بيعة الأمير عبد القادر الجزائري
بقلم: د. علي الصلابي-
بعد الجهود العظيمة التي بذلها السيد محيي الدين للتصدي للغزاة وقيادة القبائل للجهاد في سبيل الله رأى الناس أهمية مبايعته، ولكنه اعتذر بكبر سنه، ودفع المواطنين للتفكير في مبايعة ابنه عبد القادر لقناعته بقدرته على ذلك، واتفق مع الأهالي على موعد لعقد البيعة صباح (الاثنين يوم الثالث من شهر رجب 1248هـ / 1832م). وفي ذلك الصباح المشرق لم يفاجأ سكان مناطق غريس بقدوم زعماء مناطق بعيدة، إذ كثيراً ما كانوا يأتون للاجتماع بالشريف محيي الدين في هذا المكان، ويجلسون تحت الدردارة للتشاور معه، أو لعقد ندوات فقهية، أو لحل مشكلة اجتماعية، ولكن هذه المرة لاحظ السكان أن العدد أكبر من المعتاد بكثير، ولابد أن الأمر جلل، وأخذوا يتهامسون فيما بينهم، وعندما علموا أن نجل الشريف محيي الدين مرشح سلطاناً على البلاد كبروا بأعلى أصواتهم «الله أكبر» ولم لا يكون؟!. وهو شاب قوي على درجة عالية من العلم وفارس شجاع، وسيم الطلعة، شريف النسب، كريم ومتواضع. ومعظم القبائل تكنُّ لسيدي محيي الدين وأولاده محبة واحتراماً. وبعد ساعات غصّ المكان بوفود زعماء القبائل وأعيان المدن والأشراف والعلماء وزعماء القبائل الشرقية والغربية، عطاف وسنجاس وبنو القصير ومرابطو بيجاية وجميع بنو خديد وبنو العباس وعكرمة وفليتة والمطاملية ومجاهر والبرجية والدوائر والزمالة والغرابة واليعقوبية، وخيموا في مناطق أريحة من مناطق غريس حول شجرة الدردار، وكان يجلس في ظلها بصدر المكان الشريف محيي الدين بطلعته الوقور ولباسه الجزائري، وحوله جميع أفراد عائلته من إخوة وأولاد عم وأبناء هذه الشجرة الموغلة في القدم، التي كانت حتى الماضي البعيد مركزاً للاجتماعات والتشاور.
جلس عبد القادر إلى جانب والده وإخوته الذين علت وجوههم ابتسامة الرضا ؛ لأن كلاً منهم كان يدرك أن شقيقهم عبد القادر كان أكثرهم شجاعة وقوة تحمل، وكانوا يحبونه ويفخرون به، ولم يُبد أي منهم اعتراضاً على اختيار أبيهم له. وعندما اكتمل هذا الاجتماع التاريخي تقدم الوالد من عبد القادر مبايعاً وشد على يده قائلاً: كيف ستحكم البلاد يا ولدي؟ أجاب عبد القادر: بالعدل والحق الذي أمر به رب العالمين، سأحمل القرآن بيد وعصا من حديد بيد أخرى، وسأسير على هدى كتاب الله وسنة رسوله، ثم التفت الوالد سيدي محيي الدين مخاطباً الجموع قائلاً لهم: إنه ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين لقب ليس سلطاناً ولا ملكاً، وإنما أمير عليكم أيها الأخوة المؤمنون، ثم تقدمت عائلته تشد على يده مبايعة، وتلاهم الأعيان ورؤساء القبائل حسب مراكزهم، والعلماء والأشراف، وكل من حضر ذلك الاجتماع التاريخي العظيم، وكان جميع زعماء القبائل يرتدون اللباس الجزائري القومي المهيب والأنيق وكأنهم في عيد.
أـ مكان التوقيع على نص المبايعة:
قبل مغادرة تلك الجموع المكان وقف الشريف محيي الدين فيهم إماماً، وصلى صلاة العصر، وبعد أن صلى ركعتين صلاة الاستخارة اقترح أن يكون التوقيع على نص المبايعة في مسجد الحسن في عين البيضاء، فوافق الجميع لما لهذا المسجد من مكانة تاريخية حافلة بالأمجاد، لقد كان منبراً علمياً ومنطلقاً للمجاهدين عام (1797م) ضد الغزو الإسباني، وشيد الباي محمد بن عثمان في مجازاته معهداً علمياً تخرج فيه أعداد كبيرة من الطلبة، شاركوا في تحرير وهران من قبضة الإسبان. واختاروا موعداً ليوم التوقيع على المبايعة (الثالث عشر من رمضان 1248هـ والرابع من شباط ـ فبراير عام 1833م). وكان الشريف قد كلف منذ فترة أخاه العلامة علي بن أبي طالب بن مصطفى بن المختار بكتابة نص البيعة بمساعدة بعض العلماء والأشراف، كالسيد محمد بن حوا، والعالم محمد الثعالبي، والسيد عبد الرحمن بن حسن الدحاوي وإخوته العلماء والسيد محمد بن عبد الله المشرفي، وعبد القادر بن محمد بوطالب.
وفي هذه المناسبة رأى ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين، وقبل توقيع المبايعة أن من واجبه إرسال رسالة إلى الخليفة العثماني السلطان محمود يخبره فيها بالأحداث وما الت إليه البلاد بعد استسلام الدّاي حسين، والفوضى التي حدثت، وعن مقاومة الغزو، واستبسال أبناء الشعب بالدفاع عن دينهم وكرامتهم ودورهم ومساجدهم، كان الأمير يكن كل الاحترام والتقدير للدولة العثمانية، وسيأتي الحديث عن ذلك بإذن الله في محله.
وسرى خبر مبايعة عبد القادر بن محيي الدين بين القبائل، فأخذت الوفود تترى على دار الشريف محيي الدين في القيطنة، راغبة بالطاعة والمبايعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الجهاد. وفي الموعد المحدد وبعد صلاة الفجر انطلقت عائلة الشريف محيي الدين من القيطنة على متن الجياد نحو جنوب مدينة معسكر، في ضاحية العين البيضاء حيث يقع المسجد المذكور ؛ الذي اشتهر أيضاً بجمال بنائه وحدائقه العالية الرشيقة التي غطى نصفها الضباب. وفور وصولهم قفزوا عن جيادهم وسلموها للسياسي، ثم خلعوا أحذيتهم ووضعوها في المكان المخصص، ودخلوا قاعة المسجد الواسعة المفروشة بالسجاد الفاخر ولفّوا حول أجسادهم برانسهم البيضاء، ثم جلس الشريف محيي الدين وإلى جانبه أولاده، وعندما دخل رؤساء القبائل الجزائرية وقف عبد القادر بن محيي الدين، وفي عينيه بريق العزم والإخلاص والإيمان، وقد تزمّل برداء الهيبة التي اشتهر بها ووسامة المحيا وبياض البشرة وتناسق الجسم.
ب ـ خطبة الأمير عبد القادر في الجموع ونص البيعة:
خاطب زعماء القبائل والأعيان وممثلي العشائر والعلماء فقال: بعد ذكر اسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على رسوله بادرهم بقوله: «إنني لست أفضلكم خلقاً وشجاعة وحكمة، ولم يخطر لي هذا المنصب يوماً، ولكنني أجبرت عليه كما تعلمون، فهو مسؤولية أمام الله وأمامكم، أرجو منه تعالى التوفيق والعون لتطهير البلاد من الغزاة، ورفع راية الإسلام عالية في سماء بلادنا، فالإسلام هو الذي وحدّ قبائلنا بعد شتات وجعلها قوة لا تقهر، تدفعنا ميادين المجد والشرف، وجعلنا إخوة يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه، ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، وأمرنا بالعدل والمساواة.
وإذا عدنا إلى التاريخ نجد كل من دخل هذه البلاد غازياً من رومان وفاندال وإسبان هزمتهم قوة بأس وشجاعة الأجداد، وكان هدف غزوهم لبلادنا إخضاع شعوبنا وإذلالها، ونهب خيرات بلادنا، لزيادة رفاهية شعوبهم.
والذين حالف النصر أعلامهم من الفاتحين حملوا إلى هذه البلاد حضارة إلهية، وشيدوا صروحاً من القيم باقية إلى الأبد لا ينضب معينها، ودخلوا هذه البلاد لتكون دعوة الإسلام حرة فيها، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء :107]. ومدنية راقية لا تزال اثارها تشهد عليها في مدننا في فاس، وقرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، وفي وهران، وقسنطينة، إخوتي في الإسلام، أيها السادة زعماء القبائل والعلماء، أيها المجاهدون من أبناء هذا الوطن العظيم سنكون أقوياء، سندافع عن الراية والرسالة التي حملها لنا طارق بن زياد، وموسى بن نصير، وسيظل ارتباطنا وثيقاً بدولة الخلافة العثمانية ارتباطاً روحياً بنظامها الإسلامي، ولن نكون جاحدين لأعمال الأخيار من الولاة في خدمة الإسلام ومحاربتهم لقوى الشر في بلادنا، ولن تخرج دولتنا عن طاعة الخليفة، ولن نكون عوناً لأعدائها عليها، وكما قال والدي: هذا المنصب الذي اخترتموني له لن يكون متوارثاً، وأرفض لقب سلطان أو ملك {حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [التوبة :129]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
فلاقت هذه الخطبة حماساً منقطع النظير من جموع الحاضرين، وضج المسجد بأصوات الرجال «الله أكبر» ثم نهض العالم الفقيه محمد بن حوا، وكان يرتدي الثوب الجزائري وفوقه البرنس الأبيض وعلى رأسه العمامة البيضاء، وقرأ نص المبايعة:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله أجمعين، بعد مبايعة الإمام الجليل الشريف محيي الدين وتنازله عنها لولده عبد القادر بن محيي الدين أحيا الله بهما الدين وأعانهما على القيام بإعلاء كلمته، وأهلك بدولتهما أهل البغي والفساد والغزاة المعتدين، نحن جميعاً علماء غريس وأشرافها وما جاورها وزعماء قبائل العباس والخالدي والإبراهيمي والحساني والعوفي والجعفري والبرجي والشقراني والزلامطة ومغراوة وبني السيد وحق الخلوية والمشارف وكافة أهل وادي الحمام وزعماء الدوائر والزمالة وبني خويدم وعكرمة وفلقية والمفاحلية والغراية والحساسة وأولاد الشريف وصدامه وكل من حضر هذه البيعة، نبايع أبا المكارم ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين، صاحب الفضل المجاهد الشجاع ذا النسب الشريف، قامع أعداء الله الظالمين أيده الله بنصره، نبايعه على الجهاد والحكم بكتاب الله وسنة رسوله وعلى الطاعة، ونصرة الله في السراء والضراء، ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه، وخسر يومه وأمسه والله الموفق.
وخرجت الجموع متفائلة مستبشرة يهنأئ بعضهم بعضاً.
ج ـ رسالة من الأمير عبد القادر إلى سائر القبائل في أنحاء البلاد:
الحمد لله، إلى قبيلة كذا.. خصوصاً أشرافها وعلماؤها وأعيانها، وفقكم الله وسدد أموركم، وبعد ؛ فإن أهل معسكر وغريس الشرقي والغربي ومن جاورهم واتحد بهم قد أجمعوا على مبايعتي وبايعوني على أن أكون أميراً عليهم وعاهدوني على السمع والطاعة في اليسر والعسر، وعلى بذل أنفسهم وأولادهم وأموالهم في إعلاء كلمة الله، وقد قبلت بيعتهم وطاعتهم، كما أنني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق نحو القوي والضعيف، فلذلك ندعوكم لتتحدوا وتتفقوا جميعاً. واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله اتكالي. في ذلك كله فاحضروا لدينا لتظهروا خضوعكم، وتؤدوا بيعتكم، وفقكم الله وأرشدكم. حرر عن أمر ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين، بمعسكر في (الثالث من رجب سنة 1248هـ الموافق 27/11/1832م).
وما إن تمت للأمير البيعة حتى قصد منزله، وقال لأم أولاده: إن أردت أن تبقي معي من دون التفات إلى طلب حق فلك ذلك، وإن أبيت إلا أن تطلبي حقك فأمرك بيدك ؛ لأني قد تحملت ما يشغلني عنك، وبطبيعة الحال عبرت له زوجته عن استمرارها في العيش معه وأن تتقاسم معه أعباء المسؤولية.
د ـ تجربة جديدة في الحكم:
جاء الأمير عبد القادر بتجربة جديدة في الحكم، جديدة على العصر الذي عاش فيه وليست جديدة في التاريخ، عندما رشحه والده للولاية عام (1832م) كان أمامه نماذج من الحكام المسلمين، سلطان ال عثمان، وشاه إيران، ملك أفغانستان، ثم ولاة من أمثال باي تونس وباشا مصر وإمام اليمن، وقد كان يمكنه أن يقلد هؤلاء أو حتى يقلد الداي حسين المخلوع، ولكن الأمير رفض أن يكون نموذجه أحد هؤلاء جميعاً، واختار نموذجاً جديداً يؤصّل به الخلافة الراشدية، ويرجع به إلى حكم الإسلام في عهده الذهبي.
وإن الدارس يتبين له هذا النهج الجديد القديم في عدة سلوكيات وإعلانات من قبل الأمير، فقد اتخذ علماً مخالفاً لعلم ال عثمان، استوحاه فيما يبدو من التقاليد الشعبية، وهو قطعة من القماش الأبيض تتوسطها يد مفتوحة، والبياض رمز الطهارة والجدة والصفاء، واليد الخماسية ترمز إلى نفي الغريب، والتعوذ من الحسود والشرير، والغالب على الظن أن هذه اليد كانت صفراء اللون، وعندما يرجع المرء إلى ظروف المبايعة يلاحظ أننا أمام بعث لتقاليد كاد حكام المسلمين أن ينسوها، وهي الخضوع لإرادة المحكومين ودعوتهم للتعبير عن اختيارهم بمحض الحرية، وكأننا هنا أمام الظرف الذي بويع فيه الخليفة أبو بكر الصديق أو الخليفة عمر بن الخطاب، فهنا أيضاً كانت المبايعة الخاصة ثم العامة، ففي مدينة معسكر كانت طقوس المبايعة تذكرنا بما جرى في المدينة المنورة.
لقد شملت مراسيم البيعة على درس من القرآن الكريم والمصحف باليد، مركزة على عقاب الله الذي يحل بمن تقاعس عن الجهاد والدفاع عن عرضه وأرضه ومقدساته، وكان الأمير قد تطور في لهجته، حتى بلغ درجة من الحماس حولت القعود إلى قيام، يتعاهدون على الجهاد، وذلك عندما التزم للحضور وقال لهم: إنني لن أعمل بقانون غير قانون القران، ولن يكون مرشدي غير تعاليم القران، والقران وحده، فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لنفذت فيه الحكم، وقد أكد على ذلك بقوله لهم: عليكم واجب الخضوع في كل الأعمال إلى نصوص كتاب الله وتعاليمه، والحكم بالعدل طبقاً للسنة النبوية.
ولنقرأ في أول منشور للأمير إلى قومه: إن قبيلة كذا وقبيلة كذا قد وافقوا بالإجماع على تعييني وبناء عليه انتخبوني لإدارة حكومة بلادنا، وقد تعهدوا أن يطيعوني في السراء والضراء وفي الرخاء والشدة، وأن يقدموا حياتهم وحياة أبنائهم وأملاكهم فداء للقضية المقدسة «الجهاد». من أجل ذلك إذن تولينا هذه المسؤولية الخطيرة على مضض شديد، املين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين ومنع الفرقة بينهم، وتوفير الأمن العام إلى كل أهالي البلاد، ووقف كل الأعمال غير القانونية التي يقوم بها الفوضويون ضد المسلمين، وصد وطرد العدو الذي اعتدى على بلادنا مريداً أن يغل أعناقنا بقيوده، ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات العليا أن عليهم دائماً واجب الخضوع، في كل أعمالهم إلى نصوص وتعاليم كتاب الله وإلى الحكم بالعدل في مختلف مناطقهم طبقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلى ذلك كان عبد القادر هو الذي يقود المعارك الجهادية، وهو الذي يؤم الناس في الصلاة، وكان في مراسلاته وأوامره يستشهد بالقران الكريم، وكان عند كل غروب ـ بعد العصر ـ يقف أمام خيمته يلقي درساً في الوعظ على قومه ولم يكن من الضروري حضور أي كان، ولكن لم يكن يتخلف أحد ـ إذا أمكن ـ عن حضور هذه الخطبة الوعظية، وبذلك كان الجميع يجددون يومياً حرارة الغيرة الحربية والدينية التي كانت تتقد داخل صدورهم، فكان عبد القادر بذلك كأنه منبع رئيسي من الضوء والحرارة لقومه.
وقد كان عبد القادر هو الذي يجلس شخصياً للفصل في المظالم، وهو القاضي الأعلى في الدولة. وأما الولايات فقد فوض لخلفائه «ولاته» القيام بنفس الدور الذي كان يتولاه هو، وكان الأمير لا يفصل في القضايا الخطيرة كالصلح أو الحرب إلا بعقد مجلس الشورى، وعرض القضية أمامه وأخذ رأيه وتنفيذ ما يتفق عليه الحاضرون.
إن هذا النموذج الذي سلكه الأمير في الحكم كان جديداً ـ قديماً، كما قلنا ؛ لأنه لا أحد من حكام المسلمين عندئذ كان يسلك هذا الطريق، ويبدو أن الأمير لو طال به العمر واستمر في الحكم لاختار نظام الخلفاء الراشدين أو النظام الجمهوري، ولكن بمفهوم ذلك الوقت، وما نظن أنه كان سيورث الحكم لأحد من أبنائه أو أقاربه، كما فعل الأمويون ومن جاء بعدهم من حكام المسلمين، وقد نص على ذلك: هذا المنصب الذي اخترتموني له لن يكون متوارثاً، وأرفض لقب «سلطان أو ملك».
بعد هذه البيعة الشعبية حمل الأمير عبد القادر مسؤولية الحكم، وامتد سلطانه إثر معارك دامية حتى شمل ثلاثة أرباع القطر الجزائري، وبعد أن استقام له الأمر شرع في تنظيم أمور الدولة النواة وتشكيل الكوادر الحكومية، فعين الأكفاء من الرجال، واعتمد الفقه الإسلامي أي التشريعات المنبثقة من القرآن الكريم والسنة. نظاماً لحكمه وبناء الدولة، والجهاد لتحرير الوطن من الغزاة المحتلين.
بهذه المرجعية الإسلامية المتكاملة التي أثبتت قدرتها على حلّ جميع مشكلات الحياة، في جميع الأزمنة والأمكنة التي دخلها الإسلام وغمرها بسلطانه، بدءاً من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وبهدي هذا النظام الإلهي العظيم أراد الأمير عبد القادر السير في حكمه ؛ لأنه كان يؤمن أن هذا النظام وحده يمكنه من مواجهة المشكلات المعقدة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والعسكرية، ومن الوقوف أمام تحديات الأعداء وتوسع المجتمعات وتطورها مع الزمن.
هـ مفهوم البيعة:
عرّف العلماء البيعات بتعريفات عدة، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام.
وعرّفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق، والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة وإقامة ما أقامه، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد والولاء، فأشبه هذا الفعل البائع والمشتري، فسمي هذا الفعل بيعة.
إن البيعة بمعناها الخاص هو إعطاء الولاء والسمع والطاعة للأمير مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين الطرفين، الأمير من جهة وهو الطرف الأول، والشعب من جهة ثانية وهو الطرف الثاني، فالأمير يبايع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة، عقيدة وشريعة ونظام حياة، والشعب يبايع على الخضوع والسمع والطاعة للأمير أو الرئيس في حدود الشريعة.
فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام، تفرد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والمحكوم كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الشعب ممثلاً بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد فعل مثل ذلك خروجاً عن الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم ينفي عنهم صفة الإيمان.
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء :65].
ـ والبيعة عقد لا يحتمل الإكراه.
ـ ويحتمل الشروط المسبقة.
ـ ولا إمامة إلا بعد عقد البيعة.
ـ وأنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها.
ـ ولا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشؤون الأمة.
ـ وأنه لا شورى بلا حرية.
ـ وأن السيادة والطاعة المطلقة لله ورسوله.
إن الإمارة عقد بين الأمة والحاكم يلتزم فيها الحاكم إنفاذ الشريعة والنصح للأمة ومشاورتها، وتلتزم له إن هو وفى بذلك السمع والطاعة، وينتج من ذلك أن الأمة هي مصدر كل سلطاته وأن لها عليه السيادة، كل ذلك في إطار الدستور «الشريعة».
و ـ وضعية البلاد عند مبايعة الأمير عبد القادر:
بينما كانت فرنسا تثبت وتدعم موقفها في الجزائر وضواحيها والمتيجة، حيث نهبت مدينة المدية من طرف البارون دي روفيفو ؛ فإن هذا الأخير قد أخذ على عاتقه مذبحة قبيلة الأوفياء بالقرب من الحراش، وهذا ما أثار غضب قادة القبائل الذين عينوا بن زعموم قائداً لهم، لقد اضطر هذا الأخير إلى التراجع نهائياً حينما تبين له ضعف المتمردين إثر السحق السريع لتمردهم. كان بايلك الجزائر واقعاً تحت السلطة الفعلية للمحتل ؛ الذي كان يثبت وجوده في البليدة ؛ التي كان ينوي انطلاقاً منها وضع حد لهجومات قبيلة حجوط، وبفضل مد الطرق التي تربط بين المراكز المتعددة في المنطقة، والتي كانت تحت تصرف «المكاتب العربية» المكونة حديثاً، كان الفرنسيون هكذا يظنون أنهم سيتمكنون من بسط الغزو على كافة أرجاء البلاد، وقد قام المحتل أيضاً بإدماج قوات السبايسية كأعوان يرافقون الجنود في مهماتهم، كذلك ظهرت بعد ذلك فرقة القناصة تولى قيادتها ابتداء من (1831م) قاطع طريق حقيقي ذو أصول مشكوك في أمرها قدَّم للاحتلال خدمات عظيمة، غير أن ثمنها تمثل في العديد من أعمال النهب والتقتيل، خاصة في منطقة القبائل وعنابة، وقد عرف باسم يوسف، وقد حمل شارع كبير في أعالي الجزائر اسمه هذا طوال الفترة الاستعمارية، وكان لفرنسا نية مبيتة ثابتة في غزو كامل البلاد، على الرغم من الصعوبات التي اعترضتها في التيطري وفي الشرق من طرف أحمد باي، وكذلك الاختلاف في وجهات النظر بين حكامه والتي ترجع أساساً إلى اعتبارات خاصة بالسياسة الداخلية.
غير أن ما واجهه من عداء من طرف السكان اضطر فرنسا إلى التصرف بمرونة والبحث عن وسطاء من بين القادة المؤثرين، ولو اضطره ذلك إلى إخضاعهم بعد تقوية نفوذه عليهم، باستعمال الرشوة والخديعة والقوة، هكذا كانت خطة الغزو على مراحل والتي بيتها وزير الحرب «سولت» في التعليمات التي أرسلها إلى جنرال في (الميدان ـ الجزائر) بتقدّم بطيء انطلاقاً من القواعد العسكرية في الساحل بغية السعي في تحقيق نجاح دائم وثابت، وذلك عن طريق مؤسسات زراعية يقوم الأوروبيون بإنجازها.
وهكذا فالوضعية كانت مقلقة للغاية، ذلك أن الفرنسيين وهم يحتلون كل الساحل من وهران إلى عنابة كانوا قد بدؤوا ـ بكل جراءة ـ في سياسة للتوطين في المناطق المحتلة، كما شرعوا بتصلب في ضم القبائل إلى صفوفهم، أو تحييدها وشلها، إذا ما تعذر ذلك.
بهذا فإن المهمة المناطة بالأمير الشاب كانت من الصعوبة بمكان، بالرغم من الحماسة التي تلت بيعته، فكان عليه أن يحسب حساب قادة القبائل الذين أبدوا له عداءهم، كما كان عليه أيضاً أن يتحكم في اندفاع مناصريه ؛ لأجل هذا تقيد بتكوين جيش نظامي، وكانت مدينة معسكر التي جعل منها عاصمته المؤقتة مكان التحضير لتدريب جيشه، وبهذا فإن هذه العاصمة القديمة لبايلك الغرب أخذت مكانة كبيرة في دولة الأمير عبد القادر.
لقد ترك انهيار الإدارة التركية خلافة هذه الأخيرة إلى قادة قبائل المخزن ؛ الذين لم يكتفوا برفض الاستجابة إلى نداء الأمير الشاب الذي لم يكن ينتمي إلى طبقتهم الاجتماعية، وإنما تقربوا إلى المحتل الفرنسي ليحافظوا على امتيازاتهم.
والأمير عبد القادر الذي لم يكن يجهل شيئاً عن مساوماتهم كان ينتظر الوقت المناسب لينتهي من أمرهم، وكان مكتفياً في هذا الوقت بإثبات مكانته عند القبائل الموالية له، كمدافع عن القضية الوطنية، مكلف بمهمة طرد المحتلين الفرنسيين من الأراضي المغتصبة، فكان ينظم حكمه طبقاً لهذا المفهوم.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي