تجديد الخطاب الإسلامي لدى الإمام عبد الحميد بن باديس
بقلم: د. نفيسة دويدة-
مثَل الحديث عن الخطاب الإسلامي الموجه للغرب (بالخصوص طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي) محورًا لكثير من النقاشات والسجالات الفكرية الدائرة في أرجاء العالم العربي والإسلامي خاصة، وتراوحت المفاهيم المطروحة بين الإصلاح، والتغيير، والإبداع، والتحديث، والتجديد.
وكان الوجود الاستعماري التقليدي في كل الأقطار الإسلامية تقريبًا عائقًا أمام أية محاولة جادة لبحث الأمر، وإيجاد المخرج الأمثل، ولذلك لم تتضح معالم الوحدة المفاهيمية في تلك الفترة. وعليه اخترت شخصية عبد الحميد بن باديس من منطلق إسهامه في الشروع بعملية التجديد كضرورة ملحة نابعة من أنفسنا، ومن الحاجة إليها، وليس من منظور أن تكون مراعية فقط لحضور الغالب أي الآخر، فالتجديد في هذه الحالة ليس عملية ترميمية علاجية للوضع القائم مؤقتًا.(1)
ولاشك أن فكرة تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر باتت ضرورة ملحة اليوم في ظل ما يعيشه العالم من تطورات وتغيرات متسارعة، ونظراً لما تشهده الأمة الإسلامية خاصة من تحديات امتدت زمانياً لفترات طويلة، ولازالت إلى اليوم محل وقلب الصراع العالمي الدائر من حولها، ورغم أن العالم الإسلامي اجتاز عدة عقبات واجهته في القرون الماضية؛ إلا أنه لم يتخلص نهائيًا من مشكلاته سواءً من الناحية المادية أو المعنوية والأخلاقية، وهو ما يفرض حتمًا التفكير ثانية في تجديد الخطاب الإسلامي.
الإمام عبد الحميد بن باديس وإمكانية تجديد الخطاب الإسلامي:
يعد الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإصلاحية بالجزائر؛ لأنه ساهم في تكوين مجموعة منظمة ومتماسكة من الأفراد الواعين بأدوارهم في الحياة، متمسكين بهويتهم، معتزين بانتمائهم، ومدافعين عن وطنهم المسلوب؛ عرفوا واستوعبوا خطر الوجود الاستعماري وممارساته، وكذا التخلف الناجم عنه.(2)
ولم يغفل الشيخ ابن باديس عن فتح جسور التواصل مع الآخر؛ سواءً كان معارضًا له (كبعض الطرق الصوفية مثلا)، أو عدوًا مباشرًا (كالمستعمر وأذنابه)، وشرح ابن باديس ضوابط تلك العلاقة، ومنهج التجديد في الخطاب الإسلامي الفعال، ونستشهد على ذلك بقوله: “.. إنما ينفع المجتمع الإنساني، ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه، ونظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله؛ فأخذ الأصول الثابتة من الماضي، وأصلح شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل. يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه مُعرضًا عما لا حاجة له به، أو ما لا يتناسب وشكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته”(3)؛ فهو يدعو من خلال هذا القول إلى الجمع بين المشترك والخاص من التراث الإنساني.
وأبدى ابن باديس رؤية واضحة ومكتملة في فلسفته عن مسألة تجديد الخطاب الإسلامي، حيث شرح أبعاد الوجود الإنساني، والحاجة إلى التواصل الحضاري الممنهج والمثالي، ونذكر مثالا عن ذلك مقاله الشهير المعنون بـ“لمن أعيش؟"(4)، ومما جاء فيه المقتطف التالي: “.. إنني أعيش للإسلام.. إنه دين الإنسانية الذي لا نجاة لها إلا به، وان خدمتها لا تكون إلا على أصوله، وأن إيصال النفع إليها لا يكون إلا من طريقه.. فإذا عشت له؛ فإنني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها، وما كنا لنكون هكذا؛ إلا بالإسلام الذي ندين به، ونعيش له، ونعمل من أجله”(5).
وفسر ابن باديس مستويات التبادل الحضاري المأمول فقال: “.. إذا أردنا اليوم أن نقتبس منهم (أي الغرب) كما اقتبسوا منا، ونأخذ عنهم كما أخذوا منا؛ فعلينا أن نخاطبهم ونخالطهم في ديارهم، حيث مظاهر مدنيتهم الفخمة، في مؤسساتهم العلمية والصناعية والتجارية، في أحزابهم على اختلاف مبادئها، في جمعياتهم على اختلاف غاياتها، في عظمائهم أصحاب الأدمغة الكبيرة التي تمسك بدفة السياسة، وتدير لولب التجارة، وتسير سفينة العلم.. فالذين يخالطونهم هذه المخالطة بتمام تبصر وحسن استفادة؛ يخدمون أنفسهم وأمتهم خدمة لا تقدر؛ خدمة تكون أساسًا للتقدم والرقي”(6).
لقد فهم ابن باديس لعبة الاستعمار في الجزائر (وفي كل البلدان)، حيث حاول هذا الأخير أن يقطع صلة الإنسان بأية روابط له سواءً كانت روحية أو اجتماعية وفكرية، وأن يفقده إحساسه بحركة الزمان والمكان فيعيش دون هدف في الحياة، ولا يعد وجوده؛ إلا بكونه صفرًا على اليسار(7).
وعليه انتهى إلى ضرورة دخول المواجهة غير المتكافئة متسلحين بالإسلام والإرادة لإعداد جيل التغيير بواسطة التعليم والتكوين خاصة، فهو قد استوعب أزمة العصر المتمثلة في اختلال التوازن بين الدين والعلم، وبين الإسلام والعمل، وأيقن أن نجاح أي مسعى للمسلمين أمام الآخر هو في وفائهم لعقيدة التوحيد، وبمدى قدرتهم على إعادة إحياء عنصري العلم والعمل(8)، كما أنه آمن بإمكانية نجاح مهمة التخلص من الاستعمار والتخلف؛ عن طريق الدين والعمل، وبذلك يسهل علينا توجيه خطابنا المتوازن، والمبني على أسس صحيحة بصيغته المتجددة المراعية للظروف السائدة، ولتسارع الواقع الزمني والتقني للإنسان. فإمكانية تجديد الخطاب الإسلامي عند الشيخ تتطلب مراجعة الماضي، وفهم الحاضر، والانطلاق بثبات نحو المستقبل.
وكان الخطاب الباديسي عمومًا عصريًا محافظًا على الذات والهوية؛ لكنه فصل بين المشترك والخصوصي، وبدا وسطيًا عمليًا حاول التنبيه إلى مجمل عوائق الخطاب السليم، ومن ثمة الانتقال في المرحلة اللاحقة إلى تفصيل الوضعية المقبلة مستقبلاً، كما دعا إلى التعارف الحضاري الذي يسبق الحوار، ثم التعايش، ووضع أسس تصحيح الذات، والانطلاق بها وفق خصوصياتنا وهويتنا ورؤانا المستقبلية لا كما يفرضه الآخرون. أي أن تجديد الخطاب حسبه يقتضي ويتطلب مراجعة وتقويم الذات.(9)
ولاشك أن شخصية الشيخ ابن باديس تعد أحد النماذج الفكرية في الجزائر التي حملت مشروعًا متكاملاً بشأن تصحيح واقع العالم الإسلامي، ومن ثمة السعي لإيجاد آليات الروابط المؤسِسة للعلاقة مع الآخر عن طريق تجديد الخطاب الإسلامي، وإن اتجه إلى الدعوة لخوض المعركة من واقع حقيقي فرضه الوجود الاستعماري.
وما يمكن قوله في خاتمة هذه الدراسة هو أن الخطاب والفكر الديني في المجتمعات الإسلامية يعد في آن واحد العصب المنظِم للعقل والموجه للسلوك العام، وهو أيضًا جسر للتواصل مع الأمم الأخرى، وأن أية اهتزازات مفاجئة تطرأ عليه تنعكس بصورة آلية على المنظومة التصورية العامة لتمثل الآخرين، وهكذا يكون تجديد الخطاب الإسلامي ضرورة لمواجهة التسارع الحضاري، ويتم ذلك عبر خطط ممنهجة تنبني أصولها على مراعاة الثوابت الأصيلة والمتغيرات الآنية.
ولأن الأفكار مهما كانت قيمتها المعرفية، وثراؤها الإيديولوجي لا تنفع ولا تؤدي الغرض المبتغى منها؛ إلا إذا خرجت من عالم المثل إلى مجال العمل والتطبيق، فإذا ما تحسسها الناس في الواقع يتم إدراك وتحديد مدى صلاحها أو فسادها.
إن الحديث عن تجديد الخطاب أيضًا يقتضي منا حتمًا إخراج الأفكار من المثالي إلى الملموس، من الديني الخالص إلى العملي المنسجم والنص الشرعي. وتجديد الخطاب الإسلامي في هذه الحالة يعني باختصار تحيين الأفكار، والأسلوب، والوسائل، والمقاصد. ومن المهم معرفة أن المقاصد هنا لا تقتصر على رفاه وتعايش المجتمعات الإنسانية المختلفة وحسب؛ إنما في إيجاد سبل الراحة والسعادة الروحية للإنسان أيضًا، وتحقيق الاستقرار والعيش الجماعي.
وبالنسبة للنموذج المدروس والمتمثل في الشيخ ابن باديس فقد حاول اقتراح آليات فعالة لتجديد الفكر الإسلامي وفقًا لتلك المرحلة، وقدم في سبيل عرض مشروعه دعوة للارتكاز على جملة من الأسس الفكرية المرتبطة بالأصول؛ في محاولة للوصول إلى امتلاك ميكانزمات الرؤية الحديثة للتطور المجتمعي في العالم، وذلك حتى تتوسع دائرة المكتسبات المشروعة من عملية التجديد.
كما أنه حاول التأكيد على ضرورة تجديد الرؤية النصية، وضبط كيفية التعامل مع المصدر الديني مع ضرورة توظيف المحتوى النصي لمراجعة الذات؛ بالإضافة إلى استحضار الحد الأدنى من الإرادة والوعي والعمل لخوض معركة التحديات المقبلة.
الهوامش:
(1) جودت، زيادة رضوان (2004). سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، ط1، لبنان: دار المدار الإسلامي، ص 56.
(2) ابن باديس، عبد الحميد (1994). آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ط01، الجزائر: منشورات وزارة الشؤون الدينية،ج01، ص 173.
(3) الحرس الوطني، 2012.
(4) الشهاب، مجلد10، (جانفي 1937م)، ص 112.
(5) الشهاب، مجلد10، (جانفي 1937م)، ص 112.
(6) الشهاب، مجلد 6، (فيفري 1925م)، ص 67.
(7) مراد، علي (1995). الإسلام المعاصر، ترجمة. محمود علي مراد، الجزائر: دار دحلب، ص 23.
(8) تركي، رابح (1989). الشيخ عبد الحميد بن باديس: فلسفته وجهوده في التربية والتعليم، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ص 65.
(9) الإبراهيمي، البشير (1997). آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لبنان: دار الغرب الإسلامي، ج02، ص 13.
قائمة المراجع المعتمدة:
ابن باديس، عبد الحميد (1994). آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ط01، الجزائر: منشورات وزارة الشؤون الدينية،ج01.
الإبراهيمي، البشير (1997). آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لبنان: دار الغرب الإسلامي، ج02.
تركي، رابح (1989). الشيخ عبد الحميد بن باديس: فلسفته وجهوده في التربية والتعليم، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
جودت، زيادة رضوان (2004). سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، ط1، لبنان: دار المدار الإسلامي.
مراد، علي (1995). الإسلام المعاصر، ترجمة. محمود علي مراد، الجزائر: دار دحلب.
الشهاب، مجلد 6، (فيفري 1925م).
الشهاب، مجلد10، (جانفي 1937م).
السلفية والتواصل الحضاري في خطاب ابن باديس، مجلة الحرس الوطني، 26/01/ 2012م).
الدكتورة نفيسة دويدة- المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة - الجزائر