كيف عاش الأمير عبد القادر الجزائري حياته في دمشق
بقلم: د.علي محمد الصلابي-
ولما كثرت الزلازل في مدينة بورصة وضواحيها، وشكلت أذى للسكان والمهاجرين، مما اضطر السلطان إلى السماح للأمير بالإقامة في دمشق الشام، وصدرت الأوامر إلى محمود نديم باشا والي دمشق بالاستعداد لاستقبال الأميـر وإعداد السكن اللائق به، وعند وصول الأميـر إلى ميناء بيروت وجد الأمير ومن معه جموعاً من السكان اللبنانيين في استقبالهم والترحيب بهم وإكرامهم.
وفي اليوم الثاني سـار موكب العربـات تجرها الخيول المطهمة نحو دمشق الفيحاء، وكان استقبالاً رسمياً دمشقياً أُعد على مشارف المدينة.
أ ـ العبادة والحلقات العلمية وكتبه وفكره:
كان مدة إقامته في دمشق متفرغاً للصلاة والذكر والتأمل والعلم والتدريس في الجامع الأموي أو في دار الحديث النووي، وكان دؤوباً على عمل الخير والصلاح، مواظباً على المطالعة والتأمل، وزار بيت المقدس والخليل، ووقف عند مزاراتها التاريخية، وبعد فترة سافر إلى حمص وتوقف عند ضريح الصحابي الجليل خالد بن الوليد، ثم قدم حماة، ومنها انتقل إلى دير سمعان لزيارة قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان يلقي دروساً في القرآن والفقه والحديث، فضلاً عن علوم شتى في الجامع الأموي والمدرسة الجقمقية ودار الحديث الأشرفية وفي داره.
ومن الكتب والرسائل التي اعتمدها في غالب الأحيان الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والعقائد النسفية في التوحيد للعلامة نجم الدين عمر النسفي الحنفي، وموطأ الإمام مالك، وصحيح البخاري الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، وصحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وألفية ابن مالك، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي.
1 ـ مؤلفاته وكتبه:
بدأ الأمير الكتابة والتأليف منذ ريعان شبابه، فضلاً عن نظم الأشعار والقصائد في مواضيع شتى منذ سن مبكرة حتى آخر أيامه، فقد شرح قبل أن يستلم الإمارة حاشية في علم الكلام، كتبها جده الذي عاش في نهاية القرن السادس عشر عبد القادر بن أحمد المدعو بن خده، وبعدها بحسب الظروف والمواقف كانت له تأليف وكتب:
ـ رسالة بعنوان “حسام الدين لقطع شبه المرتدين”، كتبها في بداية عهده بالإمارة أي عام (1833م)، وذلك بالرد القاطع من القرآن والسنة النبوية على بعض أشباه الشيوخ، الذين استمالهم واستأجرهم الاحتلال، ليروجوا بين الناس جواز النزول تحت حكم الفرنسيين، وعدم جواز الانضمام إلى دولة الأمير المجاهدة.
ـ كتاب “وشاح الكتائب وزي الجندي المحمدي الغالب”. ألفه بعد معاهدة التافنة عام (1837م)، وهو كتاب يشتمل على الأحكام والأزياء والقوانين الخاصة بالجيش المحمدي الفتي، خطه بيده المجاهد قدور بن رويلة تحت إشراف الأمير وأضاف إليه بعض الملاحظات.
ـ مجموعة من المراسلات الفقهية بينه وبين علماء عصره، وأجوبة كثيرة عن أسئلة لحل مشكلها وفتح ما استغلق منها، وكذلك مجموعة من المراسلات بينه وبين بعض الشخصيات المدنية والعسكرية، وأجوبة كثيرة عن أسئلتهم واهتماماتهم في ميادين شتى.
2 ـ كتاب “المقراض الحاد”:
كتاب “المقراض الحاد لقطع لسان منتقص الإسلام بالباطل والإلحاد”، ألفه الأمير عبد القادر عندما كان سجيناً في قلعة أمبواز في فرنسا في أواخر عام (1852م). والسبب في ذلك أنه بلغ الأمير أن بعض الحكام والضباط الأمراء الأوروبيين انتقص من دين الإسلام، واعتبر أن الخديعة والغدر من سمات الإسلام نفسه، فوضع الأمير ذلك الكتاب من حفظه دون مراجع مكتوبة للرد عليهم بالدليل الكافي والوافي من القرآن والسنة الصحيحة، وبين لهم خطأ اعتقادهم، ووضح في الكتاب مسائل وأحكاماً مهمة، وظهرت فيه روح الدعوة وحرصه على هداية الناس.
3 ـ كتاب “المواقف”، وبطلان نسبته للأمير:
ينسب كتاب “المواقف” للأمير عبد القادر بعد وفاته بثمانية وعشرين عاماً، حيث طبع في مصر على نفقة السيدة نبيهة خانم، زوجة محمود باشا الأرناؤوطي، من دون أي دليل على أن للأمير صلة به، سوى الألف واللام التي وضعت على عنوانه “الأمير عبد القادر” فالكتابة كانت بقلم فراج بخيت السيد، والتاريخ كان (1328هـ) والأمير كانت وفاته (1300هـ). ولم يذكر السيد فراج أنه مثلاً نقل ما خطته يداه عن مخطوط للأمير، أو أنه كان يحضر ندواته الفقهية ونقل عنه هذا الموقف أو ذاك، أو أنه استند إلى أوراق وصلته من ورثته مثلاً، لا شيء من هذا البتة، والأدلة كثيرة تناولتها بالتفصيل في كتابي كفاح الشعب الجزائري، الجزء الأول عند الحديث عن الأمير عبد القادر.
4 ـ هل كتب الأمير مذكرات في السجن عام (1851م)؟
وهذه قصة غريبة ملفقة لا أصل لها وأشد غرابة من صدقها، ففي عام (1970م) قدم الكاردينال هنري تيسيه أسقف الجزائر، وجاك شوفالييه الرجل السياسي الذي عاش ودفن في الجزائر، قدم مخطوطاً للمكتبة الوطنية في الجزائر، زاعماً أن ملك قصر أمبواز الجديد وجد هذا المخطوط بين أخشاب قديمة في قبو القصر. فالخلطة العجيبة من المعلومات الصحيحة منها والكاذبة في هذا المخطوط، والأسلوب العشوائي والركيك والكلمات العامية والسوقية في بعض النصوص لا يستحق عناء التمحيص فيما كتب، وبراءة الأمير مما نسب إليه ظلماً وبهتاناً وزوراً.
إن بعض الأوروبيين لم ينسوا في يوم من الأيام عداءهم للإسلام والعرب، لذلك عمد كتَّابهم إلى محاربة أعدائهم بشتى الطرق، ومنها التشويه والتزييف عن طريق الفكر، ومنها تزوير وثائق وتقليد خطوط، إلى نسج مذكرات، وبرعوا بهذا الفن وجعلوا لأنفسهم أعواناً، حتى من أبناء أمتنا.
5 ـ كتابه “تحفة الزائر”:
كتاب “تحفة الزائر في تاريخ الجزائر ومآثر الأمير عبد القادر” لمحمد باشا الابن الأكبر للأمير عبد القادر الجزائري. تناول المؤلف فيه تاريخ الجزائر الجغرافي والسياسي وتاريخ والده وجعله في جزأين، كتب في الأول تاريخ الجزائر ككل وتاريخ والده العسكري وملاحمه البطولية بالتفصيل، وأكثر المعلومات في هذا المجال أخذها من والده أثناء حياته، حيث بدأ بتأليف الكتاب، وأخذ أيضاً معلومات من المجاهدين الذين رافقوا والده أثناء المعارك، وقادة الجيش ومن وزرائه أي من خلفائه في المدن الذين لحقوا به إلى دار الهجرة في دمشق، ومن أعمامه الذين شاركوا شقيقهم في الجهاد وهم سعيد وأحمد ومصطفى وسُجنوا معه في أمبواز.
وفي الجزء الثاني تناول حياة والده في السجن، وتفاصيل أخرى عن زيارة إمبراطور فرنسا له وإطلاق سراحه وذهابه إلى دار الخلافة، واختيار مدينة بورصة ثم دمشق.
ولقد كتب الدكتور المؤرخ الكبير أبو القاسم سعد الله في موسوعته الجديدة “تاريخ الجزائر الثقافي” أن الوالد هو من مكن ابنه من المعلومات والوثائق العسكرية والتاريخية والعائلية الهامة التي ساعدته على تأليف هذا المخطوط؛ الذي انتهى منه بعد وفاة والده الأمير عبد القادر بسبع سنوات، ولكنه بعد انتهائه سرقت منه النسخة، وهذه النسخة بعد أن سُرقت حُرقت وأنقذ منها الجزء الأول، فجمع المؤلف ما تبقى من المواد حسب قوله في مقدمة الكتاب ثم سلمها إلى ناشر في أحد دور النشر بالإسكندرية عام (1898م) تقريباً ولقد ذكر الدكتور أبو القاسم أنه عثر على نسخة من هذا الكتاب مهداة إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام (1307هـ)، وبمقارنتها بالنسخة المطبوعة عام (1903م) في القاهرة وجد فروق هامة في بعض التفاصيل بين النسختين.
على أي حال فكتاب “تحفة الزائر” قيم جداً ذكر تفاصيل هامة للمعارك والانتصارات الباهرة التي أحرزها جيش الأمير على القوات الغازية، من هذه الملاحم معركة “المقطع” وسيدي إبراهيم وعشرات غيرها، مما لم يذكرها أحد قبله بهذه الدقة، فكان هذا الكتاب المرجع الأول في اللغة العربية للباحثين.
قالت الأميرة بديعة الحسني الجزائري: واثناء دراستي لهذا الكتاب النادر “تحفة الزائر” طبعة الإسكندرية وجدت أن المؤلف أو الناشر والله أعلم قد استعان بمؤلفات أجنبية، من أكثرها كتاب “حياة عبد القادر” لهنري تشرشل، الضابط البريطاني بعد فقدانه لنسخته الأصلية، وبما أنه كان لا يتقن اللغات سوى العربية والتركية، سلّم ما تبقى من النسخة المسروقة إلى دار نشر قامت بعمليات التنقيح والتحرير والنقل، واكتشفتُ الكثير من المتناقضات والانسلاخ عن المضمون الذي أراد المؤلف قوله، فدور النشر في مصر في ذلك العصر كانت تمتاز بالجودة، ولكنها لم تكن بعيدة عن الهيمنة البريطانية؛ التي لم يكن غزوها لمصر عسكرياً فقط، وإنما كان فكرياً أيضاً.
إن المدقق والباحث والمطلع على شخصية هذا المجاهد الكبير لا يستطيع التسليم بصحة كل ما كتب عنه في الجزء الثاني من كتاب “تحفة الزائر”.
ب ـ تلاميذ الأمير عبد القادر:
تخرج على يدي الأمير عبد القادر كثير من الشباب تأثروا بسيرته الجهادية وبعلمه وأدبه ومنهجه وأصبحوا فيما بعد من العلماء، واستمروا على ذلك النهج وطوروه، واتسعوا به، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ عبد الرزاق البيطار المولود عام (1837م) والذي بات من علماء الشام المشهورين حتى وفاته عام (1916م). رحم الله الشيخ الداعية المجاهد عبد الرزاق، السلفي العقيدة الذي لم تأخذه لومة لائم لحظة في إبانة الحق، ولم يصده عتب عاتب ولا قومة قائم، الصادع بالحق، المنكر على أصحاب الخرافات من المتصوفة، ولقي في سبيل ذلك عنتاً كبيراً من الجامدين، ويكفيه فخراً هو كذلك أن تخرج على يديه علامة الشام وفقيهها السلفي الكبير جمال الدين القاسمي المولد عام (1866م) والمتوفى عام (1914).
2 ـ الطاهر الجزائري ابن الشيخ صالح السمعوني الذي ولد عام (1852م) وتوفي عام (1920م) وأصبح بحلّته من أكابر العلماء باللغة والأدب في عصره، وأنشأ مع الأمير دار الكتب الظاهرية، والمكتبة الخالدية في القدس، وله عشرون مصنفاً وأصبح من أعضاء المجمع العلمي العربي.
3 ـ الشيخ عبد الغني بن طالب بن حمادة بن إبراهيم الغنيمي الدمشقي وهو من أقران العلماء، ولازم الأمير منذ قدم دمشق، من مواليد (1807م) وتوفي (1881م). كان عالماً فاضلاً من فقهاء الحنفية، وله تآليف عديدة، وكان يكره البدع والأوهام والخرافات التي أدخلت على الدين ظلماً وعدواناً.
المراجع:
1 – كفاح الشعب الجزائري، الجزء الأول، د. علي محمد الصلابي.
2 – فارس الجزائر ، العماد مصطفى طلاس.
3 – الأمير عبد القادر ، بديعة الحسني.
4 – فكر الأمير عبد القادر ، بديعة الحسني.