشرق العربي فخصص له قصائد مستقلة انضوت تحت لواء هذا الغرض،ولم تدخلها أغراض أخرى،في حين أن الغزل البدوي لم يأت في قصائد خاصة بل جاء ممزوجاً ومضمناً  في أغراض متنوعة من بينها الفخر والحماسة، وما يثير انتباه المتأمل في وصف الأمير عبد القادر للحضر أنه يتراوح ما بين  الوصف النسخِي الحسي التقريري، والوصف التشخيصي الوجداني،ويعود ذلك في الدرجة الأولى إلى الجو الفرنسي والحياتي الذي كان يُحيط بالأمير في أثناء نظمه للقصيدة الوصفية،فالوصف النسخي الحسي التقريري  ظهر في قصيدته التي وصف بها قصر دُمَّر الذي يجاور واديها البديع،فقد كان الأمير يتردد على هذه المدينة للاصطياف،حيث يقول في هذه القصيدة:

عُجْ بِي-فَدَيْتُكَ-في أَبَاطِحِ دُمَّرَ  *  ذَاتِ الرَّياضِ الزهرات النُّضَّرِ

ذَاتِ المِياهِ الجَارِياتِ عَلَى الصَّفَا  * فَكَأنَهَا مِنْ مَاءِ نهْرِ الكَوثَرِ

ذَاتِ النَّسِيمِ الطَّيِبِ العطر الذي  *   يُغنيكَ عن زَبَدٍ ومِسكٍ أذَفَرِ

والطَّيْرُ في أَدْوَاحِها مُتَرَنِّمٌ  *  بِرَخيِمِ صَوْتٍ نغمَةَ مِزْهَرِ

مَغْنًى بِهِ النُسَّاكُ يَزهُو حَالُهَا  *  مَا بَيْنَ أَذْكار وَبَينَ تفكر

مَا شِئتَ أَنْ تَلْقَى بِها مِن نَاسك * أو فَاتك في فَتْكِهِ مُتَطَوِّرِ

أَيْنَ الرُّصَافَةُ والسَّدِيرُ وَشَعبُ بوَّ  * انٍ…إذَا أَنْصَفَتها مِنْ دُمَّرِ(14).

وقد ظهر الوصف الوجداني التشخيصي في شعر الأمير في بعض المقطوعات القصيرة،وقد تميز هذا النوع عند الأمير بلغته العذبة والرقيقة والتي تبلغ حد الليونة،إذ تنساب مع خرير الجداول، وتغريد الطيور، وتحليق النور، وتعالق الأشياء، وهذا ما يتبدى لنا في تصويره الرائع لتلك الناعورة العاشقة التي ألصق بها صفات إنسان ينوح ويدمع،«فلم تعد الناعورة في لوحته الفنية شيئًا حسياً مادياً جامداً، وإنما تحولت بطريقة تشخيصية إلى عنصر تدبُّ فيه الروح والحياة والحيوية.إنها صورة الناعورة التي تجيب الشاعر عن تساؤلاته،فحاورها وحاورته،وسألها وأجابته،فهي كالعاشق الذليل الذي أذله الحبُّ،فهو تارة يطأطئ  رأسه حزناً وتذللاً، وتارة يرفع رأسه للعويل والبكاء:

وَنَاعُورَة نَاشَدْتُهَا عَنْ حَنِينهَا  *  حَنين الحوارِ والدُّمُوعُ تَسِيلُ

فقالت وَأبْدَتْ عذرَهَا بِمَقَالِهَا  *  وللصِّدقِ آياتٌ عَلَيهِ دَلِيلُ

أَلَسْتَ تَرَانِي أَلقِمُ الثدي لَحْظَةً!  *  وَأدْفَعُ عنْهُ وَالبَلاَءُ طَوِيلُ

وَحَالِي كَحَالِ العِاشْقِ بَات محلِفًا  *   يَدُورُ بِدَارِ الحبِّ وَهوَ ذَلِيلُ

يُطَأطِئ حُزناً رَ أسَه بتذلل    *    وَيَرفَع أخرى والعويلُ عويل

وتحت لواء الوصف الوجداني التشخيصي انضوى وصف الأمير لعود الطِّيب الذي يُتَبَخَّر به، فقد ذكره العُود بالعَود، أي بالعودة إلى أرض الوطن وذكَّره الوَرْد بالورد، أي بالصدور والرجوع:

تَبَخَّر بِعُودِ الطَّيبِ لاَ زِلْتَ طيباً   * وَرُشَّ بِمَاءِ الزهْرِ يَا خِلُّ  وَالوَرْدِ

وَمَا بُغْيَتِي هَذَا وَلَكِن تَفَاؤلاً  * بِعُودٍ إلى عَوْدٍ وَوَرْدٍ إلى وِرْدِ»(15).

رابعاً: التصوف في شعر الأمير عبد القادر:

يجمع الباحثون الذين اهتموا بالتصوف عند الأمير عبد القادر على أنه كانت له ميولات  منذ الصغر نحو التصوف، وذلك يعود إلى نشأته الدينية المحافظة،و طبيعته الانطوائية، حيث إنه كما أشرنا سلفاً كان ينكب على القراءة، وينصرف إلى المطالعة،وقد جاءت جملة من العوامل لتأخره عن التصوف في شبابه، وأبرز هذه العوامل انشغاله بالنضال والجهاد ضد المستعمر الفرنسي،ويحدثنا الأستاذ الأديب رابح بونار عن هذا الأمر قائلاً:« كان الأمير يميل إلى التصوف منذ صغره، ولا شك أن أباه محيى الدين الذي كان صوفياً كبيراً من أتباع القادرية كان ذا تأثير عليه في تربيته الدينية، وكان أكبر موجه له في حياته الروحية الصوفية، كان العصر عصر تصوف انتشرت فيه طرق كثيرة ورسخ في الأذهان أن اتخاذ شيخ عارف ضروري،ولهذا كله كان الأمير متصوفاً،ولكننا عندما رجعنا إلى ديوانه لم نجد له قصائد في التصوف في مرحلته الأولى بالجزائر، وإنما تجد له قصائد تعود إلى ما بعد الاعتقال، والاستقرار بالشام،وقد يكون ذلك عائداً إلى أنه لم ينظم في فترته الأولى  لعدم نضجه في الأدب الصوفي،وبعد نضجه في الفترة الثانية أخذ يقرض فيه القصائد،والأمير في شعره الصوفي قد يكون متأثراً بمحيى الدين بن عربي، وابن الفارض، والنابلسي، وغيرهم، وهو في شعره هذا يُعنى بتصوير ما يحس به، ويسجل الواردات التي ترد على خاطره،ومن الحق أن نقول إن الأمير في شعره الصوفي يتجلى عن روح شعرية، ويطفح بعواطف صادقة، وأخيلة ملونة في أسلوب سهل متوسط، وقد استغل الأمير رمزية المتصوفة فزان بها شعره، ومن أشهر قصائده في هذا الموضوع قصيدته الرائية، التي صور فيها بروح قصصية فتوحاته الربانية مع شيخه محمد الفاسي الذي التقى به في مكة المكرمة، وأخذ عنه الطريقة، وفي مطلعها يقول:

أمسعود جاء السعد والخير واليسر  * وولت جيوش النحس ليس لها ذكر»(16).

لقد وظف الأمير عبد القادر في شعره الذي يندرج ضمن هذا الباب الرمزية الصوفية بشقيها الغزلي ،والخمري  وهو متأثر في ذلك تأثراً كبيراً بكبار المتصوفة في العالم الإسلامي،ومن الرموز التي بدت في شعره بشكل واضح  الخمرة والحبيب أو(المحبة)بصورة عامة،فالأمير«لم يفرد للخمرة الحسية المادية قصائد ومقطوعات في ديوانه،ولم يذكرها بتاتاً،وإنما ذكر هذه الخمرة الإلهية التي وصفها وصفاً يكاد يكون شبيهاً بوصف ابن الفارض لخمرته التي اعتبرها هذا الأخير رمزاً من رموز المعرفة الإلهية،أو لمعرفة الحبيب الأزلي، أي واجب المطلق…،إن قصيدة الأمير الصوفية التي ضمنها ذكر الخمرة تكاد تكون صورة طبق الأصل لقصيدة ابن الفارض،بيد أن الفرق الوحيد بينهما هو أن موضوع قصيدة الخمرة الإلهية فقط،أما قصيدة الأمير فيكون الموضوع الخمري جزءاً منها»(17).

وقد تجلت الخمرة في شعر الأمير، من خلال مجموعة من الصور من بينها: الخمرة المعتقة، والخمرة التي لا تكسر، والهجرة إلى الخمرة، والخمرة هي العلم، والخمرة هي الغنيمة الكبرى وغيرها من الصور التي تبدت فيها في قصائد الأمير.

أما الرمز الغزلي فقد ظهر لنا في شعره من خلال مزجه بين موضوعين هما: الخمر والمحبة، ومن ذلك وصفه لليالي اللقاء متوجهاً توجها كلياً للحبيب، ويتحدث عن وصال الحبيب ولقائه قائلاً :

أوقات وصلكم عيدُ وأفراحُ  *  يا من هم الروح لي والرَّوحُ والراحُ

يا من إذا اكتحلت عيني بطلعتهم  * وحققت في محيا الحُسن ترتاحُ

وقد تجلى كذلك الرمز الغزلي من خلال جملة من العناصر، من أبرزها: رؤية الحبيب، والتوجه الكلي، وليالي اللقاء، وصبر المحبين، ومن خلال موقفه من أهل العشق الإلهي، إذ يقول في هذا الصدد:

ويحَ أهلَ العشق هذا حظُهُم   *  هلكى مما كتموا وصرحوا

خامساً: المدح :

تغير المدح في شعر الأمير عبد القادر جملة من التغيرات، وذلك بتغير حياة الأمير، وتنوعها من مرحلة إلى أخرى، وقد اختلفت أنواعه باختلاف ظروف حياة الأمير، فبعد مرحلة التعمق في التصوف ظهر مدح سمي بالمدح الصوفي، ومما قاله في هذا الجانب يمدح شيوخه بالكرم، والجاه، والجمال:

وما زهرةُ الدنيا بشيء له يُرى   *  وليس لها-يوماً-بمجلسه نشرُ

وقوله كذلك يمدح شيخه الشاذلي، ويؤكد أن حضوره يبعد الآلام، والأشجان، إذ يقول:

أهلاً وسهلاً بالحبيب القادم  *  هذا النهار-لدي-خيرُ المواسم

جاء السرورُ مُصاحباً لقُدومه  *  وانزاح ما قد كان قبل مُلازمي

طالت مساءلتي الرُّكاب تشوُقاً  *  لجمال رؤية وجهك المتعاظم

في حين أن مدحه السياسي تميز بقلة العدد مقارنة مع بقية القصائد، وتميز باستقلاله عن الفنون الأخرى، كما تضمن مدحه السياسي أفكاراً دينية، وإشارات إلى ضرورة الدفاع عن شريعتنا الإسلامية قولاً وفعلاً .

خاتمة:

من خلال رحلتنا مع عوالم الأمير عبد القادر الشعرية، تجلت لنا جملة من الصور التي يمكن أن نصفها بأنها كانت متباينة عن شعر الأمير عبد القادر،فنلفي الأمير عبد القادر مُكثراً في أغراض،ومُقلاً في أغراض أخرى، وعلى سبيل المثال فقد أكثر في الفخر والحماسة، وبالمقارنة مع المدح نجده مُقلاً، وهذا يعود إلى طبيعة الأمير فهو ينتمي إلى عائلة شريفة ذات حسب ونسب، فمن الطبيعي أن يغلب الفخر على المدح، وكما تباينت الأغراض من حيث الكثرة والقلة، فقد اختلفت أساليب الأمير، وجودة قصائده من غرض إلى آخر فالمتأمل في شعره يقف على جملة من الاختلافات التي ظهرت بشكل واضح، ففي أغراض يجد القارئ قصائد بديعة ساحرة، متينة السبك، جيدة الأسلوب،رقيقة الألفاظ، حسنة التركيب، وفي بعض القصائد يُلفي القارئ ضعفاً وركاكة في بعض الأساليب.

ومهما يكن الأمر فيمكن القول إن أهم ما يمكن أن يخرج به المتتبع للتجربة الشعرية عند الأمير عبد القادر الجزائري هو أنه كان صادقاً مخلصاً في كتاباته، فقصائده هي بمثابة انعكاس لأحداث حياته، فقد عبر عنها بكل صدق، وشفافية، فشعر الأمير يمكن اتخاذه كوسيلة لتوثيق حياته، نظراً لصلته العميقة بها، فقد قدم لنا صورة عن ثقافة عصره، وأبرز لنا بعمق الكثير من القضايا التي سادت في بيئته.


الهوامش:

(1)د.ممدوح حقي:من مقدمة ديوان الأمير عبد القادر الجزائري،دار اليقظة العربية، بيروت، 1965م، ص:11.

(2)د.عمر بن قينة: دوخ جنرالات فرنسا، ودوخته أم البنين:مقال منشور في مجلة الفيصل الأدبية،المجلد الرابع،العددان الثالث والرابع، جمادى الأولى،رجب 1429هـ/2007م،ص:87ومابعدها.

(3)د.فؤاد صالح السيد:الأمير عبد القادر الجزائري متصوفاً وشاعراً،المؤسسة الوطنية للكتاب،د،ط،الجزائر،1985م،ص:191.

(4)د.فؤاد صالح السيد:الأمير عبد القادر الجزائري متصوفاً وشاعراً،ص:194.

(5)د.فؤاد صالح السيد:المصدر نفسه،ص:195ومابعدها.

(6) د.عمر بن قينة:دوخ جنرالات فرنسا،ودوخته أم البنين،المصدر السابق،ص:93.

(7)د.صالح خرفي:في ذكرى الأمير،المؤسسة الوطنية للكتاب،د،ط،الجزائر،1984م،ص:35 ومابعدها.

(8)رابح بونار:الأمير عبد القادر حياته وأدبه،مقال منشور في مجلة آمال، العدد:08،جويلية، 1970م، ص:17 وما بعدها.

(9)د.عمر بن قينة:المصدر السابق،ص:98 وما بعدها.

(10) د.فؤاد صالح السيد:المصدر السابق،ص:214ومابعدها.

(11)  د.عمر بن قينة:المصدر السابق،ص:95، وما بعدها.

(12) د.فؤاد صالح السيد: المصدر نفسه،ص:217.

(13)  رابح بونار: الأمير عبد القادر حياته وأدبه، المصدر السابق، ص:15 و ما بعدها.

(14)د.فؤاد صالح السيد: المصدر نفسه،ص:260،258.

(15)المصدر نفسه،ص:261.

(16)  د.فؤاد صالح السيد:المصدر السابق،ص:229ومابعدها.

(17)د.فؤاد صالح السيد:المصدر نفسه،ص:228  و ما بعدها.


قسم اللغة العربية، جامعة عنابة، الجزائر

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.