من وحي العيد
بقلم: الشيخ محمد الشير الإبراهيمي-
بأية حال عدت يا عيد؟ أبالجد العاثر، أم بالجد السعيد؟ وهل أنت بشير لهذه الأمم التي تحتفل باستهلالك، وتنتهج باستقبالك، لما ترجوه من حسن الفال وتحقيق الحرية والاستقلال، أم أنت لها نذير بدوم الشفاء واستمرار البلاء، أم أنت كما في حكم الواقع ظرف تتكيف بما لا بست، فتدور على السعداء بالسعادة وهو من كسبهم لا من كسبك، وعلى الأشقياء بالشقاء وهو من عملهم لا من عملك؟ أنت يا عيد ختم سنة، ورقيب أعمال سيئة. وحسنة.
فقل لنا بمن اطلع هلالك، وسن في الإسلام انزالك، ماذا حملت حقيبة العام الماضي من أعمال المسلمين وأحوالهم؟ ويمينا لو أنطقك الله الذي أنطق كل شيء لأديت شهادة الحق فيهم بنصها، ولدللت حقيقة أمرهم على فصلها، ولقلت غير كاذب إن العام الماضي أضلهم وهم ساهون، وفارقهم بالأمس وهم لاهون، فلا رأيا نافعاً قرروا، ولا وطناً مغصوباً حرروا، وكل ما قطعوا فيه أنات أحاديث لم يملها العقل، وأقوال لم يصحهها النقل، ونزاع بينهم جدال، وغلو وتقصير ليس بينهما اعتدال، شقاق مع القريب، ووفاق مع الغريب، وكفر بالاتحاد، وإيمان بالإلحاد، لا ينوا إلا جنبي أكثر مما كانوا، ودانوا بطاعته أعظم مما دانوا، وأضاعوا من مصالحهم وأوطانهم وحرمانهم أضعاف ما صانوا، ولولا أربع هن في أعمالهم لمع، وفي عامهم جمع، لكانت صحائفهم في هذا العام كصحائف الفجار ليس فيها حسنة.
الأولى : معجزة حققتها مصر الفتية الثائرة بعد سبعة عقود من السنين بإجلاء العدو الجائم، الجاني للمآثم، عن القناة التي هي وريد من أوردة الحياة في جسمنا، وطريق من طريق القوة في مستقبلنا، وباب من أبواب الحماية لأوطاننا، وحصن مهيأ من حصون الماء يوم تقضي إلينا دولة ما.
والثانية : تنقيح لأوضاع الجامعة العربية، عن حاملي دماء العروبة النقية، القاهرة الجميلة بجمالها ومكة السعيدة بسعودها، ودمشق العظيمة بعظمها.
والثالثة : هذه الصيحة التي تجاوبت أصداؤها في أندونسيا فجاوبتها بقول لبيك، واخترقت آذان النائمين في آسيا وأفرققيا، فأفاقوا عليها لأول مرة في تاريخ القارتين مهطعين إلى مؤتمر أثبتوا فيه وجودهم، وأزعجوا به عدوهم، وجمعوا فيه شملهم، وسجلوا فيه أخوتهم، وأثبتوا للكتلتين المتصارعتين على ملك العالم أن في الميدان كتلة ثالثة يجب أن يقرأ لها الحساب، وأن يدرأ عنها العذاب، وكان للإسلام في مقاعد هذا المؤتمر الصدارة، وعلى منبره القول المسموع.
الرابعة : هذه الثورة المتأججة في الجزائر على الاستعمار الفرنسي، أفظع استعمار على وجه الأرض، بل السبة المسجلة على العالم المتمدن، ذلك الاستعمار الذي امتص دم الجزائر وحط ريشها وهاض جناحها وأذل أبناءها، فلما أعياهم الأمر في دفاعه بالمنطق الذي لم يفهمه وبالحكمة التي لم يفقها هبوا يشترون الحياة بالموت ويتحدون القوة المادية بالإيمان، ويلقون الألف بالواحد ويعودون به في آخر أمره معهم إلى أول أمرهم معه، ويعيدون إلى ذهنه ذكريات إن نسيها أحفاده فطالما نغصت العيش على الأجداد. هبوا يحكمون السيف وهو أعدل الحاكمين، وقد كانت أعمالهم غرة هذا العام، وستكون للعام الآتي غرة وتحجيلا، وسيقيمون الدليل الذي لا ينقض على أن الجزائر جزء من أرض العرب لا قطعة من أرض فرنسا.
يا عيد: يصفك المسلمون بالسعيد والمبارك، ويستقبلونك بالبشر والطلاقة، ويتبادلون فيك التهاني والأدعية بطول الأعمار وبلوغ الآمال، فهل شاموا في مخائلك ما كان لهم حقيقة في أوائلك؟ أم هو تقليد وتصور بليد وضلال بعيد أم هو استرسال مع الفال، واتباع عكسي للأبطال؟
ولو عقلوا لعقدوا فيك المناحات على سوء حالهم وفقدوا استقلالهم، أأعراس في المآتم وقربات في المآثم؟ فمعذرة يا عيد إذا خرجنا عن مألوفهم، وتنكرنا لمعروفهم، وقابلناك بالتجهم والعبوس، فرأينا فيك أنك قطعة من الزمن تمر، لا تنفع ولا تضر، ولا تحزن ولا تسر وإنما عظم الله من قدرك وأوجب علينا من حقك، لعظم أعمالنا فيك وفي الشهر الذي قبلك وفي جميع الشهور التي سبقتكما، حتى إذا حللت جميلاً بالطيبات تجمل بك الطيبون والطيبات، ورأينا أن العمل في اليوم هو بعض معناه…؟
فإذا خلا من العمل خلا من المعنى وما أخليت نفسك يا عيد ولكننا أخليناك، وما ظلمتنا ولكننا ظلمناك، وما عبتنا ولكننا عبناك، ولكأن القائل عنانا وعناك:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
ومعذرة يا عيد فلو حللت بوادينا والنفوس مطمئنة، والإسلام الذي أعلى يومك وأغلى سومك مرفوع الرأس، والعروبة التي كانت تفهم معناك وتعمر مغناك شديدة البأس، والمسلمون كلمتهم مسموعة ومجموعة، وقد تعارفوا فتآلفوا فتحالفوا على الصالحات، وفلسطين التي كانت تستجلى محياك وتنتعش برياك موصولة الأسباب بأوطانك، مصر قد بلغت الأرب في زعامة العرب فقادتهم إلى السعادة والسيادة، والأزهر أصبح منبع هداية كما كان في البداية، والجزائر وتونس ومراكش قد استقلت، وفرنسا قد ألقت ما فيهن وتخلت، وأفغان وباكستان متآخيتان لم تنجم بينهما ناجمة الشر، ولم يلزمها من شبطان الاستعمار نزر، واليمن قد جمعت سواحلها وأنهضت إلى العلم والعدل رواحلها، والعراق قد راجع البصيرة فرجع إلى الحظيرة
لو حللت بنا يا عيد ونحن على هذه الحالة لكنت لنا جمالاً، ولكنا فيك كمالاً، أيه يا عيد إن الوهم ليخيل إلي حتى كأنّ الوهم حقيقة أنك توحي إلينا العظات وتملي علينا المثلات:
وقد تنطق الأشياء وهي صوامت *** وما كل نطق المخبرين كلام
كأنك تقول: لو أحسنا الإصغاء لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، ولا خيراً ولا شراً، ولا أسوق إليكم نحسا ولا سعداً، ولا برقاً ولا رعداً، فأصلحوا أنفسكم واتقوا ربكم واعملوا صالحاً، واجمعوا كلمتكم، وصححوا عقائدكم وعزائمكم، وتحابوا في الله، وتآخوا على الحق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* حديث لإذاعة صوت العرب، القاهرة، في 21 ماي 1955 – الآثار : ج5 ص 89.