الشيخ سي امحمد مكي.. مناقب جليلة
بقلم: حبيب بن يدة-
في مثل 15 فبراير من العام الماضي غيب الموت الشيخ سي امحمَّد مكِّي -تقبله الله في الصالحين- وأوقع ذلك ثلمة في بلدته الصغيرة لا يكاد يسدها أحد، وعمت الأحزان أطراف المدينة التي كانت تأوي إلى هذا الشيخ الوقور فإذا هو سيدها النبيل، وبدا كأن المدينة كانت في ظلة وارفة ثم انحسرت عنها وقد راعها هول المصيبة، وأرعبها وقع الفاجعة..
والشيخ سي امْحمَّد مكِّي -رحمه الله- رجل مهيب قد زيد له في نصيب الهيبة بما حباه الله من جلال الصمت والتفكر والتأمل، ومن السنن التي جرت بها عادة المتقدمين المسارعة إلى ذكر مناقب الأعلام لتكون نبراسا هاديا إلى كمالات الخير، ونورا حاديا إلى محاسن التأسي، وهذه نتفة يسيرة في ذكر مآثر هذا الشيخ الجليل، عساها تكون شذرة صالحة لينسج على منوالها أخيار المدينة وفضلاؤها:
1/ الشيخ سي امْحمَّد هو نموذج الداعية الصامت الذي يقل كلامه، ويعظم في الناس أثره بسمته وصمته، فقد رزق هيبة أحلته محل الإجلال في قلوب الناس، وقلما يطمع طامع في جره إلى متاهة الأحاديث المعتادة المكرورة، وربما حضر في المجالس العامة، فتكون كلماته في ذلك المجلس معدودة محصورة مهما طال المجلس، وذلك هدي هو أشد تأديبا وتهذيبا للنفوس التي ألفت الصياح في كل محفل، وهذه منقبة نافعة للدعاة والوعاظ، فما أحوجهم أن يتخففوا من بهرج الكلام في كل مناسبة، وما أشد حاجة الداعية أن يأوي إلى ركن الصمت يتزود منه إذا كان تشقيق الكلام غير نافع.
2/ الشيخ سي امْحمَّد هو رمز المواظبة، وعنوان الانضباط، والمثل الصحيح في إتقان الأعمال وإحكامها، وقد استمر إماما في المسجد العتيق لسنوات طويلة فما أمسك عليه الناس إهمالا يعاتب عليه، بل مازالت ألسنتهم لا تكاد تجد أنموذجا هو مثال الانضباط والصرامة أصلح من الشيخ -رحمه الله-، وهذه منقبة ينتفع بها الأئمة والموظفون الذين كلت همم بعضهم حتى غدا يتخلف عن الصلاة عمدا، أو يهمل حقوق الخلق قصدا، أو يترخص في القيام على مصالح المسلمين بما يقتضيه الواجب من الجد والعزائم.
3/ الشيخ سي امْحمَّد إذا دعي إلى مكان يتحدث فيه، أو يلقي فيه خطابا جاء بكلمته مكتوبة قد خطها بيمينه، فهو لا يرتجل أبدا، وما رأيته مرتجلا إلا أن يكون داعيا، ولا تكون خطبه ومواعظه إلا قصدا، وهذه خصلة نادرة ما أشد حاجة الخطباء والوعاظ إلى العناية بها، وإن أحدهم ليتمادى في دروس لا يعرف لها زمام ولا خطام، ويكون بمنزلة الرحالة ابن بطوطة يشرق ويغرب في الآفاق، وكذلك هذا الواعظ الذي يرتجل دون تحضير، ويعنت الناس بالغرائب التي تمجها الأذواق، وإنما أوتي من جهة إهمال حق السامع، والتساهل في ركوب لجة الوعظ دون عدة ولا عتاد.
4/ الشيخ سي امْحمَّد أوتي صبرا وجلدا في مشاركة الناس أفراحهم ومسراتهم، وأعطي سعة في أداء الواجبات الاجتماعية لأهل بلدته، لا يمنعه مقامه أن يكون حاضرا في جنائزهم معزيا مواسيا، ولا يدعى من جهة من الجهات الساعية في أبواب الخير إلا لبى واستجاب، وهذا أيضا ينتفع به المصلح الاجتماعي الذي ينبغي أن يكون في خدمة الجميع دون تمييز، وفي مؤازرة المصلحين مهما كانت أسماؤهم ومراتبهم.
5/ الشيخ سي امْحمَّد زين مسيرته المليئة بمواقف الشرف بموقفين: أحدهما كان في أول حياته، والثاني كان في أخريات حياته، فقد تحركت نوازع الشر وهمَّ طائفة من المفلسين، فحدثوا أنفسهم بفتح حانة في المدينة المحافظة، ثم أعلنوا ذلك جهرة، فوجدوا الشيخ أمامهم سدا منيعا، وجدارا متينا، ونادى عليهم المدينة من أطرافها، وأبطل كيدهم، وشتت شملهم، وكذلك فعلت عصابة المتأخرين، وسعت في منح رخص لبيع الخمرة بالجملة، فنادى الشيخ مرة أخرى في المدينة، فوجد أهلها وأخيارها في أثره، وكان يوما مشهودا كلل بالفخر، وتوج بالنصر، ودارت الدوائر على وزير الخمر فألقي في الحبس غير مأسوف عليه، وهذه منقبة تكون للأمة درسا بليغا، وتربي فيها نخوتها وعزتها فلا تخضع لماجن، ولا تذل لفاسق.. ولله در الشيخ إذ أكرمه ربه بشهود الغزوتين، وحضور المشهدين، ونيل الأجرين..
6/ من المناقب التي كانت وساما على صدر الشيخ سي امْحمَّد أنه - رحمه الله - كان على طريقة محمودة في ملازمة الأوراد والأذكار، وعلى سبيل الجادة في شهود الصلوات والتبكير لها، وعلى مسلك فريد في تلاوة الذكر الحكيم، وهو معلق القلب بالمسجد قد حبب إليه ذلك في كل أوقاته، وقد تأملت في الحادث الذي كان سببا في وفاته، فلم أجده حادثا قاتلا كما هو شأن الحوادث المروعة، فلما قضى إلى ربه محمودا مرضيا عنه - إن شاء الله- ولم نلبث بعد وفاته إلا أياما حتى نادى المنادي بغلق المساجد بسبب الجائحة، فعرفت أن الله قبضه إليه حتى لا يحول بينه وبين لذته في ملازمة المسجد، وظهر لي - والله أعلم- أن الله تعالى أشفق عليه فمنع عنه هذا الألم القاسي الذي ما كان ليتحمله لو عاش وشهده.. ولله الأمر من قبل ومن بعد..
هذه كلمات كتبتها على جهة تحريك الهمم في معرفة أقدار هؤلاء الرجال الذين هم أعمدة الصلاح في حياة الناس، وهم أساطين الخيرية في أيامنا هذه التي اشتد فيها البلاء، وعم فيها الفساد، وتواطأ عليه الصغير والكبير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
كتبته محبة للشيخ (سيدي امْحمَّد) جدَّد الله عليه الرحمات وجعله في أعلى الدرجات، وأناله أطيب الغرفات.