الخزانة الكبيرة..

بقلم: عبد العزيز بن سايب-

(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). صدق الله العظيم، (ومن أَصْدَقُ من الله حديثا)..

لكن ما مَدَى عُمْقِ تصديقنا بهذه العقيدة النَّاصعة، وهل سُلُوكاتُنا تتطابق مع قناعاتنا الإيمانية هذه؟!.

لا سيما إذا كانت مواردُ الإنسان محدودةً، ومصاريفُهُ مفتوحةً، فلا تناسب ـ بحسب الظاهر ـ بين ما في الجيبِ وما يَفِدُ على الإنسان من نفقات ..

ما أَخُطُّهُ في هذه الأسطر عبرةٌ من عبر الزمان، ودرس من دروس علمائنا في منازل الإيمان .
قصة سمعتها من سيدي الشيخ محمد المكي حفظه الله تعالى، لما وفقني الله تعالى لزيارة مدينة أدرار العريقة ..

والقصة تدور حول مَكْرُمَةٍ من مكارم الشيخ محمد بلكبير رحمه الله تعالى، وهي خصلة يتناقلها عنه القريب والبعيد، ويحملها الركبان معهم، وينثرون وقائعها، حتى كادت أن تبلغ مبلغ التواتر عن ذلك الشيخ الفاضل أو بلغته..

فمن جملةِ الخصالِ الحميدةِ التي كان يتحلى بها الشيخ بلكبير كرمُهُ قليلُ النظيرِ.. وجودُهُ العجيبُ

فالرجل ينزل عليه العشرات.. يوميا.. فضلا على الطلاب المقيمين، والضيوف المستقرين عنده..فأحيانا

يجتمع عنه المئة أو يزيدون ..

فُطورٌ.. وغذاءٌ.. وعشاءٌ.. ووجبات خفيفة وقت الضحوة، وبعد العصر..

مع صينية الشاي دائمة الدوران..

والبذل للمُعْوِزين، والإعطاء للمحتاجين، ووصل المنقطعين..

هذا الأمر أثارَ استغرابَ وإعجابَ أحد ضيوفه وأحبابه، وهو فضيلة الشيخ عبد الرحمن شيبان، رحمه الله تعالى، الذي كان وزيرا لشؤون الدينية، وحَلَّ وقتها في زيارة لأدرار، فلما شاهد تلك الوفود وهاتيك الجموع وإغداق الشيخ بلكبير على الحضور..

قال له سائلا مندهشا: يا شيخ.. نحن في الوزارة ولا نستطيع مثل هذا الإنفاق، وليس لنا مثله.. مع هذا العدد الكثير اليومي.. وأنت في مجرد مدرسة، منقطع في أقصى الصحراء.. من أين كل هذه الخيرات..؟!

فابتسم له الشيخ ابتسامته الجميلة.. وقال له على الفور والبديهة: هذا من الخزانة الكبيرة..
يشير إلى خزانة الأرزاق لرب الأرباب مالك الملك..

والشيخ شيبان لم يكن سؤاله عن شك أو ريبة.. بل ربما من باب استكناه حقائق الأشخاص، والاطلاع على خبايا مَعِينِهم..لأن جواب الأفاضل فيه الفضل والنور، ويبرز صَفحات البواطن.. وما يَدُلُّ على عمق نظرهم، ودقة مَلْحَظِهِم، وهذا كلُّهُ يُقَوِّي الصداقات..ويزيد في توطيد المودَّات، ويُوَضِّحُ مراتب صفوف من هُمْ معك، ويحملون نفس الهَمِّ، ويقاسمونك نفس المشروع، فيكون الاعتماد على خيارهم، والتعاضد من بعضهم للبعضهم.. فمعرفة معادن الرجال كُنوزٌ..

ولله دَرُّ الصدِّيقِ رضي الله عنه وقد جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكلِّ ما عندَه، فقال له: «يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلك؟».. فكان جوابه: "أَبقيتُ لهم الله ورسولَه".. أخرجه أبو داود والترمذي.
إنَّ الشيخَ بلكبير ممن فُتِحَ عليهم بابُ الإنفاقِ والتصدقِ مع العلم والصلاح ..

وهذا الباب لا يكون إلا لذوي القين في رب العالمين، والتوكل على رب العرش العظيم، والعقيدة الجازمة في وعود أصدق القائلين.. والطمع لما عند القديرِ مليكِ كل شيء..

أليس هو القائل: (وابتغوا عند الله الرزق).. وهو القائل: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) .والقائل: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُون)..

وأخبرنا عنه خليلُهُ وصفيُّهُ من خلقه حبيبُنا محمد.. فقال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم، أنفقْ أُنفِقْ عليك، وقال: يدُ الله ملآى، لا يَغيضُها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أَرَأَيتم ما أنْفَقَ منذُ خلق السمواتِ والأرضَ؟ فإنه لم يَغض ما بيده، وكان عرْشُه على الماء، وبيده الميزانُ، يَخفِضُ ويَرفَعُ». أخرجه البخاري ومسلم .

وقال صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: «أَنْفِقْ بِلَالًا، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» أخرجه أبو نعيم وأبو يعلى والبزار والطبراني والبيهقي .

كُبرَى اليقينيات هذه تجعل القلبَ مطمئنًا واليدَ سَحَّاءَ.. كما قالوا: أنفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب..

لا سيما إذا كان الفؤاد فارغا من حب الدينا والتكالب على زهرتها..

عَقَّبَ سيدي الشيخ المكي على سلوك شيخه الشيخ بلكبير فقال: .. الشيخ ما كان يسعى للدنيا، بل قد جاءته الدنيا، أَتَتْهُ حَبْوًا .. لو كان الشيخ يبغي أن يتسع في الدنيا أو اكتساب الديار والأراضي والعقارات والمزارع والأبقار والأغنام لاتسع فيها، لكن تماما ما كان يفكر في شيء، حتى قوت الطلبة، كان متوكلا على الله..اهـ كلام سيد الشيخ المكي حفظه الله تعالى وأمتع به .

ولا يُفهم من هذا أن الشيخ بلكبير كان لا يأخذ بالأسباب، بل كانت له أرض استثمارية يشغلها بالزراعة، ونتاجها يُنفق على الطلاب والضيوف ..

وطلاب المدرسة يساهمون في ذلك، فهم يتواردون على خدمة الأرض بالدور فيما بينهم، ثم عند عودتهم ينضمون في دروسهم وحلقاتهم.. فمنهم من كان يأخذ درسه قبل الذهاب إلى الأرض، والبقية يدرسون في الوقت المعهود...

كما أن الشيخ سُخِّرَ له من المحبِّين والمعجبين الذي يتسابقون لخدمته، محاولين الإسهام في سد حاجيات مدرسته العريقة..

فالشيخ رحمة الله في غاية التوازن، بين التوكل على الرزاق ذي القوة المتين وبين الأخذ بالأسباب، كما يقول علماء العقيدة: "الأخذ بالأسباب واجب، والاعتقاد فيها شرك" ..

فهو كرم المتوكلين، الناظرين لما عند الله، والراغبين في ما مُلئت منه خزائنه.. وإن جاء شيءٌ من الدنيا عن طريق الخلق فالقلبُ مُتيقن أنه من عند الخالق..فلا تعدو زهرة الدنيا اليدَ، ولا تتسلل إلى سويداء القلب..

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.