في الذكرى الأولى لرحيل ملحن نشيد الإمام ابن باديس
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
مرت يوم 23 جويليه 2021 الذكرى السنوية الأولى لرحيل ملحن نشيد الإمام عبد الحميد بن باديس، المجاهد، الكاتب الإعلامي، الموسيقار المبدع، والوزير الأسبق الأستاذ الأمين بشيشي الذي التحق بجوار ربه يوم الخميس 23 جويلية 2020 عن عمر ناهز 93 سنة.
الراحل الأمين بشيشي من تلاميذ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين النجباء، ومن الشخصيات الجزائرية البارزة في التاريخ الثقافي الحديث للجزائر، فهو مثقف شامل ترك بصمات لا تمحى في المجال الفني، والثقافي، والإعلامي والتربوي، فهو نجل العلامة الشيخ المصلح بلقاسم بشيشي الاوجاني ،الذي قال عنه رائد النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس: «الشيخ بلقاسم الأوجاني، الإمام بمسجد سدراتة، وعميد الإصلاح بها وبضواحيها، وقد امتحن في سبيل الجمعية فأظهر ثباتا وصلابة واحتسابا جديرة بمثله».
أما الأستاذ الأمين بشيشي وزير الاتصال الاسبق، فقد كان وفيا لإرث والده ولذلك ارتبط اسمه باسم رئيس جمعية العلماء الإمام عبد الحميد بن باديس مؤلف نشيد جمعية العلماء الخالد «شعب الجزائر مسلم» فقد قام الراحل الأمين بشيشي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بوضع اللحن الموسيقي لهذا النشيد، وهو اللحن الذي مازال مصاحبا لأداء النشيد الذي يحفظه ويردده ملايين الأطفال الجزائريين إلى يومنا هذا.
ولد الفقيد الأمين بشيشي في سنة 1927 في سدراتة، ولاية سوق أهراس تلقى دراسته القرآنية وعلوم الفقه واللغة العربية على يد والده الإمام، ثم واصل تعليمه الابتدائي في المدرسة الفرنسية بسدراتة، وتحصل منها على شهادة التعليم الابتدائي سنة 1940، بعد حصوله على هذه الشهادة التي كان لها شأن كبير في ذلك الوقت، أخبر والده الشيخ بلقاسم برغبته في مواصلة الدراسة حتى يكون طبيباً ولكن والده الشيخ بلقاسم قال له: «لا أقبل أبداً أن تتكوَّن في مدرسةٍ تجعلك تستصغر بني قومك وتحتقر بني جلدتك». وامتثالا لوصية والده انتقل الطفل الأمين يشيشي إلى مدينة تبسة ولم يكُن يتجاوز الثالثة عشرة من العمر؛ حيث التحق بـ «مدرسة تهذيب البنين والبنات» التي كان يُديرها العلامة الشهيد الشيخ العربي التبسّي، رئيس لجنة الفتوى في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومدير معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، وبعد إكماله دراسته في تبسّة سنة 1942، توجه إلى جامع «الزيتونة» في تونس؛ غير أنه لم يواصل الدراسة التقليدية في جامع الزيتونة وفضل الالتحاق بالمعهد الرشيدي المتخصّص في الموسيقى التقليدية التونسية. واصبح من ألمع الموسيقيين عاد إلى الجزائر واشتغل بالتدريس، وفي سنة 1956 سافر من جديد إلى تونس والتحق بالعمل الإعلامي في جريدة «المقاومة الجزائرية» ثم انتقل بعدها للعمل في جريدة «المجاهد» لسان حال جبهة وجيش التحرير الوطني، ثم اشتغل في إذاعة «صوت الجزائر» إلى جنب الإذاعي الكبير المرحوم عيسى مسعودي إلى غاية عام 1960. ثم رجع بعد استرجاع الاستقلال إلى الجزائر عام 1962، عاد إلى ميدان التربية والتعليم وساهم في تلحين أناشيد باللغة العربية بعد أنْ لاحظ أنَّ التلاميذ كانوا يُردّدون -خلال فترة الاستراحة – أناشيد باللغة الفرنسية، وقد ذاعت شهرته في البرنامج التلفزيوني الشهير «الحديقة الساحرة» الذي كان من بين مؤسسيه مع قامات أدبية وتربوية شامخة على غرار الأستاذ المحامي عضو الهيئة الاستشارية العليا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الله عثامنية والشاعر الكبير الراحل الأستاذ محمد الأخضر السائحي، ووضع له لحنُ أنشودة «حديقتي» التي ردّدتها أجيالٌ مِن تلاميذ المدارس الجزائرية كما ساهم في كتابة أغانٍ عديدة للأطفال. كان أحد الأعضاء المؤسسين للأكاديمية العربية للموسيقى عام 1971، كما لحن شارة البداية والنهاية لمسلسل «الحريق» للمخرج المبدع الراحل مصطفى بديع والمأخوذ عن رواية الأديب الجزائري الكبير الراحل محمد ديب والذي تم إنتاجه عام 1974. وكان من أنجح المسلسلات الجزائرية الذي كانت العائلات الجزائرية في سبعينيات القرن الماضي تجتمع حولها لمتابعة احداثه بكل شوق وترقب، تولى بعدها إدارة المعهد الوطني للموسيقى، ثم ترأس بين عامي 1991 و1995 المديرية العامة للإذاعة الوطنية، وشغل قبل ذلك منصب مدير الانتاج في نفس المؤسسة، وعيّن في سنة 1995 وزيرا للاتصال في حكومة الرئيس اليمين زروال.وعن منصبه الوزاري صرح الأستاذ الأمين بشيشي للصحافة فيما بعد قائلا: «أعتقد أن ألعن منصب تولّيته في حياتي هو وزير الاتّصال وأعزّ منصب على قلبي هو الأستاذ، لقد أخطأت بقَبول منصب الاتّصال وتمنّيت لو عيّنت وزيرا للثقافة…».
في سنة 2007، استقال من منصب المحافظ السامي لتظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، بسبب خلافه مع وزيرة الثقافة آنذاك، خليدة تومي، ولأنه اعتبر أن الأهمية والقيمة المرصودة لهذه التظاهرة كانت أقل من الاهتمام الذي أولته حكومة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لتظاهرة خلافا لتظاهرة سنة الجزائر في فرنسا المنظمة بالعاصمة الفرنسية عام 2003 مما اعتبره الاستاذ الامين بشيشي استهانة بقدر العرب الذين قدموا الكثير للثورة الجزائرية، ترك الراحل الأستاذ الأمين بشيشي ألحانا موسيقية ذات مستوى راق وعالمي، من أشهرها لحن أنشودة «شعب الجزائر مسلم» للإمام المرحوم عبد الحميد بن باديس، ولحن نشيد «يا شهيد الوطن» للشاعر الفلسطيني الكبير الراحل إبراهيم طوقان، كما لحن سنة 1972 أغنية «أنا حرة في الجزائر» للفنانة الغينية (الجنوب إفريقية الأصل) الشهيرة مريم ماكيبا بمناسبة الاحتفالات بالعيد العاشر للاستقلال.
كما ترك إرثا فكريا خصبا على غرار كتابه: «أناشيد للوطن» (الصادر سنة 2007، عن المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار) الذي يعتبر مرجعا تاريخيا وموسيقيا للأناشيد الوطنية لما قبل وبعد الاستقلال. كما أصدر سنة 2015 كتابا ضم مراحل سيرته الذاتية بعنوان «مذكّرات الأمين بشيشي – الجدول والنهر»، وصدر له كذلك سنة 2017 بالاشتراك مع المجاهد والوزير الأسبق الراحل عبد الرحمن بن حميدة كتاب «تاريخ ملحمة نشيد قسما» عن منشورات ألفا/مؤسسة مفدي زكريا، ويروي القصة الكاملة لأطوار تلحين وتسجيل وإقرار قصيدة الشاعر العملاق الراحل مفدي زكريا «قسما» نشيدا للثورة الجزائرية ومن ثم اعتماده كنشيد وطني للجزائر المستقلة.
والاستاذ الأمين بشيشي من أكبر الخبراء في المجال الفني الجزائري، ولذلك صرح للصحافة قائلا: «أعتقد أن الساحة الفنّية (الجزائرية) تشهد طغيان الأغاني التجارية الخالية من القِيَّم الأخلاقية والتربوية، ثمّ إن سلطان الزمان في الوقت الحالي هو اللاّعب وليس المطرب كما كان زمان. أنا أذكر أنه في مونديال إسبانيا 1982 كانت أغاني المنتخب الوطني كلّها مبنية على مفردات من اللّغة العربية الفصحى، على غرار أغاني المطرب القدير الصادق جمعاوي، أمّا في مونديال جنوب إفريقيا 2010 فظهرت أغاني جديدة بكلمات هجينة لا علاقة لها بالثقافة الجزائرية، وهي بمثابة نكبة على لغتنا الشعبية لكونها مصطنعة وهابطة… وأنا أجزم بأن مؤامرة فرنسية كان لها دور كبير فيما يحصل من تدنّ لمستوى كلمات الأغاني، حيث بالضبط في 2003 التي شهدت سنة الجزائر في فرنسا شجّعت باريس المغنّين الشباب على إقحام مفردات أجنبية وأغاني فرنسية ليكونوا ضيوفا في الضفّة الأخرى من المتوسّط، وهنا غاب دور مسؤولي الإذاعات والتلفزيونات الجزائرية الذين كان الأحرى بهم منع بثّ مقاطع وأغان تفسد الذوق العام للجزائريين».