سِي محمد المكي..
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
ما أن وَطِئَتْ قدماي مدينة المشرية لأول مرة حتى سَألتُ عن علمائها وأهل الفضل فيها .. فأُخبرتُ عن رجلين اثنين ..الشيخ سي محمد المكي، والشيخ سي أحمد جبَّار، أما الثاني لم يتيسر لي لقاؤه أوَّلَ زيارة للمشرية، لأنه كان مسافرا، والأول حَرَصْتُ كُلَّ الحرصِ على لقائه..
والشيخُ سي محمد المكي طَلَبَ العلم على يدي العديد شيوخ البلاد، ومن جملتهم الشيخ محمد بلكبير من زمن طويل، فهو يُعَدُّ من قدماء طلابه في الرعيل الأول..
وكان ذلك في "بن عمار"، التي تَبعدُ عن مدينة المشرية 65 كلم، شمالا باتجاه تلمسان.. حيث كان والد سيدي محمد مكي البكاري رحمه الله "مُشَارِط" سيدي الشيخ محمد بلكبير قدس الله روحه لتدريس القرآن الكريم لقبيلة البكاكرة.
و"المشارط" في عرف أهل المشرية هو أن يأتي شيخ القبيلة بمعلم قرآن من مدينة من المدن، ويشترط عليه تعليمَ الأبناءِ والبقاءَ هناك مقابلَ شيءٍ معلوم يتفقون عليه مسبقا .
وهكذا تدرج سيدي الشيخ سي محمد المكي إلى أن صار إماما، وفقيها، ومُدَرِّسا، بل كان قاضيا وسط صفوف جيش التحرير، أيام الثورة المباركة.. فجمع بين الكفاح وطلب العلم ووظيفة القضاء إبان ثورتنا الميمونة..
فلا غَرْوَ أن يكون من أعيان البلادِ، ولا عَجَبَ في تصدرهِ وُجَهَاءَهَا..
استعجلتُ الإخوة بالمشرية في زيارته..
فتكرم بقبول زيارته، واستقبالنا بكل تواضع وبَشاشةٍ .. رَحَّبَ بي والرُّفقة في استقبال طَيبٍ، وأَضَافَنَا بكَرَمٍ حاتمي ..
دَقِيقٌ في المواعيد، مُحافظٌ على الوقت أيما محافظة، يهتم بالكلمةِ ورعايتها ..أبٌّ لجميع أهالي المشرية مع اختلاف مشاربهم..لا يتأخر عن دعوة خيرٍ، ولا يتردد في إجابة مساعي بِرٍّ..
نظراتُ عينيه غائرةٌ مُشفقةٌ لَوذعيةٌ، كيف لا وهو القاضي المفتي..
انتهزتُ فُرصةَ زيارتِهِ فطَلَبْتُ منه تدريسي متن العاصمية في القضاء لَمَّا عَلِمْتُ أنه دَرَسَها ودَرَّسها، أَحببتُ أن أدرسها بنكهة جزائرية، بعدما درستها بنَفَسٍ شنقيطي..فاعتذر بحالتِهِ الصحيةِ وطولِ العهدِ بها..فشَكَرْتُ له رَدَّه الجميلَ، مُتفهما عُذرَه ..
رجلٌ بَسيطٌ في هَيبةٍ، مُتَواضِعٌ في وَقَارٍ..وَئِيدُ الحركةِ، في هدوءٍ آخَّاذٍ، وطولِ صَمْتٍ، وكلامٍ موزونٍ ..على قِلَّتِهِ، ضَحِكُهُ التبسمُ فقط لا أكثر في تَحَفُّظٍ وخَجَلٍ..
كثير الأدب في جِلسته، لا يُغَيِّرُ هيئتها ولو طالت على الركب..
ثيابُهُ بيضاء تقليدية، ثيابٌ بسيطة في غير هَوَانٍ أو ابْتِذَالٍ، بقميصه الجزائري، طويل الكم، فلا يكشف ذراعيه، صيفا وشتاء، مع غلق أزرار قميصه من أعلاه في جهة عنقه، رغم الحر وشدته، مما نَتهاون فيه، ولا نَتحمل طولَ المقام عليه..عفا الله عنا .. مع عمامته المغاربية..
ثياب تُواري جَسَدًا نَحيلا، عِظام معروقة، كُسيت بلحم ضئيل..
رؤيتُهُ ومجالستُهُ تُذكرك بما تقرأه عن سَمْتِ السلف الصالح..
الشيخ من أولئك الأقوام الذين لا تَهُمُّهم الأضواءَ، ولا يَلتفتون لشُهرةٍ، ولا يكترثون لسُمعة، تَهَمُّمهم القيامُ بواجبِهم في صمتٍ، وتقديمُ الخيرِ في خفاءٍ، وتعليمُ الطلاب وتكوينُهم في غير ضجيج ..
البركةُ تَحُوطُهم، والرضا يُنير وجوهَهم، والاستعدادُ للرحيلِ يَمْلِكُ عليهم تفكيرَهم..
لا يَشتغلون بالترهات، ولا يَنصرفون عن وِجهتهم بالملهيات، ولا يُشاركون في السفاسف التي تُغلف ببهرج العَظِيمات..
لله درهم مِنْ أَيِّ مَعْدِنٍ صُنِعوا، وفي أي بَوتقة تَدَرَّجُوا على مَهْلٍ وعِنَايةٍ..
أعلمني أحدُ الأحباب الثقات من المشرية أنَّ الطبيبَ نجلَ الشيخ سي محمد المكي أخبرهم أن أباه كان يختم القرآن في يومين، وعندما ضعف أصبح يقرأ عشرة أحزاب في اليوم.. وقبل وفاته بأسبوع اشترى كفنه، وأوصى بعدم البكاء عليه.
لقد آلمني جِدَّا وأَوجعني عميقًا خَبَرُ رحيله بالأمس، وهزني أَلَمُ الفِراقِ..ففي كل مرة أزورُ فيه مدينة المشرية منذ سنوات كنتُ أَشْرُفُ بلُقياه..
ومن عجائب القدر أن حادث المرور الذي تُوفي على إثره كان في "بن عمار" حيث بدأ دراسته..
لقد كنتُ أُؤَمِّلُ لقاءهَ في عطلة الربيع القادمة..أَتَزَّوَدُ من دعائِه وأَتَبَرَّكُ بالجلوسِ بين يديه..وأَستنيرُ بنصائحه..
فكُلَّمَا نَزلت في مدينة المشرية كان من الفروضِ العَينيةِ عندي زيارتُهُ والتماسُ دعائه..
فزيارة العلماء الربانيين لدي من الأركان في الحياة، والجلوسُ إلى الكبارِ الصالحين سعادةُ الروح وأفراحُها..
لكن قَدَّرَ اللهُ وما شاء فعل..إنَّ القلبَ ليَحزنُ، وإنَّ العينَ لتدمعُ، وإنا على فِراقك سي محمد لمحزونُون،..ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..
ولا أجد أبلغ من مقالة صاحبك في الدعوة والتعليم في مدينة المشرية سيدي الشيخ سي أحمد جبار الذي قال اليوم في تأبينك: "..كلَّما جلستُ إليه أَشُمُّ فيه رائحةَ الصلاح..".
عَليكَ رحمةُ الرحمن الرحيم، وتَقَبَّلَكَ الكريمُ الجوادُ في الصالحين المصْلِحِين ..