الطَّالِبُ والتوكل
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
المؤمنُ مُتوكِّلٌ على الله تعالى.. هذه عقيدةُ جميعِ المؤمنين..
بيدَ أنَّ المشتغلَ بالعلمِ الشرعيِّ يكون هذا الإيمان أَرْسَخَ عنده.. هكذا يَنبغي ..
فالرَّزَّاقُ هو ربُّهُ، والرِّزقُ كُلُّ الرِّزقِ بيد مولاه، وقد سُطِرَ رزقُهُ وهو جنين في أحشاء أمه..
فهو يرتل هذه الحقائق في القرآن العظيم، ويقرأها في الحديث النبوي الشريف، ويُطالعها في سير العلماء، ويجدها في تراجم الصالحين، ويَسمعها من شيوخه، ويَلمسها في حياتهم.
ومن ثمة قَبيحٌ به أن يَجعلَ طَلَبَهُ للعلمِ طَمَعًا في جَاهٍ، أو سُلَّمًا لوظيفةٍ، أو تَزَلُّفًا لصاحبِ فُلوس..فقَمِنٌ به أن يَطلبَ العلمَ لله جل جلاله، مُفَوِّضًا مستقبلَه لمن بيده ملكوت كل شيء..وأرزاقَه القادمةَ بيد من له خزائن السماوات والأرض .. ومَنْ يَدري هل سيعيش إلى تلك الأيام أم لا ..؟
فيجعل تركيزَه الآن على التحصيلِ والتكوينِ..جاعلا زادَه الصبرَ والتحملَ والاحتسابَ..كما هي حياةُ وسِيرةُ مَنْ سَبَقَهُ، و"صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل" خيرُ دليل ..
إنَّ نجاحَ الكثيرِ من أصحاب النهضات العِلمية نَابِعٌ من هذا اليقين الراسخ، والقناعة الجلِيَّة..
وإليكم هذه الكلام المعبِّرَ.. التي سمعتُه من سيدي الشيخ الحاج محمد المكي حفظه الله تعالى، لما وفقني الله تعالى لزيارة مدينة أدرار العريقة ..
والحديثُ يَدورُ حول مَكْرُمَةٍ من مكارم الشيخ محمد بلكبير رحمه الله تعالى، الذي حَبَاه ربُّه بخِصالٍ نفيسة ..فمِنْ جملةِ هذه المزايا الحميدةِ التي كان يَتحلى بها الشيخ بلكبير توكُلُّهُ على ربِّهِ جل جلاله ..هاته الشُّعبة الإيمانية التي اجتهد في غرسها في طلابه..
قال الشيخ المكي عن شيخه بلكبير: .. تماما.. ما كان الشيخ يفكر في شيء، حتى قوت الطلبة.. كان متوكلا على الله ..
..أَعْقِلُ في السَّبْعينات .. قبل أن يَفْتَتِحَ الدرسَ جَلَسَ في الحلقة، وأخذ يَحُضُّ الطلبةَ على طلب العلم، وكما في الحديث "تكفل الله برزق طالب العلم" ..
قال الشيخُ لهم: لا تَهْتَمُّوا بالرزق، لا تهتموا بالوظيفة، لا تقرؤوا من أجل الوظيفة ..
ثم قال: ..في النهاية أنا وأنتم عَايشين بفضل الله، لا أعرف كيف نحن عايشين، وإذا تُرِيدُونَ التَّجريبَ ـ أي التأكد ـ ..هذه المفاتيح ..وادخلوا البيوتَ ـ أي المخازن ـ ، وانظروا ما يُوجد .. فلن تُلاقوا شيئا يكفيكم مُدَّةَ أسبوعٍ ..ورانا عايشين..
إنه اليقين والتوكل على الله ..
«لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ..» .
مَنْ كان للهِ ..كان اللهُ لَهُ..اهـ .
هذا ما قيَّدتُه من كلام سيدي الشيخ الحاج محمد المكي، حفظه الله تعالى .
إن الدراسة وجعل الوظيفة نصب العينين يُقَصِّرُ من عمر الدراسة، ويُفقد صفاءَها ونصاعةَ نيتِها والحماسَ في التحصيل..
يصير الهمُّ ..متى أنتهي من هذه الدراسة..وهل هذا الجهد سيُثمر وظيفةً كريمةً..وراتبًا كافيًا..وعيشا محترمًا..
ويدخلُ الإنسانَ الحسدُ لغيره ممن حَظَوْا بما لم يَحْظَ به..وضيقُ العين لما فَاقُوه به ونالوه مما لم يَنَلْهُ..ويبدأ اللسانُ يَطولُ ويَقصرُ..وينسى ما دَرَسَه، وتَذوبُ الأخلاقُ التي تعلمها..وتَضيعُ حقائقُ العقيدة التي بُشِّرَ بها..وتتبخر الآفاق الدينية التي يعيش لها..
ويشرع في الندم على السنوات التي أَفنى فيها شبابه..وتتداول عبارات الغفلة والنية..ومشتقاتها..التي كان مُغَفَّلًا بها..
ويُنسيهِ الشيطانُ أن الرزقَ بيد الله ..ولا يأخذ أحدٌ نصيبَ آخر..
ويَتِيهُ عن سِيَرِ أولئك الأعلام الذين تركوا بصماتٍ في الحياةِ العامةِ والخاصةِ مثل الشيخ بلكبير..مما لم يُحَقِّقْ عُشرَ مِعشارها أصحابُ الشهاداتِ لذات الشهادات، ولم يصلها أربابُ الوظائف الفخمةِ ذاتِ الوجاهةِ الاجتماعيةِ والرواتبِ المجزيةِ والعيشة الرغيدة..
هذا الشيخ بلكبير دُرَّةُ صحرائِنا.. الذي لم ينقطع نفعُه ولم يَنحصرْ في منطقته..فها هم تلاميذه ينتشرون في كل مَرَابِعِ البلاد..وذِكرُهُ العاطر يَفُوحُ في المحافل..
أليس كلامُهُ وسلوكُهُ وآثارُهُ كفيلةً بإذابةِ تلك الوَساوس التي تُرَاوِدُ بعضَ الطلاب حولَ رزقهم وهمِّهم نحو مستقبلهم..
خصوصا إذا غَرَسْنَا في أفئدتنا وحَوَّطْنَا بقناعةِ العقلِ أنَّ كُلَّ أموالِ الدنيا وزينتِها سنتركه وراءنا ظِهريا..
وأنَّ العلمَ النافعَ من الصدقات الجارية التي يَلحقنا نَيْلُها بعد رحيلنا عن هذه الدار.. «..وإن الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دِيناراً ولا دِرْهماً، وَرَّثوا العلم، فمن أَخَذَهُ أخذ بِحظٍّ وَافِر» . كما قال الصادِقُ الْمَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ الطويل في فضل العلم، الذي أخرجه الأئمة أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان ..
ولا يُفهم من هذا أن الشيخ بلكبير كان مُهْمِلًا للأسباب..فقد بيَّنتُ تَوَازُنَهُ في هذا الخَطْبِ في مقالةٍ سابقة تحت عنوان "الخزانة الكبيرة" ..
لكن أُلْمِعُ هنا فقط للقاعدة الذَّهبية التي قَرَّرَها علماءُ العقيدة أنَّ الأخذَ بالأسباب واجبٌ، والاعتقاد فيها شرك .
رحمةُ الله عليكَ ورضوانُهُ يا شيخ بلكبير.. ها هي تأتي علينا عشرون سنة منذ رحيلكَ.. الذي كان في مثل هذا اليوم من التأريخ الهجري في: 16 جمادي الآخر، سنة 1421هـ، الموافق 15 سبتمبر 2000م.