النُّخبُ الوَسيطةُ وخدمة التراث.. محمد صوالح ومرثية الموريسكي
بقلم: محمد بسكر-
النّخب الوسيطة كمصطلح يراد به الجيل الذي كوّنته إدارة المحتل الفرنسي لتأطير الأهالي، ولتجعل منه وسيطا بينها وبين الجزائريين، وهذه الفئة المثقفة جمعت بين الثقافة العربية والفرنسية، ومعظم أفرادها من تلامذة المدارس الشرعية الرّسمية أو مدارس ترشيح المعلمين.
أفلحت إدارة الاحتلال في جعل بعضهم ينساق وراء أفكارها، وينخرط في الدفاع عن لغتها وثقافتها، ويدعو إلى الاندماج معها، لقد اِنْصبّ اهتمام المثقفين من ذوي التكوين الفرنسي على التدريس وتأليف رسائل في اللّغة العربية وعلومها، ووضع دراسات عن المجتمع الجزائري، تاريخه وعاداته ولهجاته، إضافة إلى إحياء كتب التراث.
الدكتور محمد صوالح المنحدر من بلدة "فرندة" ولاية تيارت، من الفئة المثقفة التي أخذت حظّها من التكوين في المدرسة الفرنسية، وفي الغالب أنّه من تلامذة محمد بن أبي شنب، والمعلومات المتوفرة عنه لا تمثل إلّا شذرات قليلة استخلصها الدكتور أبو القاسم سعد الله من خلال تتبعه لآثاره في المجلة الإفريقية، فهو من أستاذة مدرسة ترشيح المعلمين، ومن الكتّاب الأساسيين الذين استعانت بهم الجمعية العلمية الفرنسية في إعداد الدراسات التي كانت تصدرها المجلة الإفريقية، ورتّبه الدكتور أبو القاسم في فئة الاندماجيين الماسونيين، أمثال إسماعيل حامد وأحمد بن بريهمات وابن التهامي، وحكم عليه حكما قاسيا مقارنة مع غيره، فقال:« إنّ كتاباته تدل على أنّه أقرب إلى الاستشراق منه إلى مؤلّف مسلم.. ومؤلفاته تصب في تعريف الفرنسيين بخواص وخصائص المجتمع من تقاليد ودين وعقائد».
كان الدكتور "محمد صوالح" يميل إلى العمل في إحياء التراث الجزائري والتعريف به بلسان المستعمر كأستاذه ابن أبي شنب، وألّف بعض الكتب في طرق التعليم، منها كتاب "مدرسي تعليمي" بالاشتراك مع فلوري، وآخر بعنوان "طريقة عملية لتعليم العربية الفصحى"، وله مؤلّف عن حياة إبراهيم بن سهل، ونشر عدّة دراسات في المجلة الإفريقية تخص المجتمع الأهلي والشعر الشعبي.
لم يشر الدكتور أبو القاسم إلى قصيدة هامة اعتنى بها الدكتور محمد صوالح، وهي مرثية شعرية أندلسية انتشلها من الضياع، تتكون من مائة وأربع وأربعين بيتا، ومطلعها:« سلامٌ كريمٌ دائمٌ متجددٌ... أخصُ به مولاي خير الخليفة »، قالها شاعر موريسكي مجهول، كَظَّ الغَيظُ صدره بعد أن تهاوت دويلات الأندلس وانفرط عقدها تِباعًا، فهي تمثل تراجيديا تلخص مأساة هاته المدن التي سقطت في أيدي المسيحيين في مرحلة الاسترجاع كما سمّاها المؤرّخون الإسبان، وأرسل قصيدته إلى شمال إفريقيا مع شخص يدعى "داود"، وفي ضمنها رسالة يطلب فيها مساعدة المسلمين وتخليصهم من معاناتهم، غير أنّ الإسبان اعتقلوا "داود" وأخذوا ما يحمله من وثائق، اختفت المرثية لتظهر ترجمة نثرية لها في كتاب " وقائع ثورة الموريسكيين " تأليف لويس مارمول كارباخال، ثمّ قام " فون شاك" بنقل نصّها النثري في كتابه " الفنّ العربي في إسبانيا وصقلية"، وقال:« ربما كانت آخر قصيدة شعرية عربية ولدت على أرض إسبانيا ». وسبق أن أدرج أحمد المقري القصيدة في كتابه" أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض"، وهو قريب عهد بالحوادث التي وقعت للموريسكيين، ونسبها لشاعر مجهول فقال:« وممّا كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني ».
لا يوجد ما يثبت أنّ محمد صوالح اطّلع على نصّها في كتاب أحمد المقري الذي طُبع جزؤه الأول سنة 1322هـ/1904م، والنّسخة الخطّية للقصيدة التي نتحدث عنها عثر عليها مطلع القرن العشرين ضمن مجموع من القصائد الأندلسية المخزّنة في المكتبة الوطنية التي كانت مليئة بالمخطوطات، ونشرها في المجلة الإفريقية سنة 1914م. نشر نصّها باللّغة العربية ثمّ ترجمها إلى اللغة الفرنسية وكتب عليها تعليقات، وذكر أنّها بعثت إلى السلطان بايزيد العثماني بقصد الاستغاثة، غير أنّه لم يهتد أيضا إلى قائلها، فكتب أسئلة متعلقة بها وأرسلها إلى الأدباء وبعض المستشرقين في تلمسان والجزائر وفاس والرباط وتونس، يطلب منهم العون في التَّعرُف على قائلها، وقد نشر أحد أصدقائه مجموع الأسئلة المرسلة ونتفًا من القصيدة مجاملة له في مجلة الزهراء التونسية، وطلب من القرّاء موافاته بمعلومات عن صاحبها غير أنّه لم ينل طائلا، وخمد الموضوع مع قيام الحرب العالمية الأولى واشتغال النّاس بآثارها، وبعد اثنين وعشرين سنة أرسل الأستاذ عبد الرحمن حجي المغربي القصيدة إلى مجلة الرسالة فنشرتها في عددها 131 بتاريخ 11شوال 1354 هـ الموافق 6 يناير 1936م، تحت عنوان (رثاء الأندلس لشاعر أندلسي مجهول)، وقدّم لها بقوله: « قصيدة بليغة من الأدب الأندلسي الرّائع، تصف أحسن وصف المأساة الأندلسية ».
أعاد الدكتور "الطاهر أحمد مكي" نشر القصيدة في كتابه "دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة"، وتحدّث عن تاريخها ودور محمد صوالح في بعثها للوجود، وقال بأنّه وقف على نسخة لها المخطوطة في مكتبة الجزائر، وهي نسخة ناقصة تتكون من ثماني ورقات، وقد تكون غير التي اعتمد عليها محمد صوالح، ومواضيعها تتضمّن خمسة محاور، الأول حول البكاء على سقوط رُندة بيد النصارى سنة 890هـ/1485م، والثاني في رثاء بلدة مالقة وما حولها والتي سقطت في يد الإسبان سنة 892 هـ/1487م، والثالث في رثاء بلدته مرية التي احتلت سنة 994هـ/1489م، والمحور الرابع استنفار المسلمين لنصرة إخوانهم في الأندلس، والمحور الأخير خصّه للدّعاء.
أشرتُ إلى هذه الشخصية العلمية المغمور تاريخها، كأنموذج للدلالة على أنّ هذه الفئة من النّخب الوسيطة، تتمتع بقدر كبير من الثقافة والتعليم، وإن استفاد المستعمر من قدراتها واستغلّها لصالحه، فهذا لا يعني أن نتعسف في الحكم عليها؛ لأنّ جزءا منها يرى أنّ تحقيق أي مكسب من الاحتلال، إنّما يتمثل في استغلال أدواته المتاحة، وخاصة وسائل النشر ومراكز التعليم، بغية إحياء التراث الجزائري والتعريف به.