نسب ونشأة الأمير عبد القادر الجزائري

بقلم: د. علي الصلابي-

أ ـ نسبه:

هو عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد بن مختار بن عبد القادر ابن أحمد المختار بن عبد القادر بن أحمد المشهور بابن خده بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن محمد بن مسعود بن طاوس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن إدريس الأصغر ابن إدريس الأكبر بن عبد الله المحصن بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة الزهراء بنت سيد الوجود محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقد كانت أسرة الأمير عبد القادر تعتز بامتداد حلقاتها إلى هذا المعدن الشريف، ففي القرن الثامن هاجر إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المغرب، هارباً من بطش العباسيين، وأنشأ دولة الأدارسة وعاصمتها فاس، ودام حكمها حتى النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وبعد أن سكنت بعض سلالات العائلة الكبيرة الأندلس، انتقل أحد أجداده عبد القوي الأول في نهاية القرن الخامس عشر ـ بعد سقوطها عام (1492م) ـ واستقر بقلعة بني حماد قرب سطيف.

وذكر محمد محمد الجوزي أن عبد القادر بن أحمد المعروف بابن خده ـ وهي مرضعته ـ كان حاكماً لمناطق غريس، عالماً مهيباً فقيهاً تولى الرئاسة بعد موت من خلفهم من أجداده الأدارسة، وألف كتباً كثيرة، وتوفي رحمه الله في القرن العاشر للهجرة، وأما جده مصطفى فقد أسس الزاوية القادرية، نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، بعد أن زار مدينة بغداد عام (1791م). واشتهرت أسرته بالورع، وكانت قدوة للناس في الجهاد والعلم، وتوفي جده مصطفى بعين غزالة، قرب مدينة درنة في إقليم برقة شرق ليبيا عام (1797م) عند عودته من الحج، ودفن في نفس المكان ومايزال قبره معروفاً حتى الان.

ولد والده محيي الدين بقرية القيطنة عام (1776م)، ودرس على يد أبيه مصطفى، وورث عنه مشيخة الزاوية القادرية، واشتهر والده بسداد الرأي، وغزارة العلم، وقاوم ظلم بايات الغرب الجزائري منذ عهد علي قارة الذي حكم من عام (1812م) إلى (1817م). واخرهم حسن بن موسى الذي حكم من (1827م) حتى (1830م).

ب ـ مولده ونشأته:

ولد في (25 سبتمبر 1807م) في قرية القيطنة، وأمه السيدة بنت عبد القادر ابن خدة، وهي تنحدر من بيت علم وتقوى، من أولاد سيدي عمر بن دوحة، تلقى دروسه الابتدائية في مسقط رأسه تحت إشراف والده ؛ الذي بذل قصارى جهده، ولم يدخر جهداً في سبيل ذلك، فأخذ منه القراءة والكتابة وأتقنها في سن مبكرة جداً، ولفت نظر والده ذكاؤه ونبوغه، وختم القرآن الكريم قبل أن يبلغ الحادية عشرة، وأصبح فارساً يشار إليه، وبرع في تلقي العلوم التاريخية والفلسفية والفقهية، وتعلم مبادئ شتى العلوم اللغوية والشرعية، ونال درجة الطالب، وكلف بتحفيظ القرآن للأطفال، وإلقاء الدروس والتفسير في الزاوية. ومن أجل إتمام دراسته سافر عام (1821م) إلى مدينة أرزيو الساحلية ؛ التي تقع شمال مدينة معسكر، على بعد حوالي سبعين كيلو متراً، وذلك على يد القاضي الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي ؛ الذي كان مشهوراً بغزارة العلم وسعة الاطلاع، وبعدها رحل إلى مدينة وهران إلى مدرسة العالم الفقيه أحمد بن خوجة، صاحب رائعة در الأعيان في أخبار وهران، وتوسع في المعارف اللغوية والفقهية والنحو والبيان والفلسفة والمنطق وصقل ملكاته الأدبية والشعرية، واجتهد في حضور حلقات العلم لعلماء وهران، مثل الشيخ مصطفى الهاشمي والشيخ بن نقريد، وقضى عامين كاملين في هذه الرحلة العلمية، وعاد إلى مسقط رأسه وتزوج بابنة عمه الانسة خيرة بنت أبي طالب عام (1823م) وأقام في القيطنة معلماً.

وكانت له رحلات علمية للقرويين والزيتونة، وكانت البيئة التي عاش فيها بيئة إسلامية وتربوية إيمانية واجتماعية متماسكة، وفي ظلها تكونت شخصيته، وهي التي أثرت في تكوينه النفسي والجسماني والفكري والاجتماعي والسياسي، وهذا التكوين يعود إلى عوامل منها:

ـ العامل الوراثي والبيولوجي والعقلي للأمير.

ـ البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها وعاش فيها.

لقد سمع الأمير عن ذلك التصوف من والده الذي لا شك قد حُفر في ذاكرته، وهو محاربة والده لأصحاب الطرق الصوفية الشاذة.

فقد جاء في كتاب تحفة الزائر: أصل ابن الشريف من الكسانة قبيلة بوادي العبد قرب غريس، أخذ العلم في صغره عن سيدي محيي الدين في مدرسة القيطنة ثم رحل إلى المغرب الأقصى ولقي الشيخ العربي الدرقاوي، وسلك طريقته وقفل راجعاً إلى وطنه، وجاء إلى حضرة سيدي محيي الدين زائراً، وفي بعض الأيام تكلم بحضرته بما يوجب تأديبه شرعاً، فأدبه سيدي الجد بالسياط واستتابه.

فهذا الحادث التاريخي ليس دليلاً فقط على منزلة والد الأمير عبد القادر ومكانته الاجتماعية والدينية، إنما هو دليل على الوقوف في وجه أصحاب الطرق المنحرفة، ومحاربة البدع ومحاربة الابتعاد عن الشرع والسنة والإجماع، والأمير عبد القادر أيضاً أثناء حكمه وفي عهد دولته حارب أصحاب الطرق المنحرفة، ووقف في وجه نشر دعوتهم وفضح أمرها.

فالطرق الصوفية في شمال إفريقيا أحد الروافد الثقافية والفكرية، وقد تعامل معها العلماء وفق المعايير العلمية القائمة على العلم والإنصاف في الأفراد والمناهج، لقد كان السيد محيي الدين والد الأمير عبد القادر من الشخصيات المهمة في التأثير على ابنه الأمير، وكان رجلاً مهاباً محترماً، ليس لكونه قادرياً كما تردده أقلام الدعاية ـ فقط ـ وإنما لكونه عالماً فقيهاً وحكيماً وشجاعاً، امتاز بالأخلاق الإسلامية، والصفات الحميدة، والنبل الكريم، وعلو منزلته العلمية، وهيبة قبيلته بني هاشم التي يمتد نسبها إلى الإدارية وحتى عند ولاة العثمانيين كانت له منزلة خاصة، وكان مرهوب الجانب من قبلهم جميعاً بدافع تقدير ومحبة، فأمر طبيعي ظهور هذه الاثار الوراثية على أولاده، ومنهم الأمير عبد القادر، فقد برزت هذه الاثار على الأمير في سن مبكرة، من ذكاء ومواهب فكرية وسرعة بديهة وشجاعة ومهارة بفنون الفروسية، من ركوب الخيل والسباحة واستعمال السيف، إلى جانب نفس أبية وإيمان قوي ومحبة وجدانية وعقلية لخالق هذا الكون ومبدع تلك الطبيعة الغناء التي نشأ في أحضانها، فالحياة البسيطة في هذه المزرعة والمناخ السياسي الذي نشأ فيه، كان صحياً ومتماسكاً في جزء من دولة كبرى أمنت الاستقرار والازدهار للجزائر وحاربت البدع وأصحابها.

ج ـ الأوصاف المعنوية:

لقد وصف العديد من المؤرخين الأذواق والعادات والسلوك الاجتماعي لعبد القادر، منها:

كان يزدري الترف في الملبس، فكانت كسوته بسيطة ولكنها نظيفة، كان غاية في التدين ويحمل دوماً مسبحة لا يقف عن التسبيح بها ذاكراً اسم الله، وكان باستطاعته امتطاء الفرس لمدة يوم أو يومين، وكان زاهداً مثالياً، كان الأكل عنده ـ على الأكثر ـ «الروينة» وهي نوع من العصيدة مصنوعة من طحين وحليب في كمية صغيرة، فلم يكن يقبل الطعام إلا لقوته وليس لذاته، في قلة الأكل وفرة للصحة هذا ما كان يقوله، وكان عفيفاً عن الأموال، وكان يمتنع من اقتطاع أي شيء من الخزينة العامة لأغراضه الشخصية، وكان يراقب موظفيه ويمنعهم من الإسراف، كما كان يحب الكتب، ويهتم بجمع المخطوطات، وكان يشجع الشعراء والكتاب الذين كانت أناشيدهم الملحمية تغذي إيمان المقاتلين، وكان يتذوق الشعر، وله ملكة شعرية، تدلنا أشعاره عليها، وتسجل أشعاره فترة تجديد في الشعر الجزائري، يكمن طابعها الجذاب دائماً في كونها ذات علاقة بالفعل والعمل وأنها تحمل إيمانه الوطني، اللغة، الصورة المجازية، تراكيب الأسلوب.. كلها مهدت لتجديد أدبي ينسجم مع مرحلة النضال والكفاح والجهاد والبناء.

لم يكن قاسياً بطبعه، وخيرات الأرض لم تسيطر على قلبه، وقتاله للمسيحيين لكونهم معتدين غاصبين لا لدينهم، كان يؤم جنوده للصلاة يومياً، وكان يتأمل ويتدبر في معاني القرآن الكريم الذي كان زاده الروحي ومرجعه الكبير في خطبه ومواعظه، وكان يستلهم الصلابة والثبات والصمود من إيمانه العميق والمنهج الرباني في العسر واليسر والمنشط والمكره والرخاء والشدة.

د ـ الحج:

قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ *ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *} [الحج :27 ـ 29].

كانت قافلة الحجيج هي أهم قافلة دينية وتجارية تنطلق في نفس الوقت من شمال إفريقيا إلى المشرق، وكان هناك عدة طرق للحج، يذهب الحجيج المغاربة كل سنة إلى البقاع المقدسة مصحوبين بعدد كبير من الإبل المحملة بالبضائع من الأقمشة الصوفية والأحذية المغربية، كالبلغة والشواشي بل حتى العبيد السود أحياناً، فبعد أن يتجمع الحجيج في مدينة فاس وتارة بالمغرب الأقصى، ويكونون الركب الفاسي تنطلق القافلة، فمنهم من يأتي سائراً على قدميه، والبعض الاخر يمتطي الخيل أو البغال أو الحمير أو الإبل، وتعبر الجزائر سواء عن طريق الجريد عبر عين ماضي والأغواط وقرية أولاد جلال وبسكرة لتصل إلى مدينة قابس التونسية، أو عبر الطريق الساحلي مروراً على وادي الشلف وقسنطينة ومدينة تونس، وخلال مسار الطريق يتضخم الركب بحجيج كل بلد، ثم تصل القافلة إلى طريق بعد رحلة تدوم أكثر من شهرين.

وفي طرابلس يستجمع الحجيج قواهم ثم يستأنفون رحلتهم إلى أن يصلوا إلى القاهرة بعد أربعين أو خمسين يوماً أخرى من السفر، وبعدما ينضموا للركب المصري يتوجهون مباشرة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، بعد أن يكونوا قد قطعوا مسافة أربعة الآف وسبعمئة كلم تقريباً، وفي البقاع المقدسة تتم مقايضة السلع المحملة من المغرب العربي بالأقمشة الموصلية الحريرية الشرقية، والأنسجة الفارسية والهندية الثمينة والعنبر والتوابل.

وبعد أداء فريضة الحج ينصرف الحجاج عائدين أدراجهم، وفي القاهرة يتزود الحجيج المغاربة بما تبقى لهم من أموال بالحرير الخام والقطن. وعند رجوع الحاج إلى بلده يكون قد ضاعف عدة مرات قيمة البضائع التي حملها معه بعدما اجتاز ذهاباً وإياباً، حوالي عشرة الاف كلم، متحصناً بالاعتماد على الله، واحتسابه الأجر والمثوبة منه ومستعينين بالله للتغلب على مخاطر ومهالك أثناء الطريق، من وباء أو اغتيال من طرق قطاع الطرق، وعند الوصول كل إلى بلده يتوجه التجار الحجيج مصحوبين ببضاعتهم مباشرة إلى إحدى الأسواق الكبيرة لبيعها.

ه ـ رحلة الأمير عبد القادر مع والده للحج:

تحرك السيد محيي الدين مع ابنه عبد القادر إلى الحج عن طريق البر والبحر، فكانت بدايتهم من وهران مروراً بوادي الشلف وبرج حمزة فمدينة قسنطينة ثم محطة الكاف ومنها إلى مدينة تونس. وكنا في كل محطة ننزل عند إخواننا وأحبائنا الذين فرحوا بمقدمنا ومقامنا عندهم، ومن تونس ركبنا البحر متجهين إلى الإسكندرية وزرنا معالمها، ووقفنا عند باب البحر، عند مقامي الشيخ أبي العباس المرسي وأبي الحسين، وانتقلوا بعدها إلى القاهرة وزاروا بالمقطم مقام مرشد السالكين الشيخ ابن عطاء الله السكندري، أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، كما زاروا مساجدها العريقة وتعرفوا على أعيان المدينة، وكبرائها وجالسوا علماءها، من أمثال الشيخ علي بن محمد الميلي، والشيخ المعروف بابن الأمير، وأعجبوا شديداً بما وصلت إليه الحياة في مصر من تقدم وازدهار في شتى المجالات العلمية والاقتصادية والصناعية، وكان ذلك في عهد محمد علي باشا، وقد تحدثنا عنه سابقاً.

وبعد هذه الاستراحة في مصر، سافرنا مع الركب المصري، ووصلوا قناة السويس فركبوا البحر الأحمر نحو جدة ثم مكة المكرمة، وبعد أداء فريضة الحج زاروا المدينة المنورة وصلُّوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أمام قبره، وترحموا على الصحابة والتابعين المدفونين بالبقيع. ومن المدينة وصلوا إلى دمشق بصحبة الركب الشامي، ومكثوا فيها عدة أشهر، وتعرفوا على مشاهير الصلحاء والعلماء والأعلام، وكانوا يقضون جُلَّ وقتهم في الجامع الأموي، دائبين على القراءات وحضور حلقات الدرس العلمية ؛ التي كان يدرس فيها كبار العلماء، وقرؤوا الحديث وصحيح البخاري في الجامع الأموي على الإمام المحدث عبد الرحمن بن محمد الكزبري الشافعي الدمشقي محدث الديار الشامية، والمشهور بتدريس البخاري الشريف، وكانت عامة العلماء تحضره للأخذ عنه، وأخذوا العلم على يد غيره من علماء الشام، ثم توجهوا إلى مدينة بغداد واستقر بهم المقام فيها، وزاروا مقام عبد القادر الجيلاني، وجددوا العهد مع نقيب الأشراف وشيخ السادة القادرية الشيخ محمود القادري الجيلاني، وبعد مقام عدة أشهر غادروا بغداد نحو الشام من جديد، ولم يتجهوا غرباً مباشرة لخطورة الطريق وانتشار قطاع الطرق، ومن الشام توجهوا إلى المدينة المنورة ثم مكة وأدوا مناسك الحج للمرة الثانية، وبعد أيام التشريق انصرفوا نحو القاهرة مع الركب الحجازي الذي قدم من المغرب العربي للحج في رحلة صيفية حارة عام (1828م). ومن القاهرة اتجهوا صوب إقليم برقة وزاروا قبر والد محيي الدين بعين غزالة قرب قرية درنة، وبعد اجتيازنا للجبل الأخضر واصلوا الطريق الساحلي ووصلوا إلى مدينة بنغازي البحرية، ومنها وصلوا الطريق غرباً، وتوقفوا بمصراتة على مقام سيدي أحمد بن عيسى البرنوسي الفاسي المشهور باسم الزروق، ثم اتجهوا إلى تاجورة طرابلس الغرب، وواصلوا السير حتى وصلوا إلى بن قردان بالجنوب الشرقي الساحلي لتونس ثم اتجهوا شمالاً إلى مدينة قابس، بعدها انحرفوا إلى القيروان، ثم شمالاً إلى الكاف على الحدود الغربية لتونس، ومنها دخلوا إلى الجزائر، ووصلوا قسنطينة ثم قلعة بني حماد ثم برج حمزة بالقرب من مدينة البويرة حالياً فوادي الشلف مروراً على المدية ومليانة وأخيراً وصلوا إلى أهلهم بمعسكر سالمين غانمين.

و ـ نداؤه إلى سلطان المغرب ليأخذ بزمام المقاومة:

سبقت العودة من الأراضي المقدسة سقوط العاصمة بقليل، وكان رد الفعل تجاه الغزو الفرنسي في القطينة كمثيله في كافة أرجاء البلاد، وظن الناس في البداية أن الاحتلال لن يكون إلا مؤقتاً لأنه سبقت حالات أخرى مماثلة له ولم تدم بل مرت كسحابة صيف، غير أن القلق قد بلغ معظم الجزائريين عندما ظهر جلياً أن فرنسا كانت تنوي البقاء نهائياً في الجزائر ومد غزوهم إلى كافة البلاد، وقد أدى ذهاب الأتراك إلى فوضى واضطراب في الأرجاء الداخلية للبلاد، وحاول الشيخ محيي الدين وابنه عبد القادر أن يعيدا إقرار السلام.

كما كان الحال في كل الأرباع الأخرى من البلاد، وكان الشيخ محيي الدين قد ترأس العديد من اجتماعات الأعيان المرابطين حول هذا الموضوع بالذات، لقد سادت الفوضى كل الأرجاء، واقترح الشيخ أن يلجأ إلى سلطان المغرب الأقصى ليقود المقاومة، ذلك لأن قوة منظمة هي الوحيدة الكفيلة بالوقوف في وجه الغزو، قبلت القبائل هذا المقترح وبعثت بوفد إلى السلطان مولاي عبد الرحمن، ليقترح عليه قيادة المقاومة ضد الغزاة وقبل السلطان ذلك، وبعث ابنه الذي أتى على رأس جيش صغير مكون من (500) فارس، ودخل تلمسان بموكب ضخم، فكانت البشرى والفرح العارم، وكان أهالي الجزائر مع التضامن المغاربي لدحر فرنسا المعتدية الغازية لديار المسلمين.

كانت سمة السلطان كبيرة في أرجاء الجزائر، وكانت تؤدى صلاة الجمعة باسمه، كما كانت تؤدى في مملكته نفسها، ولكن هذا الأمر لم يدم، ودخل السلطان المغربي مع فرنسا في اتفاقية مكناس بتاريخ (22 مارس 1832م) التي جرت بين السلطان وممثل المارشال، وهكذا فإن الوصاية المغربية على الجزائر لم تدم أكثر من سنة بقليل، وكان على الوفد الجزائري أن يغادر العاصمة المغربية دون الحصول على المساعدة المرغوب فيها، ماعدا اعتراف سيدي محيي الدين بالسيادة ولو الاسمية للسلطان.


من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.