حنفي بن عيسى (1932م/1999م) وقضايا التربية والأدب والتواصل اللّغوي
بقلم: محمد بسكر-
الذين يعرفون الدكتور حنفي بن عيسى، رئيس تحرير مجلة الثقافة، وأستاذ علم النّفس التربوي، والمحاضر بجامعة الجزائر، يُقرّون أنّه باحث متمكنٌ في مجال علم النّفس، وشخصية علمية مرموقة حظي بها الوطن بعد الاستقلال. قدّم للمكتبة الجزائرية بحوثا ودراسات ثرية في الفكر التربوي وقضايا التواصل اللّغوي، وتاريخ الأدب، ستبقى مخلّدة لمآثره ودوره في الحياة الثقافية.
سبق أن احتضنت جامعة “عبد الحميد بن باديس” بمدينة مستغانم، بتاريخ 25 جانفي 2020م، فاعلية ثقافية حول سيرته وأعماله، بحضور أفراد من أسرته وبمشاركة باحثين ومهتمين بالأعمال الفكرية التي قدّمها للثقافة الوطنية طيلة مشواره العلمي.
الدكتور حنفي بن عيسى أستاذ جامعيٌ، وباحث أكاديمي، مختص في الفكر التربوي الحديث، من مواليد سنة 1932م، تحصّل على إجازة في التربية وعلم النّفس من جامعة دمشق سنة 1961م، ودكتوراه في الفلسفة وعلم النّفس اللّغوي وقضايا الاتصال من جامعة الجزائر سنة 1971م. عمل أستاذًا بمعهد علم النّفس بجامعة الجزائر، ورصيده من التأليف والكتابة البحثية يُغني الدّارسين، ويوفر لهم مادَّةَ البَحث العلمي لإنجاز دراسات أكاديمية حول معارفه وإسهاماته التي تظهر معالم الهُويّة الوطنية في أفكاره.. والمواضيع التي آثر الاشتغال في مجالها لا تخرج عن المحاور الأربعة التالية.
1-القصة…بداية المشوار:
إذا كانت الطبقة المثقفة تعرف عن الدكتور “حنفي بن عيسى” أنّه أستاذ الجامعة المهتم بعلم النّفس التربوي، فإنّه خَلِيقٌ بنا أن نشير إلى إسهامه في كتابة القصة الحديثة قبل الاستقلال، فهو من أوائل الكُتّاب الجزائريين خوضا لغمار هذا الفنّ المتميّز بمواضيعه النّاطقة بمزايا المجتمع ومآسيه، وهو نمط اتّخذه الأدباء الجزائريون أسلوبا للنضال الثوري، والتّأريخ لجرائم الاستعمار، فكان المسرح والرّواية والقصة هي سلاح مقاومتهم وملاذ نضالهم، وحصيلة الدكتور حنفي – قبل الاستقلال- في هذا المجال ثلاث قصص، أبدع فيها وإن لم تصل إلى مستوى كتابة أحمد رضا حوحو ومولود فرعون وغيرهما، نشرها في مجلة الآداب البيروتية، وهي قصص قصيرة مواضيعها حول المقاومة، لها مدلولاتها الثورية، وتظهر عمق تلاحمه بالتاريخ الوطني والقضية الفلسطينية. كانت الأولى تحمل عنوان “في حي القصبة”، (نشرها في فبراير 1959م)، تصور مشاهد من البطولة والاستشهاد، أهداها «إلى كلّ امرأة وقفت بجانب الرّجل لتدافع عن حياض الوطن». تحدّث فيها عن حي القصبة ودور النّسوة في مقاومة الاستعمار ومساعدة المجاهدين، وفي شهر نوفمبر سنة 1960م نشرت له المجلة قصته الثانية “عائدون”، تحكي واقع النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني، وتصفُ شخصية “سمير”، أستاذ اللّغة الإنجليزية بدمشق، المدرس النّاجح المرموق، الذي ينتهي به المطاف إلى لقاء فتى يتيم، حدّثه عن بيته البعيد في “يافا”، في الأرض المحتلة، وسأله بعفويّة طفولته.. متى يعود إلى بلده؟ ليأخذ الأستاذ بيده ويرجع به إلى زوجته وقد تبللت عيناه بالدّموع، وهو يقول: يابني إنّ الطريق نحو “يافا” لاتزال طويلة…أمّا قصته الثالثة فكانت بعنوان “الشمس لا تشرق من باريس” (جوان 1961م)، تروي حكاية طالب جزائري فاز بمنحة دراسية إلى فرنسا، نافس فيها شابا فرنسيا من المعمرين اسمه “كلود”، جمعتهما الصداقة، لولا الحقد الدّفين في نفس الأخير، ثمّ معاناة هذا الشّاب وحنينه إلى بلدته بعد إعجابه وارتباطه بفتاة من وطنه، فالرّواية بما تحمله من تراجيديا تختصر مأساة الطّلاب الجزائريين في المهجر، وهلعهم من الأحداث السّياسية الجارفة، وخاصة عندما نقلت الثورة نشاطها إلى باريس، فهي في فصولها تُظهر القلق والحيرة والشعور بالصمود أمام الأحداث، عَمد فيها الكاتب إلى أسلوب المقال، والرّد التقديري.
2-فن الترجمة تنظيرا وتطبيقا:
دخل الدكتور “ابن عيسى” ساحة الترجمة إلى اللّغة العربية بقوة، فالرجل كان يقرأ بثلاث لغات على الأقل، اكتسبها أثناء دراسته بالمشرق، والمتتبع لأسلوبه في تعريب النّصوص، يبدو له أنّ الترجمة بالنّسبة إليه لم تكن هواية بقدر ما هي تخصص أجاده، فتعريب النّصوص فنّ يحتاج إلى حذق في اللّغة، وقدرة على حسن اختيار العبارات، وتطويع الألفاظ دون المساس بجوهرها، لقد تعامل أثناء تجربته أولا مع الأدب الجزائري فنقل نصوصه من الفرنسية إلى العربية في وقت مبكر، مثل: رواية رصيف الأزهار لا يجيب” للأديب الجزائري مالك حداد (سنة 1964م)، و”الدروب الوعرة” للشهيد مولود فرعون(سنة1967م)، وكتاب “من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية ” لأحمد طالب الإبراهيمي (سنة 1976م)، و”الجزائر الأمة والمجتمع” لمصطفى لشرف (سنة 1983م)، وترجم بعض الدراسات ونشرها في مجلة الثقافة، منها: “الفن المعماري الصنهاجي وأثره في صقلية” للدكتور رشيد بوروبية، و”دور الجامعات في تنمية القارة الإفريقية” لإدريس شابو، كما تعامل مع الأدب الغربي في إطار الأعمال التي عهدت بها إليه منظمة اليونسكو، حيث ترجم بعض المؤلفات من الإنجليزية إلى العربية مثل كتاب “تعلَّم لتكون” (سنة 1974م)، و”نتعلم ونعمل”.
3- نظرية التبليغ اللّغوي:
اهتم الدكتور “حنفي بن عيسى” ضمن تخصصه بالكتابة في علم النّفس اللغوي، فنشر دراسات في مجلة الثقافة جمعت بين علم النّفس وقضايا الاتصال اللّغوي وصعوبات التّعلم، وأهمّ ما كتبه في هذا المجال تأليفه المسمى ” محاضرات في علم النّفس اللغوي”، الذي نشرته الشركة الوطنية للطباعة والنّشر سنة 1974م. يعتبر هذا الكتاب من الدّراسات القيّمة حول استعمال الرّموز المعبر عنها بالتعبير اللغوي، ومدى ارتباط ذلك بوعي الإنسان التّام للأشياء، وقدرته على الإفصاح عنها. عرض فيه مختلف الآراء حول مشكلة التواصل اللّغوي ومعوقاته، وهل من الجدوى أن يتقدم أهل البحث بنظرية مَا حول الموضوع ؟ وخَلُصَ بعد تحليل إلى أنّ الصعوبة الأساسية التي تواجه الباحث، كونه يتناول قضايا اللّغة بواسطة اللغة، وهو أمر يؤدي إلى مأزق فلسفي، وهذا الوصف ينبغي التغاضي عنه إلى أن تتوفر المعطيات الكافية، والتركيز على الأهم، وهو اعتبار المسائل اللّغوية ظواهر مطروحة للبحث، والنّظر إليها من جوانب مختلفة لا من جانب واحد؛ لأنّ قضاياها لا تفهم إلّا في إطار النّظرية التكاملية، وهي نظرية مستوحاة من كلام اللّغوي ” ابن جني” الذي صدّر به مقدّمة كتابه.
4- الأديبُ بين التراث والمعاصرة:
كتب “حنفي بن عيسى” بعض الدّراسات النّقدية لواقع الأدب والأديب في عالمنا العربي، وما آل إليه حال المؤلّف في المنظومة الاجتماعية الجاحدة لفكره، والتي لا تعترف بعطائه الثقافي، ولا تساعده على الإبداع، وكيف أنّ الظروف ألجأت بعضهم إلى التمسح بأعتاب الطبقة المترفة، وظهور ما يسمى بثقافة الارتزاق، وهو بيع الكلمة في سوق يعمّها الكساد، وهو أدبٌ قديم شاع عند الشعراء الذين يطلبون الرزق بالتزلف ومدح الحكّام، ولم يسلم منه القدامى أمثال المتنبي، وهذا النوع مازال إلى يومنا هذا مع الفارق، وإذا كانت علاقة الشاعر مربوطة مباشرة بما يجود به الحاكم، فإنّ الأديب في عصرنا هو رهين ميولات القرّاء وخاصّة فئة الشباب الذين لا تستهويهم الكتب المطولة العلمية، بقدر ما يميلون إلى المطالعات الخفيفة والرّوايات المبتذلة، ولا تتوقف معضلة الكاتب عند رغبة القارئ، بل هو حبيس دار النشر، حيث يهمز له صاحبها «بأنّ الكتب المبسطة، وروايات الجيب، والقصص البوليسية والجنسية، ومغامرات الجواسيس، أكثر رواجا من المؤلفات التي لايزال بعض المتزمتين يكتبونها، فلا يجدون من يقرأها»، وهذا النوع من الأدب الاستهلاكي ما زال يَتَسَيَّدُ السّاحة الثقافية، ويستحوذ على جمهور كبير من القرّاء. ولم يفته (رحمه الله) الكلام عن أدباء الجزائر الذين ألجأتهم الحاجة إلى الكتابة باللغة الفرنسية، والذين حسب رأيه يعيشون فترة من التذبذب والحيرة بين القديم والحديث، مستأنسا بقول أحدهم: «إن اللّغة الفرنسية هي منفاه».
إنّ تراث الدكتور “حنفي بن عيسى” في علم النّفس والفكر التربوي، وبحوثه في الأدب العربي، تحتاج إلى من يوجّه طلبة الجامعة والباحثين إلى دراستها ضمن أطروحات جامعية، تُبيّنُ مساهمته في الثقافة الجزائرية، باعتباره من الأقلام الجادّة فترة ما بعد الاحتلال.