الشيخ محمد أمقران بن مالك الوثلاني (علم وجهاد وإمامة وإدارة وإفتاء)
بقلم: عبد العزيز بن شرنين-
هو الشيخ العالم الجليل، الأديب الأريب، الواعظ والناصح الأمين، المرشد لكل الخير والصلاح، المفتي على المذهب المالكي، المجاهد الثائر ضد الاحتلال الفرنسي البغيض، أحد تلامذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأوفياء، ذكي الفؤاد، لين الجانب، خفيف الظل، عندما تلاقيه أول مرة تحبه ويدخل قلبك لتواضعه وغزارة علمه، واستقباله الجميل للغير، وبشاشة وجهه وبسامة ثغره، وعلو همته، إنه الرجل الرباني، صاحب الخلق الرفيع، والمنزلة العالية، فهو تحفة المجالس، في كل مجلس يبعث فيه روح العلم والتربية والأخلاق مستقاة من كتاب الله وسنة رسول الله.
ميلاده:
ولد سنة 1920 بقرية نايت امالك، من قرى دائرة بني ورتلان، إحدى قلاع العلم والجهاد، وقرى بني ورتلان مشهورة بتعليم القرآن والمحافظة على اللغة والأدب النبوي الشريف، وبها جده الحسين الورتلاني، صاحب الرحلة الورتلانية، ولا ننسى الشيخ الفضيل الورتلاني، خطيب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وممثل الجمعية في فرنسا والمشرق العربي، وتركيا، ومكان النشأة له أهمية كبيرة في التربية والأخلاق لدى شيخنا وأستاذنا محمد أمقران بن مالك رحمه الله...
تعلمه وشيوخه:
تلقى تعليمه الأول عند أبيه، وفي مسجد قريتهم المذكورة سالفا، ثم في زاوية سيدي يحي بن موسى في بني وغليس بولاية بجاية، ومن أساتذته الشهيد صالح إيزمران، ثم عند الشيخ يحي حمودي حفيد أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو مجلسها الإداري الأول، ثم تعلم بمعهد ابن باديس ثم جامع الزيتونة بتونس لمدة قليلة، وهو المدرس بمدارس الجمعية، فهو المجاهد بالولاية الثالثة، المكلف من طرف القائد الشهيد عميروش بإنشاء المدرسة المتنقلة، تبعا لظروف الحرب، فكانت النواة الأولى لمدرسة أشبال الثورة، وهو السجين في الزنزان: سطيف، برج بوعريريج، بني مسوس،... وفي المعتقلات: قصر ويلدن، تيفشون، عين وسارة...، وفيها بث العلم رفقة شيوخ معروفين: أحمد حطاب البليدي، محمد الشبوكي، محمد الصالح بن عتيق.
أين بث علمه؟:
أنشأ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بقلعة بني عباس بولاية بجاية أثناء الثورة، ويقول عن نفسه أثناء الثورة: «كلما طلب مني أن أدرس مع أهلي القرآن وعلومه واللغة، إلا وأخذت غرابيلي أرحل من مكان إلى مكان مع أهلي استجابة لضرورة المرحلة»، تنقل من قرية الجعافرة بولاية البرج، وقرى البويرة، معلما ومدرسا، تحت غطاء جمعية العلماء، وبعد الاستقلال اشتغل أستاذا بثانوية بسكيكدة ثم بثانوية بالعاصمة، وكان أيضا متطوعا في تقديم الدروس الليلية بالمدرسة والمسجد بالمرادية بالجزائر العاصمة، وهذا طبعا بعد الاستقلال بأعوام، كما ذكرت آنفا ولا ننسى الشيخ، تولى مهمة الإشراف على تصحيح منشورات المعهد التربوي الوطني...
عمله بولاية سطيف:
تم تعيينه من طرف الشيخ عبد الرحمن شيبان، وزير الشؤون الدينية والأوقاف، مفتشا للشؤون الدينية والأوقاف لولاية سطيف، من سنة 1981 إلى سنة 1985، حيث اشتغل معه العبد الضعيف من ديسمبر 1983 إلى أوت 1985، عامين وكان نعم المفتش، ونعم المدير ونعم الأب، لقد شعر الأئمة بارتياح كبير، أثناء عهدة الشيخ في الإدارة، حيث لا يجعلك تحس بأنه مسؤول عنك، يعامل الإداريين والأئمة بلطف، وحكمة بالغة، كل من يستقبله في مكتبه يصافحه بحرارة، ويقبله على خديه، ويسأله على أهله وأولاده وصحبته بالدرجة الأولى، ثم يسأله عن عمله في التعليم القرآني والإمامة، وكل من يدخل على الشيخ يرى فيه علامة الفرحة والبهجة في محياه، فإن الشيخ لا يغضب أحدا، لأنه علمته الحياة ودربته التجارب، ولأنه مر على كثير من الشيوخ، كل واحد أخذ منه نصيبا من العلم والتربية والأخلاق.
في أواخر سنة 1985:
حول إلى ولاية بجاية مفتشا للشؤون الدينية والأوقاف، مدة عام ونصف، ثم رجع إلى مدينة سطيف حيث تولى الإمامة بمسجد السبطين حي المعقودة، وأخيرا حول إلى مسجد أبي ذر الغفاري بمدينة سطيف، تولى الإمامة والدروس المسجدية، وعين أيضا أمين المجلس العلمي بمديرية الشؤون الدينية والأوقاف (أي رئيسا للجنة الفتوى بالولاية).
وما يعلم جنود ربك إلا هو:
في سنة 1991 وبالحي الجامعي بحي اتبنت بسطيف، قدم لنا محاضرة، يحكي لنا فيها عن معركة وقعت في جبل أمازة، الواقع ببلدية إلماين، دائرة الجعافرة بالبرج، الواقع على حدود ولاية بجاية، هناك كتيبة العقيد حميمي أوفضالة، من بلدية بني شبانة دائرة بني ورتلان، عددها 18 جنديا، خرجت إشاعة ودعاية كبيرة، أن الجبل المذكور محاط إحاطة كبيرة بمجاهدين وثوار وأسلحة وعتاد إلى غير ذلك، فجاء الأمر إلى القوات العسكرية الفرنسية، لإعطاء مدد كبير من العسكريين الفرنسيين المدججين بالأسلحة المتطورة، وبالشاحنات المعبئة بالجيوش الفرنسيين والدبابات، وعندما وصلوا إلى عين المكان، وجدوا الجبل فارغا ولا شيء إلا عدد ضئيل من الجنود لا يتعدى عددهم 18، منضويين تحت قيادة سي أحميمي، فغضبوا وقالوا: «إن هؤلاء الجنود لا نكلف أنفسنا أن نضربهم بالسلاح، ولابد من القبض عليهم باليد، وذبحهم وننهي أمرنا معهم»، لكن الله تعالى يأبى هذا ويرفضه تماما.... !
فالله سبحانه وتعالى في هذا الحال أنزل الله أمطارا غزيرة لم يعهدها الفرنسيون من قبل...، ثم غطى الله الجبل بالضباب، لا يستطيع أي أحد أن يرى أخاه بمقدار خطوة، فتسلل الجنود واحدا واحدا..، ونجا الجميع من خلال ذلك الضباب الذي أعمى الأبصار....، وقد علق الشيخ على هذه المعركة المثيرة قائلا: «يحسبون أن هؤلاء الجنود يقبضون باليد مثل العصافير، وينسون قوة الله القاهرة فوق العباد، وينسون جنود ربك...، إن جنود ربك الأمطار، الضباب، الظلام، الوحل، الذباب، البعوض، الرعد، الصواعق، الملائكة..، كل من في السموات والأرض ومن فيهن، فهم جنوده ولكن أكثر الناس لا يعلمون » - ومن ذلك اليوم فهمت من محاضرة الشيخ جنود الله المذكورين في الآية القرآنية من سورة المدثر.
معاملته مع أهله وأولاده:
ذكرت لي زوجته خالتي سعدية، أنه عاش معها 70 عاما، ولو مرة ضربها أو شتمها في حياته، كذلك أولاده، لم يضرب أي أحد منهم، ولم يعنف أي أحد منهم.
مع شيوخه:
دائما وأبدا وباستمرار، يذكر مشايخه بالخير ويثني عليهم، ويترحم عليهم، فهو من أوفى الأوفياء.
وفاته:
وفي يوم الأربعاء مساء، 01 رجب 1435هـ، الموافق لـ: 30 أفريل 2014م، انتقل إلى جوار ربه، ودفن بمقبرة قريته ببني ورتلان، وأوصى أن يصلي عليه الشيخ عبد الحفيظ بن زاوي، أحد أئمة سطيف، والمقرئ النجيب لكتاب الله، فرحم الله شيخنا الفاضل وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.