الأمير عبد القادر الجزائري أمير المقاومة، ومؤسس الدولة الحديثة، وراعي القيم الإنسانية
بقلم: شعبان ياسين-
يحيي الجزائريون ذكرى ميلاد مؤسس الدولة الحديثة وبطل المقاومة الجزائرية الأمير “عبد القادر الجزائري” في السادس سبتمبر من كل عام، كما يحيون ذكرى مبايعته أميرا للمقاومة ضد المستعمر الفرنسي في السابع والعشرون من نوفمبر من كل سنة، وبهاته المناسبة ارتأيت أن أقدم ورقة عن هذه الشخصية العظيمة من تاريخ الجزائر الحديث في هذا المقال المقتضب …
تجاوز الأمير عبد القادر بن محي الدين الشريف بما كان يتمتع به من حس استراتيجي كقائد عسكري كبير، ورجل دولة محنك، وبطل وطني للمقاومة الجزائرية، ومفكر نبيل وشاعر ملهم، حدود النظرة المحلية الوطنية والقومية، حيث تمثّلَ شخصيته الفذة الآخرُ من خلال بنائه لصورة العربي الإيجابية.
ولد الأمير عبد القادر في 6 سبتمبرسنة 1807 بالقرب من مدينة معسكر الجزائرية. وتنتسب عائلته إلى الأدارسة الذين يمتد نسبهم لنبي الإسلام وكانوا حكاما في المغرب العربي والأندلس، وكان والده محي الدين شيخا للطريقة القادرية في الجزائر.
لما سافر والده محي الدين لأداء فريضة الحج عام 1825 م، فخرج واصطحب ابنه عبد القادر معه وهو في سن الثامنة عشرة، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828 م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم “قيطنة”، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني الداي “حسين“، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.
وخلال فترة الحج التي استمرّت عامين كاملين، تعلم عبد القادر العديد من الأشياء في مجال العلوم كما في مجال السياسة والتاريخ والجغرافيا وآلاداب، إن عبد القادر فتن بالشرق خصوصا بعد أن التقى في مصر بعلماء ومصلحين كبار ساعدوه عل توسيع معارفه في مختلف المجالات، كما أنه بات يبدي إعجابا بالشعوب المسلمة التي انطلقت منها الحضارة التي أشعّت على بلاده. في الآن نفسه، لذلك عاد إلى بلاده وهو يحلم بمستقبل جديد لها، راغبا في إقامة “دولة مسلمة قوية في شمال إفريقيا قادرة على إحياء أمجاد العرب القدماء”.
وعقب مبايعة الجزائريين له عام 1832 اتخذ عبد القادر من مدينة معسكر عاصمة له وبدأ في تكوين الجيش والدولة، وحقق انتصارات كبيرة ضد الفرنسيين، أدت انتصارات الأمير ”عبد القادر” إلى إجبار الفرنسيين على إبرام هدنات معه من أهمها اتفاقية” دي ميشال” سنة 1834و اتفاقية “تافنا” عام 1838 التي اعترفت فيها فرنسا بسيادته على غرب ووسط الجزائر فشرع الأمير عبد القادر بعد هذه الاتفاقية في تشكيل حكومية وتنظيم الدولة وإصلاح المجتمع ورص صفوفه.
لكن تلك الاتفاقية كانت فرصة لفرنسا لالتقاط الأنفاس لتواصل بعد ذلك القتال ضد قوات الأمير” عبد القادر” ومع وصول الإمدادات من فرنسا …
حين ضغطت فرنسا المحتلة على الأمير عبد القادر لجأ للمغرب ليحمي ظهره ويأمل في نصرة سلطان المغرب يومها، وحين رأى سكان المغرب الأخلاق العالية للأمير عبد القادر طلبوا منه وبإلحاح أن يكون سلطانا عليهم بدل السلطاني المغربي لكنّ الأمير عبد القادر بأخلاقه السّامية امتنع ورفض احتراما لضيافة السّلطان المغربي والعهد الذي قدّمه له بأن لا يخونه ولا ينافسه في ملكه.
وبعد مقاومة مريرة قرر الأمير “عبد القادر” الاستسلام للقوات الفرنسية عام 1847 حقنا لدماء ما تبقى من الأهالي بعد تحييد مساعدات المغرب للأمير وإضعاف قواته …
لمّا قرر الأمير الاستسلام، أرسل إلى الجنرال “لامورسيِير”، رئيس الجيوش الفرنسية، رسولا من حاشيته ليخبره باستسلامه، فلما وصل إلى الجنرال اهتز سرورا وبادر إلى ورقة مهرها بختم على بياض، وأرسلها مع الرسول ليشترط فيها الأمير ما يريد ويبعث معه سيفه”، هذا ما ورد بخصوص ما سبق حادثة التسليم في كتاب “الأمير عبد القادر الجزائري” للفرنسي “برونو إيتيان”.
يؤكّد هذه الوقائع الباحث الجزائري “يحي بوعزيز” في كتابه “الأمير عبد القادر رائد الكفاح الجزائري“، حيث يقول: قرر الأمير أن يسلم نفسه إلى الفرنسيين بعد أن تداول الأمر مع خاصته من جميع الوجوه، فخابر الجنرال “لاموريسيير” في الأمر، وحصل الاتفاق على التسليم بشروط منها: أن يحملوه مع عائلته إلى عكة أو الإسكندرية، أن لا يتعرضوا لمن يريد السفر معه من الضباط والعساكر، وأنّ الذي بقي منهم في الوطن يكون آمنا على نفسه وماله”.
لكن بينما الأمير ينتظر وصول السفينة التي تقله شرقا، إذ بها ترسو بميناء طولون الحربي في غرة جانفي 1848، وإذا بحاكم طولون يقف أمام الأمير ليقول له: إني مأمور بإنزالك هنا في برج “لامْلاك” الحربي، حتى تأتي الأوامر الجديدة من باريس”. ليسجن بين “طولون” و”نانت”.
اختار الأمير دمشق بيتا له عام 1855مع جالية كبيرة من عائلته وأعوانه ،- بعد أن أطلق سراحه بقرار من “نابليون الثالث”سنة 1852 واتجه إلى تركيا في البداية – وأسسوا رابطة المغاربة بحي “سويقة” بدمشق ،سرعان ما أخذ مكانته بين علماء ووجهاء الشام وقام بالتدريس بالجامع الأموي الذي كان أكبر جامع للتدريس الديني بدمشق خلال القرن التاسع عشر ،كما قام بالتدريس قبل ذلك بالمدرسة الاشرفية والمدرسة الحقيقية ، بعد خمس سنوات من إقامته في دمشق اندلعت أحداث “طوشة النصر”وقد كان للأمير “عبد القادر” دور كبير بارز في وأد هذه الفتنة التي اندلعت في 09 جويلية سنة 1860 وهوجمت فيها المنطقة المسيحية في دمشق كما هوجمت القنصليات الفرنسية والروسية والنمساوية والبلجيكية والأمريكية وكذلك البعثات التبشيرية البروستنتينية والكاثوليكية قرب حي “برنوم” المسيحي واستطاع الأمير”عبد القادرالجزائري” بفضل علاقاته مع القنصليات الأجنبية واعيان دمشق وطبقة رجال الدين أن يحقن الدماء، فأنقذ أكثر من خمسة عشرة ألف من النصارى، بعث ببعضهم إلى منازله، كما أخذ مفاتيح قلعة دمشق ووضع بها مسيحيي دمشق، وأشرف على تقديم الطعام والشراب على حسابه الخاص لمدة خمسة عشرة يوما، وكان بذلك له دور كبير بإطفاء نار الفتنة في ظل عجز القوات شبه العسكرية العثمانية المتمركزة بالمدينة عن إيقاف أعمال الشغب أو حماية المعتدى عليهم، وقد وصلت أصداء هذه الأحداث إلى باريس فتم الاتفاق بين بعض الدول الأوروبية بمبادرة فرنسية على إرسال حملة عسكرية إلى سوريا بحجة حماية مسيحيي الشرق، فأرسلت قوة فرنسية قوامها ستة ألاف جندي فرنسي لكنهم حينما وصلوا إلى ميناء بيروت في النصف الثاني من شهر أوت كانت الفتنة قد أخمدت تماما، وكان لدور الأمير “عبد القادر” الإنساني صدى في الأوساط العالمية فمنح العديد من الأوسمة ونوهت بدوره كبريات الصحف العالمية .
بالشام طلب سكانه من الأمير “عبد القادر الجزائري” وألحوا عليه أن يكون سلطانا على العرب جميعا عوض السلاطين العثمانيين الذين كان المشارقة يومها يكنون لهم العداء بسبب ظلم بعضهم، فرفض الأمير عبد القادر أن يكون سلطان العرب احتراما للسلطان العثماني وتقديرا له، ورفضه منافسة السّلطان العثماني خاصّة وأنّ “الأمير عبد القادر” يملك من المواصفات الأخلاقية والجذر التاريخي والتعاطف الشعبي والأخلاق السّامية ما يمنعه من هذا الخرق .
عاش الأمير” عبد القادر الجزائري” الربع الأخير من حياته في دمشق وتوفي فيها في الرابع والعشرين ماي عام 1883 ودفن بسفخ جبل “قسيون” بجوار ”الشيخ محي الدين ابن العربي” تنفيذا لوصيته.
حكم حفيده الأمير” سعيد” دمشق أربعة أيام اثر خروج العثمانيين من سوريا في أكتوبر 1918، كما أسهم مع خيالة مغاربة من حماية المدينة من هجمات البدو قبل أن يسلمها للملك فيصل ابن الحسين.
بقي الأمير “عبد القادر” بثرى دمشق 86 عاما إلى أن نقل رفاته إلى الجزائر في صيف1966 في احتفال مهيب عظيم، ليصل إلى الجزائر عشية 04 جويلية 1966 في الذكرى الرابعة للاستقلال وكان في استقباله والذي حمله على كتفه الرئيس الراحل “هواري بومدين” ليدفن مرة أخرى بمقبرة العالية بالجزائر العاصمة.
شعبان ياسين - باحث في تاريخ الثورة الجزائرية ومدير متحف المجاهد لولاية قالمة