في ذكرى رحيل الأنيق، حارس القيم بالجزائر.. الشيخ الدكتور عبد الرحمن شيبان رحمه الله
بقلم: مرلد ملاح-
بحلول الثاني عشر من شهر أغسطس لهذه السنة، تمر سبع سنوات كاملة على وفاة الشيخ الدكتور عبد الرحمن شيبان رحمه الله، ذكرى وفاة رجلٍ،مات ليبقى حيًّا في قلوبنا، وفي قلوب كل من عايشه أو نهل من عنده، أو جلس اليه،أو حتى سمِع عنه، أما الحديث عنه وعن مناقبه، فقد سبقني إليه ثلة من الشيوخ والدكاترة والباحثين، وقدأبدعوا بتعداد مناقبه ، وتحدثوا عن الشيخ شيبان المجاهد ،والشيخ شيبان المفتش في وزارة التربية والتعليم، والشيخ شيبان الوزير ، وكذا عن الشيخ شيبان ،، باعثا ورئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ولما استشكل علي أي جانب أتناوله في حياة الرجل ،استرشدت بالهدي النبوي الشريف ،عاملا بتوجيه لطيف جميل خالد، لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا وهو عبد بن مسعود الموصي بقوله”عليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع،والتعمق، وعليكم بالعتيق”، والعتيقفي الحديث عن سيرة الشيخ، ما جاد به أحد جهابذة الأدب بالجزائر الدكتور الأديب ، أحمد رضا حوحو في عدد البصائر رقم 256 الصادر يوم الجمعة 28 رجب 1373 هجري الموافق 2 أبريل 1954 ،ضمن سلسلة مقالات مميزة عنوانها (في الميزان) وتحدث فيها عن شخصيات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد أفرده لشخصية الدكتور عبد الرحمن شيبان رحمه الله.
رحل حسن الظن بعباد الله (الصالحين وغير الصالحين)
يبدع الدكتور أحمد رضا حوحو صاحبة رائعة غادة ام القرى سنة 1947؛ وهي (رواية) تحكي حياة المرأة الحجازية، وكذا رائعة (مع حمار الحكيم ) وهي مقالات قصصية ساخرة صدرت سنة 1953،يبدع لدى حديثه عن الشيخ شيبان فيصفه وصفا دقيقا ،يتعداه من الوصف الجسماني الى الروحي ثم الفكري والسلوكي ، مسلِطا الضوء على ما اعتبرها تناقضات (غير مضطربة ) يحملها الشيخ شيبان في شخصيته ،خاصة عندما يكتب مخاطبا قراءه : “شخصيتنا في هذا العدد أيها القارئشخصية ملأى بالمفاجآت”،،،هكذا يشوق الأديب قُراءَه ،وما يلبث إلا أن يغوص بهم في تفاصيل شخصيته، حيث يضيف :”الشيخ عبد الرحمن شيبان ديمقراطي الأفكار إلى حد بعيد جدا ،ولكنه ارستقراطي الشخصية إلى حد بعيد جدا “،ثميواصل شرح الديمقراطية التي يراها الأديب في شخصيته، موضحا إحدى تجلياتها بالقول :
“إنه ديمقراطي شعبي فيما يخص المجتمع والحياة العامة”ولأن المتحدث أديب والمتحدث عنه أديب، يتحفنا أحمد رضا حوحو بقراءة متأنية، جميلة وراقية أوجزها بالقول:
“الأستاذ شيبان يمتاز بدقة الملاحظة ورقة الشعور، وتوقد الإحساس، وهو لا يتمذهب بمذهب في الأدب لأن هذا التمذهب يوجِب التقليد، وهو يكره التقليد، لأن التقليد مذهب بعينه يضطره للاعتراف بغثِّه وسمينِه ،وصاحبُنا لا يحلو له إلا أن يأخذَ كــــلَّ طريف، ولا يُــــــعجب إلا بكل ظريف ، مهما كان مصدرُه ومهما كانت بيئتُه ومذهبُه، من هنا تبدو لك أناقَــــــــتـُه في الأدب ، في مطالعته، في أسلوبه، كما تبدو أناقته في ملبَسِه وهندامِه، ولولا كسلُه في الإنتاج لـقدَّم للقُـرّاء روائعاً”
رحل جامع الآراء(ممن يثق بذوقهم وممن لا يثق بذوقهم)
كثيرون هم الشهود على شخصية الشيخ شيبان الجامعة، خصلة راقية تميز بها الشيخ عبد الرحمن طيلة مساره المطرز بسعة قلبه، وها هو الزعيم الوطني فرحات عباس عائد من الصين في زيارة أداها ذات التاسع والعشرين سبتمبر سنة 1960 ، لدى مروره بطرابلس الغرب (ليبيا) وقد سمع بوجود الشيخ شيبان بنفس المكان ،فطلب لقاءَه ومقابَلته، بل ومرافقته إلى تونس، وقد قال حينها فرحات عباس قولته المشهورة للشيخ شيبان:”Tues le seulrescapé de olamaa”فيما معناه “أنت الناجي الوحيد من العلماء”،كذلك كان رحمه الله وسيطا في الإصلاح بين الرئيس الراحل أحمد بن بلة ،في خلافه المشهور مع العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ،وبالحديث عن الإبراهيمي فهو في ثالث الثلاثة الذين تجمعهم بالشيخ شيبان محبّةٌ خاصــــــة وعلاقة أخص، إذ لطالما كان يحثُّ الجالسين إليه ممازحا :
قوموا صلوا ركعتي شكر لله أن أنجبت الجزائر جهبيذا مثله (ويقصد الشيخ الابراهيمي عليهم رحمة الله جميعا).
كان الشيخ شيبان وفيا وفاءا نادرا حتى في الأزمنة التي قل فيها الوفاء، وفي هذه الجزئية أذكر موقفين، أوَّلهُما عقب الاستقلال، وكيف بذل جهدا مضنيا في اقناع قادة الثورة آنذاك، بمن فيهم الشريف بلقاسم ، بضرورة الاعتراف والدمج الفوري لمعلمي مدارس جمعية العلماء، والاعتراف بهم كمدرسين رسميين فيالتعليم الحكومي ،وذاك ما حصل لاحقا ، أما الموقف الثاني سنة 2008 كما يروي الشيخ الأستاذ قدور قرناش ،أحد أنشط أعضاء المكتب الوطني الحالي ، بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومراقبها بالغرب الجزائري ،لدى دعوة الشيخ لملتقى الشيخ الجيلالي الفارسي بمدينة الشلف ،وكيف أنه اعتذر بداية عن الحضور، وبمجرد ان وصل الإخوة الداعون له إلى تخوم ولاية الشلف ،هاتفهم الشيخ (رحمه الله) قائلا : أنه يحس بتأنيب الضمير “إن أنا لم أحضر نشاط عن رفيق دربي”وزار المدينة فعلا، ليحضر أحد الأعراس في عائلة الشيخ الفارسي وموجها توجيها بليغا لأعمال الملتقى... عن الوفاء نتحدث .
رحل الشيخ شيبان:لطيف المعشر ظريف المظهر والمخبر.
وعودا إلى مقال الأديبأحمد رضا حوحو، للتعرف أكثر على شخصيته، يضيف بالقول: “فإن شيخنا شيبان شاب في العقد الرابع من عمره، فارع الطول، قوي البنية، أنيق الملبس، حتى أنه يفرط في بعض الأحيان في هذه الأناقة،فتجده ينتقي كل قطعة من لباسه بعناية تامة ،ولا يشتري قميصا ولا ربطة عنق حتى يُعقد مؤتمر ،ويجمع آراء من يثق بذوقهم ومن لا يثق على السواء ،ثم يتوجه الى البائع الأول فيشتري حاجته من البائع العشرين ، أما حلّاقه فمشكلةٌ من المشاكل ،فهو إلى الآن لم يستقر رأيه على حلاق يرضيه،أو نوع (حلاقة ) تُرضيه ،ولكنه مع ذلك شاب لطيف المعشر، ظريف المظهر والمخبر ،كثيُر الثقة بأصدقائه ،ولكنه كثير الحذر، وقد يكون هذا الحذر في غير محلِّه ،حَسَنُ الظنِّ بعباد الله الصالحين وغير الصالحين ،يحب الشخصية الجبّارة ويُعجب بها (ولو كانت شخصية راسبوتين* ).
وقد كنت شاهدا على أناقة الشيخ شيبان لدى حلوله ضيفا على مدينة الشلف سنة 2008 في ملتقى الفكر الإصلاحي،و قدكان وقارُه رحمه الله، يشدُّالأنظار،تماما كما تشد الأنظار أناقته التي تحدَّت العُمرَ والمرض.
رحل الشيخ شيبان وبقيت مواقفه وجهوده الخالدة.
مما يحفَظُه التاريخ للشيخ شيبان ،إقناعُه للرئيس الراحل أحمد بن بلة بالوقوف والترحم على قبر شيخ النهضة بالجزائر ورائد الاصلاح فيها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ،موقف ومبادرة كانت تحمل الكثير من الرمزية والرسائل في ظل صراع كان وربما لا يزال محتدما ، على شكل الدولة الجزائرية المستقلة ، كذلك كان رحمه الله مدافعا عن العروبة والإسلام وهو الأمازيغي القُحّ ،معبرا عن أبعاد الشخصية الجزائرية المتناغمة مع مكوناتها المختلفة دون تناقض أو إفراط أو تفريط ،وسيحفظ التاريخ أيضا جهوده الحثيثة في التفاوض، بل وإقناع الوفد الإيراني المشارك في مؤتمر اليونسكو سنة 1966 بفرنسا، بسحب ترشيحهم للغة الفارسية ،من أجل تقوية فرصة ترسيم اللغة العربية كخامس لغة رسمية لدى ذات المنظمة ، ويحفظ التاريخ أيضا مواقفه في تقريب وجهات النظر حتى بين الفرقاء السياسيين، إذ كان له الجهد الكبير أيضا بمعية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ، في إقناع الرئيس هواري بومدين بإطلاق سراح الشيخ محفوظ نحناح من سجنه رحمة الله عليهم جميعا.
رحل الشيخ شيبان وهو أحد الذين اقنعوا الشيخ محمد الغزالي بالقدوم للاستقرار بالجزائر ،رحل من جعل الجزائر عبر ملتقيات الفكر الإسلامي كعبة للعلماء والمشايخ والمفكرين من مختلف النحل والملل والأطياف والمذاهب ،رحل من دافع عن غزة وفلسطين قاطبة بالقرائن الدامغة ،والحجج الموضوعية بعيدا عن العاطفة ، على أحقية الفلسطينيين والعرب والمسلمين في مقدساتهم، لدى لقائه مع الرجل الثاني للسفارة الامريكية بالجزائر ،وما كان من هذا الأخير إلا أن عبَّر عن احترامِه و اعجابِه بموضوعية الشيخ شيبان، بل وغزارة طرحه، وقوة حججه ، ولن ينسى الملايين من الجزائريين الشيخ شيبان، وقد أكرمهم بحسن انتقاء النصوص النثرية والشعرية مضمنا إياها المناهج التعليمية والمقررات الدراسية، أيام عمله مفتشا بوزارة التربية والتعليم غداة الاستقلال .
رحل باعث تراث جمعية العلماء، صاحب النكتة والنوادر.
قد لا يدرك جيل اليوم القيمة العلمية والثقافية، بل والحضارية التي كانت تتمتع بها جريدة البصائر، في زمن الاستدمار والاستعمار والتجهيل، كانت البصائر التي أحبها ليس فقط الجزائريون، بل شعوب أخرى كانت تتناقلها تحت المعاطف وتقرأها تحت أضواء الشموع، في أجواء شبيهة بالعيد في مصر وتونس والمغرب، وشاءت الأقدار أن ينسق الشيخ شيبان،مع التونسي العاشق للبصائر، الفاضل لحبيب لمسي صاحب دار النشر (دار الغرب الإسلامية)، وقد كانت لهما الجهود المخلصة في إعادة طباعة الشهاب والبصائر المستمرة إلى اليوم.
لقد بذل الشيخ شيبان العديد من الجهود التي نعجز عن تِعدادِها ،وما دروسه المتميزة رفقة أخويه الشيخ محمد مكركب والشيخ محمد الهادي الحسني بمسجد القدس بحيدرة (الجزائر )، إلّا شاهد على هِـمَّـتِه ،وحبه لعمل الخير، وخير العمل، ومما لا يمكن تغافُله جمع الشيخ شيبان بين الصرامة والجد أوقات العمل ،ولا باس أن يتخللهما المزاح، تماما كما مازح رفيقه الشيخ كتو رحمة الله عليه ،اذ استضافه في مسجد القدس ، ولما فرغ الشيخ كتو من إلقاء درسه ،مازحه الشيخ شيبان،بأن لجنة المسجد وزواره يُلحّون على الشيخ كتو، بتقديم درس أسبوعي بمسجدهم ،وقد بادله الشيخ كتو المزحة بأجمل منها قائلا: لدي درس واحد ألُّف به مساجد الجمهورية يكفيني لمدة سنة ، تريدني أن أحضر كل أسبوع درسا ؟ هكذا كانوا رحمهم الله فهل تستلهم مناهجنا الدراسية وأجيالنا الشابة القدوة منهم؟
*غريغورييافيموفيتش راسبوتين، راهب روسي يوصف في كتب التاريخ أنه شيطان في زي راهب، ولد في قرية بوكروفسكوي الريفية الواقعة في سيبريا سنة 1896 ، أصبح فيما بعد رجلا مقربا من العائلة الملكية في سانت بطرسبرغ، اغتيل سنة 1916.