الشيخ عبد الرحمن شيبان… رائد فكر وقائد دعوة
بقلم د. يوسف جمعة سلامة-
أخرج الإمام الترمذي في سننه عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول:”...إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ“.
إن ديننا الإسلامي الحنيف يُبَيِّن لنا مكانة العلماء وفضلهم، فوجودهم في الأمة حِفْظٌ لدينها وَصَوْنٌ لِعزّتها وكرامتها، فهم ورثة الأنبياء في أُمَمِهم، وأمناؤهم على دينهم، ويُعَدُّ فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان – رحمه الله- من العلماء العاملين الذين خدموا دينهم وأمتهم ووطنهم بكل إخلاص.
لقد كان الشيخ عبد الرحمن شيبان –رحمه الله– الرئيس الثالث لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين أستاذا جليلا، وقائدا كبيرا، وباعث نهضة، وكان مُصلحاً كبيراً وعالماً باحثاً، وكاتباً أديباً، وَقَلَّما تجتمع هذه الصفات في رجلٍ واحد، وقد أكرمه الله سبحانه وتعالى بها.
ونشير هنا إلى ما قاله أ.د. عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحقِّ فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان –رحمه الله-، في تقديمه لكتابه (الجزائر وفلسطين بين قُوة الحقّ وحقّ القوة): “رجلٌ وضعته المقادير على ثغرٍ هام من ثغور الأمة، فكان المرابط الذي يذودُ عن حياضها بحنكة واقتدار، والمجاهد الذي يحمي ضمارها بحكمة واعتبار، والقائد الذي يُدافع عن شرفِ وجودها بين الأحرار، ذلك هو عميد علماء الجزائر، ووارث مشعل التغيير والإصلاح، عن خيرة علمائها، أستاذي عبد الرحمن شيبان).
قبسات من نور … من حياته – رحمه الله-
رحم الله شيخنا الجليل، وأثابه الله وأعلى في الجنان مقامه، فقد كان – رحمه الله- عَلَماً من أعلام الإسلام، ورائدًا من روّاد الوسطية والاعتدال والتسامح، ومجاهداً بكل معاني الجهاد في سبيل الذودِ عن الإسلام، ونشرِ دعوته وتوطيدِ أركانه وردِّ كيدِ الكائدين عنه.
فقد كان لفضيلته – رحمه الله – أثناء عمله وزيراً للشؤون الدينية بصمات واضحة مع العلماء والدعاة، حيث إنه كان حريصاً بنظرته الثاقبة الواعية على توحيد جهود العلماء والدعاة وذلك باستيعابهم وتهيئة السُّبُلِ أمامهم ليعملوا جميعاً على خدمة أمتهم وشعبهم ووطنهم، حيث يحظى فضيلته باحترام العلماء وتقديرهم، ففضيلته – رحمه الله – من الرجال القلائل الذين ينعقد عليهم الإجماع.
* إن لفضيلة الشيخ شيبان – رحمه الله – إنجازات كبيرة، منها: حرصه على تنشئة أبناء شعبه وتربيتهم على موائد الدين الإسلامي واللغة العربية، فكانت الكتب المدرسية التي أشرف على إعدادها
– رحمه الله – كُتُباً إسلامية تَرَبّى عليها ملايين الجزائريين، فهو بحقٍّ خيرُ خادم لدينه وأمته ووطنه.
* كما كان فضيلته – رحمه الله- من المحبين للغة العربية، والغيورين عليها والعارفين قدرها ومكانتها لكونها لغة القرآن الكريم، فإذا فقدت الأمة لغتها فقدت دينها وتاريخها، ويكفي اللغة العربية فخراً وشرفاً أن الله سبحانه وتعالى قد اختارها لتكون لغة كتابه، وجعلها لسان أفضل خلقه – صلى الله عليه وسلم -.
القـدسُ فـي عينيـه – رحمه الله –
لقد عرفتُ فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان -رحمه الله- عندما شَرُفْتُ بزيارته ولقائه في بيته العامر قبل أكثر من عشرة أعوام، فبعد أن صَلَّيْتُ الجمعة في مسجد القدس بالعاصمة وألقيتُ خطبة كانت بعنوان (القدس … مكانة وأمانة)، تشرَّفتُ مع عددٍ من الأخوة أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعددٍ من الأخوة الفلسطينيين بزيارة شيخنا -رحمه الله- في منزله، فأحسن استقبالنا رغم وعكته الصحية وقتئذ وأكرمنا أكرمه الله، وشعرتُ بأنني أمام عَلَمٍ من أعلام الأمة، ورجل من خيرة رجالاتها، وقائد رباني يحمل قلباً كبيراً، نعم، لقد وجدتُ نفسي أمام جبلٍ أشمّ رغم تَقَدُّمه في السِّنِّ، محبّ لفلسطين وقدسها وأقصاها، فعرفتُ فيه الصّدق والإخلاص، ومضاء العزيمة، والاندفاع في سبيل العقيدة والمبدأ، وكان له – رحمه الله- قدمُ صدقٍ ويَدٌ بيضاء في خدمة القضايا الإسلامية والعربية وفي طليعتها قضية العرب والمسلمين الأولى، قضية فلسطين التي كان من أكثر المدافعين عنها.
لقد كان الشيخ – رحمه الله – مُحِبًّا لفلسطين وأهلها، وأكبرُ دليل على ذلك مقالاته المتعددة، وخطبه وبياناته العديدة، حيث ذكر بعضها في كتابه (الجزائر وفلسطين بين قُوّة الحَقّ وحقّ القوّة)، كما أسهم الشيخ – رحمه الله – في دعم قافلة الجزائر المتوجهة إلى قطاع غزة المحاصر، حيث قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد العدوان الغاشم على قطاع غزة سنة2008م بإقامة مستشفى الجزائر في القطاع، مساعدة من الشعب الجزائري الشقيق لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
كما زوّدنا الشيخ – رحمه الله – بفتوى تتضمن دعوة للأمة بضرورة وقوفها بجانب الشعب الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين والقدس والمقدسات، وحمّلنا أمانة لشعبنا الفلسطيني بكل مكوناته بضرورة الوحدة وإنهاء الانقسام؛ لأن سرّ قوتنا في وحدتنا.
لقد رأيتُ في فضيلته – رحمه الله- عِزَّة الجزائر وشموخها، ورأيتُ القدس في عينيه، وسمعتُ دعاءه الذي يُرَدّده دائماً بأن يحفظ الله- سبحانه وتعالى- المسجد الأقصى والمقدسات والقدس وفلسطين من كل سوء، وأن يَمُنَّ على شعبنا الفلسطيني بنعمة الوحدة والثبات والنصر.
فضيلة الشيخ شيبان …والرئيس عرفات – رحمهما الله-
قال فضيلة الشيخ شيبان – رحمه الله – في صحيفة البصائر عدد220 بتاريخ 27/12/2004م: (تعرَّفتُ على الرئيس الراحل ياسر عرفات عن كَثَبٍ في يوليو1985م ببجاية، حيث كنتُ أشرفْتُ على أشغال مُلتقى الفكر الإسلامي الدولي التاسع عشر الخاص بموضوع:”الغزو الثقافي والمجتمع الإسلامي المعاصر” الذي ساهم فيه – عليه رحمة الله– بإلقاء كلمة أنارت العقولَ وكَهْربَت القلوب عن ملحمة فلسطين، كما أتحَفَ جمهور العلماء والطلبة المشاركين في الملتقى الداعيةُ الإسلامي الحكيم الشيخ/ محمد الغزالي – رحمه الله-، بكلمة تحليلية عن السيرة الذاتية للرئيس عرفات أيَّامَ اتصاله به في غزة حين كانت تحت الرعاية المصرية؛ فازدَادَ تقديرنا لعرفات، واشتدّ حُبُّنا لعرفات، لأن ذلك تقديرٌ لفلسطين، وحبٌّ لفلسطين… ونحن نقول -اليوم- في شأن فلسطين، بعد رحيل قائدها عرفات: (لِتَحْرِصْ فلسطينُ كُلُّها، بجميع فصائل مقاومتها الباسلة، على أن تكون ياسر عرفات! ).
فضيلة الشيخ شيبان …والقضية الفلسطينية
قال فضيلة الشيخ شيبان – رحمه الله – ضمن مقالاته في جريدة البصائر: ” إن الشعب الجزائري على مدارِ تاريخه وفي أحلكِ الظروف وأقساها في عهد الاحتلال الأجنبي لبلادنا وقف مع فلسطين، إذْ تَدَاعَى إلى نجدتها بكلّ وسيلة ممكنة لإنقاذها من مخالب الصيهونية”.
وقال فضيلته: “وقضية فلسطين هي-أمّ القضايا- عند كل عربي ومسلم ما دام هناك احتلال، وهذا الموقف يدفع إليه الواجب الديني والقومي والإنساني”، وقال فضيلته أيضاً: “إن القضية الفلسطينية -قضية العروبة والإسلام المركزية – قضية إنسانية عادلة ، وإن الشعب الفلسطيني الفدائي المقاوم، شعبٌ حرٌّ أَبيٌّ خارقٌ للعادة في بطولته وصبره وَمُصَابرته وتضحياته”.
ويؤكد فضيلته – رحمه الله – على “أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لَتُتَابع بقلقٍ أليم مَا يجري في الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم –، من حفرٍ وهدمٍ واعتداء على المصلين في رحابه ، وَغَلْقِ أبوابه ، ومنعِ الوصول إليه”.
وتساءل فضيلته – رحمه الله – : “أَيَقْتَحِمُ الصهاينة باحات المسجد الأقصى، وفينا قلبٌ يخفق، وعينٌ تطرف، وَأُذُنٌ تسمع، أَلاَ إنه لاَ عُذْرَ لنا عند الله يوم نلقاه، فيسألنا: ماذا فعلتم لفلسطين وقدسها الشريف مسرى نبيكم – عليه الصلاة والسلام- ومعراجه إلى السماء…؟”.
ويدعو فضيلته – رحمه الله – إلى دعم فلسطين، فيقول : “إن القضية الفلسطينية في أَمَسِّ الحاجة إلى دعمٍ يُنْقذُ الشعب الفلسطيني من الفَنَاء، ويُحَقِّقُ حُلْمَهُ في إقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها: عروس المدائن: القدس الشريف: مسرى محمد – رسول الله – ومعراجه، صلوات الله عليه وسلامه ، وثالث الحرمين الشريفين”.
رحمك الله يا شيخنا الجليل، فقد كُنْتَ في عملك حين الأزمات، وفي نضالك عند المُهِمّات، مجموعة رجال في شخص؛ لذلك كان المُصَابُ بفقدك عظيماً، والعبء على مَنْ بعدك في رسالتك ثقيلاً، رحمك الله يا شيخنا رحمة واسعة، وجزاك عن أمتك ودينك خير الجزاء.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.