ذكريات الشيخ محمد الصالح رمضان عن شيخه عبد الحميد بن باديس
بقلم: محمد الأمين فضيل-
التحق الشيخ محمد الصالح رمضان بدروس الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة في شهر رجب 1353 هـ (أكتوبر 1934 م) برغبة منه وكان قد سبقه بسنة عمه الذي هو في مثل سنّه عبد الرحمن رمضان.
فاستقبله الشيخ عبد الحميد بن باديس كما هي عادته في استقبال الطلبة الجدد وسجل اسمه.
قال الشيخ رمضان: "كان الشيخ عبد الحميد بن باديس مُهابا، كل من وقف أمامه هابه سواء عرفه أم لم يعرفه وسواء كانت تلميذا عنده أم لا ".
فدرس شيخنا عليه ثلاث سنوات يقول عنها أنها كانت خيرا وبركة. ثم أتم تعليمه بالمطالعة النافعة وقد أفادته في ذلك مجلة الرسالة للزيات أيما إفادة. وقد بقي محافظا على تلك المجموعة من أعداد مجلة الرسالة إلى ما قبل عشر سنوات تقريبا وأهداها إلى قريب له كان يريد أن ينطلق في تعلم العربية ويسأل عن مراجع في ذلك، قال له الشيخ: "هذه مجلة الرسالة هي التي تعلمت منها فنون العربية فخذها لعلها تنفعك".
وذكر لي شيخنا محمد الصالح رمضان أن ابن باديس كان يعتز بكونه مُعلّما، وقال لهم ذات مرّة حين درّسهم "قطر الندى": "يُعجبني هذا المؤلف لأنه تظهر في كتابته روح المُعلّم".
وكانت دروسه جذابة يشد فيها انتباه الطلبة إليه. وكان يحرص في دروسه على ربطها بالواقع وخاصة منها دروس التفسير والحديث والعقيدة والفقه.
وكانت طريقة الشيخ في الدرس هي طريقة التسبيق. يُحضر الطلبة الموضوع قبل وقت الدرس، فيحفظون المتن ويقرأون الشرح، وإذا كانت هناك أمور لم تتضح يسألون عنها الشيخ، ومن فوائد هذه الطريقة أن الطلبة يكونون مهيئين للاستفادة من الشيخ.
وكان الشيخ ابن باديس ينهاهم عن قراءة الحواشي، ويقول أنها كتبت في عصور الانحطاط ويظهر فيها الجمود.
لكل هذا وغيره، كان كل من درس على الشيخ ابن باديس لا يستطيع أن يدرس على غيره ويرى أن مستوى الشيخ أعلى وأفضل... وقد كانت الدراسة على الشيخ أربع سنوات، فإذا أتم الطالب دراسته على ابن باديس يذهب إلى جامع الزيتونة ليواصل دراسته. وقد ذهب بعض من تتلمذ على الشيخ إلى الزيتونة ثم لم يلبث أن رجع لأنه رأى المستوى أدنى مما كان عليه الحال عند الشيخ، ومن هؤلاء: محمد الهادي السنوسي صاحب "شعراء الجزائر في العصر الحاضر"، والفضيل الورتلاني، والجيلالي الفارسي.
وللشيخ عبد الحميد بن باديس مساعدين يُكلّف كل واحد منهم بفن من الفنون، وفي زمن تتلمذ الشيخ رمضان كان المساعدون:
- الجيلالي الفارسي
- الفضيل الورتلاني
- بلقاسم الزغداني
- حمزة بوكوشة
- عبد المجيد حيرش
وكان الشيخ رمضان رحمه الله يثني كثيرا على الشيخ الجيلالي الفارسي رحمه الله ويراه من أحسن المعلمين الذين كانوا يساعدون ابن باديس وكان يدرسهم فن الصرف. وحين زرت الشيخ رمضان لآخر مرة قبل يومين من وفاته أثنى لي كثيرا على شيخه الجيلالي الفارسي وقال أن هذا الرجل ينبغي أن يُكرّم ويُكتب عنه ويُشاد بفضائله.
أما الشيخ الفضيل الورتلاني فكان يثني عليه أيضا لكنه كان يعتب عليه خروجه من موضوع الدرس (وكان يدرسهم ألفية ابن مالك) وكلامه الكثير في السياسة. وقد كثر منه هذا الأمر حتى اشتكى به شيخنا مع بعض زملائه إلى الشيخ ابن باديس، فنصحه الشيخ، فغضب والتزم حينا ثم رجع إلى عادته.
والذي فاتني أن أذكره أن الشيخ رمضان وزملاءه قالوا للشيخ ابن باديس: "نحن لسنا ضد السياسة، ولكننا ضد أن ينتقص من وقت الدرس. فإن كان الشيخ الفضيل يريد الكلام في مواضيع السياسة فليعقد لنا درسا خاصا بها وسنحضر".
وكانت للشيخ ابن باديس دروس عامة يحضرها الطلبة والأساتذة المساعدون وهي: متن الخزرجية في العروض، وكتاب الأمالي للقالي، ودرس التفسير، وشرح الموطأ... وهذان الأخيران يحضرهما أيضا عامة الناس وخاصة درس التفسير فكان يحضره أهل المدن والقرى المجاورة...
وكان الشيخ يوقظهم قبل الفجر ويسبقهم إلى الجامع الأخضر ليدرسهم مقدمة ابن خلدون ودروسا في الجغرافيا، وكان ذلك في سدة الجامع، والسدة هي الطابق العلوي من المسجد. وكان يختار هذا الوقت لأنه كان ممنوعا من تدريس مادتي التاريخ والجغرافيا. لذلك كان يقول لتلاميذه: "أنا أعلم أنكم شباب وبحاجة إلى النوم لكني اخترت هذا الوقت لأنه الوقت الذي تنام فيه الشياطين". يقصد رحمه الله جواسيس فرنسا وعيونها.
والشيء بالشيء يُذكر، لقد حدثني الشيخ عمار مطاطلة حفظه الله وهو أيضا من تلاميذ ابن باديس وقد كان إماما لمسجد الفرقان بحي شاطوناف بالأبيار في أعالي العاصمة الجزائرية، وكان ذلك في حج سنة 1420 هـ وقد سعدت بمرافقته وكنا في غرفة واحدة. حدثني أنه كان يوما في درس من دروس ابن باديس حاملا الكتاب المقرر فإذا به تأخذه سنة من النوم فيسقط الكتاب من يده، فرآه الشيخ ابن باديس وقال له: "أتظن أنك الوحيد الذي بحاجة إلى نوم، أنا ما نمت إلا سويعات" ثم قال: "كيف ينام من أمته في مثل هذا الذل والهوان، وكيف ينام من ....." إلى آخر ما قال من كلمات لم يتذكرها الشيخ ولكنه يتذكر أسلوب الشيخ المؤثر وطريقته التربوية النافعة.
وكان المقرر في دروس الفقه: متن ابن عاشر للسنة الأولى، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني للسنة الثانية، ومختصر خليل للسنتين الثالثة والرابعة. ولما رأى الشيخ ابن باديس صعوبة المختصر أبدله بأقرب المسالك للدردير، عندها ثار عليه كبار الطلبة قائلين: إن العمدة في الفتوى عندنا هو مختصر خليل ولا يمكن الخروج عنه. فأجابهم بأن الشيخ الدردير هو أحسن من شرح المختصر وكتابه هذا أقرب المسالك يتبع فيه منهج خليل ولكن بأسلوب أسهل غير معقد على الطلبة. فاقتنع الطلبة عند ذلك.
وبينما أنا أكتب هذه الخواطر والذكريات، وجدت وريقات كتبها الشيخ محمد الصالح رمضان عن منهج الشيخ ابن باديس في التعليم فأحببت أن أثبتها هنا لما فيها من الفوائد:
التعليم عند ابن باديس
طريقته فيه تجمع بين القديم والحديث. فالطريقة القديمة تعتمد على حفظ المتون وفهمها ودراسة الشروح المقررة لها. وأما الحديثة فتعتمد على الحوار مع التلاميذ في دراسة النصوص وتوجيه الأسئلة المفاجئة، وبذلك يجعل الطالب في انتباه ويقظة دائمين في الدرس، فإذا لاحظ الأستاذ غفلة أحد الطلاب أو سهو وجه له السؤال فيرتبك الطالب ويضطرب ولا يستطيع الجواب ويخجل من نفسه أمام زملائه فيقول له الشيخ: ابق معنا يا بني ولا تغفل عن الدرس.
ويتعرض الأستاذ للشواهد فيشرحها شرحا وافيا يستخرج منها العبر والحكم وينبه إلى محل الشاهد ويطبقه على القاعدة وبلفت الأنظار إلى ما فيه من النكت البلاغية وأسرار البيان واللغة العربية، فينير أفكار التلاميذ ويجعلهم يتذوقون جمال اللغة العربية وأساليبها التعبيرية، وكذلك درسه للأدب من الأمالي للقالي أو غيره. ويحرص الأستاذ على إفادة طلابه وعدم التهاون معهم في إفادتهم بأقصى ما يمكن.
الفنون التي يدرسها: هي النحو والصرف والبلاغة وغالبا ما يدرس هذه المواد على كتاب قواعد اللغة العربية المؤلف حديثا في مصرالذي وضعه كبار أساتذة الأدب واللغة العربية الجامعيين المقرر لبلتعليم الثانوي هنالك، وتتخلله تمارين تطبيقية مهمة تساعد على استيعاب الدرس، زيادة على الكتب المقررة كالآجرومية والقطر والألفية إلخ...
ويدرس الفقه من كتب عبد الواحد بن عاشر والرسالة لابن أبي زيد والشيخ خليل أو أقرب المسالك حسب مستويات الطلاب ودرجاتهم. ويحاول في دراسة الفقه ربط الفروع بأصولها ذاكرا مآخذها ومنشأ الخلاف فيها بين الفقهاء خاصة مع الطبقات العليا لطلابه. وربما يتوسع لهم ويتعمق في الاستدلال والاستنباط تاركا الطرق القديمة الجافة المعهودة في درس الفقه التي تعتمد حشو أذهان الطلاب بالمعلومات المتضاربة والخلافات المذهبية المتباينة دون أن يعلم الطالب سبب الخلاف وعلته ولا ربط الفروع بالأصول.
دراسة التوحيد: يتبع فيها طريقة السلف الصالح في الاعتماد على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بعيدا عن تعقيدات المتكلمين والتأثر بالمذاهب الفلسفية وله إملاءات لطلابه في ذلك بعنوان: "العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" نشرناها وعلقنا عليها بما يناسب طريقته في تعليم هذا الفن بلا تفلسف أو تكلف بما لا يعقل من نظريات يقال إنها منطقية وهي لا تخضع لمنطق أو عقل سليم.
وفي موضوع التوسل والوسيلة يرى أنه لا يجوز الاعتماد على غير ما يقوم به الإنسان من عمل صالح ينتفع به في دنياه ويتقرب به إلى الله في أخراه، ثم يسوق كدليل على ذلك حديث النفر الثلاثة أصحاب الغار المروي في الصحيحين وخلاصته أن هؤلاء الثلاثة كانوا نائمين في غار فانحدرت صخرة وسدت عليهم الغار فقالوا إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، وقال كل واحد في دعائه: اللهم إن كنت فعلت ما فعلت ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا فشيئا وخرجوا من الغار. وهكذا استجاب الله دعاءهم بصالح أعمالهم.
التاريخ والجغرافيا: كانت له إملاءات وملخصات فيهما لطلابه يتوسع في شرحها وتفهيمها لهم بما يتيسر له من وسائل إيضاح كاستعمال السبورة والخريطة مثلا. وللطلاب المتقدمين دراسة بعض الفصول من مقدمة ابن خلدون يشرحها ويحللها لهم بما يناسب، وقد يرد على ابن خلدون في بعض ما يذهب إليه من وجهة نظره ويدعم رأيه عادة بالاستدلال بالآيات القرآنية وما يصح من الأحاديث المتفق عليها، ويقول مع علمنا بتمكن ابن خلدون من علم الاجتماع والتاريخ وتضلعه فيهما ولكنه في بعض الأحيان يغفل عن حقائق ثابتة في القرآن والسنة النبوية مما يشعر بعدم تمكنه من استيعاب ما في القرآن والسنة، وسبحان من لا يغفل عن شيء.
وحصة الدرس منه لا تزيد غالبا عن نصف ساعة يستوعب فيها الدرس بلا حشو ولا ملل.
ويستغرق عمله اليومي في التدريس النهار وزلفا من الليل. يشرع في الدرس الأول عادة مباشرة بعد صلاة الصبح في الجامع الأخضر (ابتداء يدرس الفقه من كتاب الشيخ خليل أو أقرب المسالك)، ويستمر إلى منتصف النهار، ثم يستأنف التعليم بعد صلاة الظهر إلى العصر. وبعد صلاة العشاء يتفرغ لدرس التفسير لجميع الطلبة وعامة الناس، ويكتظ الجامع ودرجاته وسدته بالمقبلين على الدرس من جميع فئات الناس كل ليلة ما عدا يوم العطلة الأسبوعية، الطلبة في الصفوف الأولى وبقية الجماهير خلفهم.
وكان عدد الدروس التي يلقيها يوميا على مختلف طبقات طلابه عشرة دروس في اليوم وقد ترتفع في الربيع والصيف وفي رمضان إلى 13 درسا، بما فيها درس التفسير ليلا وبعض الدروس التي كان يلقيها قبل صلاة الفجر في التاريخ والجغرافيا لبعض الطبقات مرة في الأسبوع لأن هاتين المادتين محظورتان على الجزائريين فكان يختار لهما هذا الوقت من آخر الليل.
وفي شهر رمضان يزداد الشيخ نشاطا وحيوية عن ذي قبل فيضيف إلى دروسه المعتادة المألوفة درسا في شرح صحيح البخاري قبيل صلاة الظهر حرصا على إفادة جمهور المصلين والطلاب كل يوم ما عدا يوم العطلة الأسبوعية.
فدروسه العامة من غير الدروس الخاصة للطلبة هي زيادة عن المحاضرات في المناسبات: درس التفسير يوميا بعد صلاة العشاء، درس الحديث في رمضان قبيل الظهر من صحيح البخاري، درس للشبان والعمال في جمعية التربية والتعليم مساء الأحد من كل أسبوع، ودرس للنساء بالجامع الأخضر بعد العصر من يوم الجمعة.
وما بين العصر والمغرب والعشاء وقت يقضيه إما في مكتب إدارة الشهاب يحرر فيه المقالات الصحفية أو يطالع الصحف أو يستقبل فيه بعض الزوار، أو يمضيه في المكتب الرئاسي لجمعية العلماء في مدرسة التربية والتعليم الإسلامية بجنب إدارة الشهاب وهو المكان الذي يسكن فيه وينام بعد أن طلق زوجته، ويسهر فيه مع خواصه ليلة العطلة الأسبوعية. وقد يسافر في العطلة الأسبوعية أو العطلة الصيفية إلى العاصمة أو بعض جهات الوطن يتصل بإخوانه العلماء ويحتك بالشعب ويلقي الدروس والمحاضرات ويفك الخصومات.
درس التفسير: درس التفسير درس عام يقع يوميا بعد صلاة العشاء في الجامع الأخضر ما عدا يوم العطلة الأسبوعية. ويحضره الطلاب جميعا في الصفوف الأولى وبعدهم جمهور المصلين وعامة الناس وخاصتهم الذين أعجبوا بهذا الدرس وولعوا به.
يستهل الشيخ درس التفسير بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه: "أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها ..." ثم يأخذ في سرد الآيات التي يريد شرحها من حفظه، وبعد ذلك يشرع في التفسير بلغة عربية فصيحة وأسلوب واضح جلي تتجلى فيه المقاصد والعبر. وكثيرا ما يطبق الآيات على ما تنطبق عليه من أحوال المجتمعات الإسلامية والبشرية في عصرنا، ويجري المقارنات الملائمة بين الحاضر والماضي مع الإشارة إلى أسباب النزول إن كان هناك داع.
وهذه هي الطريقة السلفية التي وصف بها الإبراهيمي طريقة ابن باديس في التفسير (انظر شهاب الختم الصادر في جويلية 1938 م). ومثل التفسير درس الحديث كذلك.
ويقضي الشيخ بياض نهاره وزلفا من الليل في إلقاء الدروس على مختلف طبقات طلابه الأربع ويحاول أن لا تحرم طبقة من دروسه فلا أقل من درس أو درسين لكل طبقة. وبقية الدروس المسجدية المقررة لكل طبقة يقوم بها الأساتذة المساعدون له في فروع الجامع الأخضر وهي: سيدي قموش وسيدي بومعزة وسيدي فتح الله. ومن الأساتذة المساعدين الذين أدركتهم في أواسط الثلاثينات المشايخ: الفضيل الورتلاني، وعبد العالي الأخضري، وعبد المجيد حيرش، والجيلالي الفارسي، وبلقاسم الزغداني، وحمزة بوكوشة وآخرون دونهم لم تطل مدتهم مثل: عمر دردور ومحمد الملياني وعيسى الدراجي (يحياوي) ومحمد الدراجي (ميهوبي)، وآخر المساعدين من هذا الصنف أنا العبد الضعيف محمد الصالح رمضان كنت أدرس لطلبته ساعتين صباحا في سيدي بومعزة قبل الثامنة أي قبل التعليم بمدرسة التربية والتعليم التي كنت معلما بها مع زمرة من المعلمين كابن العابد الجلالي والجنان والغسيري والطيب الدراجي والصادق عبد الوهاب.
نظام العرفاء: وزيادة في الاحتياط في مسألة الإشراف على الطلبة والمحافظة على أخلاقهم وسيرتهم العامة وتوجيههم في تربيتهم وتعليمهم أنشأ الشيخ ابن باديس نظام العرفاء الذي كان معروفا في التربية الإسلامية. فقسم طلبته حسب المناطق التي جاءوا منها، واختار طالبا من كل جماعة جعله عريفا على طلبة منطقته يضبط أمورهم ويراقب سلوكهم.
ويجتمع مجلس العرفاء مرة في الأسبوع مع الشيخ ليستعرضوا أحوال الطلبة. فيقدم عريف كل منطقة تقريرا عن طلبة منطقته، فإذا كان هنالك ما يخالف حسن السيرة في بعض الطلبة ينظر المجلس في الأمر ويتخذ ما يراه صالحا من الـتأديب الضروري. وقد نشر الشيخ في الشهاب عددا خاصا بالطلبة في جويلية 1934 مزدانا بصور الأساتذة المعينين والعرفاء وطبقات الطلاب وقوائم بأسماء الطلبة وبلدانهم وعمالاتهم ومالية ومصاريف الدخل والخرج لذلك العام وأسماء بعض كبار المحسنين والأطباء المتبرعين بعلاج الطلبة. ننقل من الشهاب أسماء العرفاء لتلك السنة وهم: الفضيل الورتلاني على طلبة القبائل، ومحمد الدراجي على بريكة وأولاد دراج، ومحمد الملياني على طلبة عمالتي الجزائر ووهران، وعلي البجاوي على الطلبة الصحراويين، وبلقاسم الزغداني على طلبة عبن البيضاء وخنشلة، وعمر دردور على الطلبة الأوراسيين، وإسماعيل حيدوسي على طلبة باتنة وعين التوتة، والمسعود الريغي على طلبة البرج وسطيف، والعربي كبيش على طلبة الميلية وجيجل، والبشير كافي على الحروش وسكيكدة وعزابة، وصالح اليدري على طلبة ميلة ونواحيها.
برنامج الطبقات الأربع: كان ولا شك يُحضر في بداية السنة الدراسية من طرق الشيخ ابن باديس ومساعديه الرئيسيين فيعينون لكل طبقة المواد الدراسية اللازمة لها والكتب المقررة لها والمعلمين لكل طبقة والأماكن التي يدرسون فيها والتوقيت لكل مادة، إلخ... بحيث يعرف كل طالب برنامجه الأسبوعي موزعا على الأماكن والأوقات ويعرف مواده الدراسية والكتب المعينة لها وأساتذة كل مادة بما فيهم الشيخ ابن باديس والجامع الأخضر وأوقات كل مادة دراسية.
كما يعرف كل أستاذ برنامجه الأسبوعي وعمله اليوميمن حيث الطبقات التي يدرس لها وكتبها وأوقاتها وأماكنها.
أما الشيخ ابن باديس فالمكان الذي يدرس فيه طول النهار وزلفا من الليل هو الجامع الأخضر (أحد المساجد الرسمية الجامعة في المدينة) وله رخصة التدريس فيه ولا يدرس فيه غيره.
وأما المساعدون فيدرسون في مساجد حرة للصلوات الخمس منبثة في أحياء المدينة القديمة حول رحبة الصوف لا تحتاج إلى رخصة من الدولة بل يكتفى بالإذن من أصحاب هذه المساجد وكلها قريبة من الجامع الأخضر. وهي مسجد سيدي قموش الخاص بعائلة ابن باديس، ومسجد سيدي بومعزة الخاص بعائلة ابن مغسولة، ومسجد سيدي فتح الله ومسجد سيدي ميمون ولا أدري لمن هما ؟
وكما يعرف الطلاب مواد دراستهم وكتبها وأوقاتها وأماكنها ومعلميها، يعرفون كذلك أماكن سكناهم الموزعة في المدينة والمخابز التي يتناولون منها خبزهم اليومي والمطاعم التي يطعمون فيها. ويعرف كل طالب العريف المكلف بطلاب منطقته وهو المسؤول عنهم.
وهناك هيئة من أعضاء جمعية التربية والتعليم وأعيان المصلحين تتكلف بشؤون الطلبة من الناحية المادية وتسمى لجنة الطلبة أو لجنة صندوق الطلبة تجمع الزكوات والتبرعات والاشتراكات وتنفق منها على المحتاجين منهم لتغذيتهم وإيوائهم وما يتصل بذلك من كراء المأوى ومرافق السكن من ماء وكهرباء وإصلاح وترميم ما فسد أو تعطل من ذلك، وتضبط الدخل والخرج لصندوق الطلبة وتنشره مفصلا في الصحف حتى يتأكد المتبرعون للصندوق ومن يقدمون زكواتهم أو اشتراكاتهم له أن كل فلس يقدم يصرف في الأغراض المخصصة لذلك.
(انتهى ما نقلته من وريقات كتبها الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله عن منهج التعليم عند ابن باديس ومتعلقات ذلك).
مواقف للشيخ رمضان مع شيخه ابن باديس
1-كان الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله يُعير كتبه لتلاميذه، لكنه كان يشترط عليهم في ذلك شروطا منها:
-عدم العطاس في الكتاب
- عدم بل الأوراق بالريق عند تقليبها
- فتح الكتاب برفق حتى لا تنفصل أوراقه
- وكان إذا شم رائحة الدخان في الكتاب بعد إعارته لأحد تلاميذه، لا يُعيره كتابا بعد ذلك أبدا
- بعد إعادة الكتاب يسأل الشيخ تلميذه عن رأيه فيه وعن ما استفاده منه
وذات مرة طلب الشيخ محمد الصالح رمضان من شيخه أن يُعيره كتاب "حاضر العالم الإسلامي" لمستشرق أمريكي يُدعى لوثروب ستودارد وعليه تعليقات الأستاذ شكيب أرسلان. فسأله الشيخ ابن باديس لم تريد قراءة هذا الكتاب بالذات؟ فأجاب: لأنني أسمع عن شكيب وأراك تنشر مقالات له في الشهاب فأحببت أن أقرأ ما يكتب. قال الشيخ ابن باديس: شكيب أرسلان دائرة معارف، وأنت يا بني في بداية الطلب فقراءة كتبه تشتت لك ذهنك. فأنا أنصحك بعدم قراءة كتابه الآن....
2- وذات مرة بعد درس التفسير، وكان باعة الكتب العربية والمجلات والجرائد العربية يتقصدون الجامع الأخضر حين درس التفسير للبيع لأنهم يعلمون أن عامة قراء العربية يحضرون هذا الدرس. وكان الشيخ من عادته أن يدخل المقصورة بعد الدرس ولا يخرج حتى ينصرف الناس، وفي يوم من الأيام خالف الشيخ عادته وخرج مع الناس، وكان شيخنا رمضان يشتري عددا من جريدة الأهرام المصرية ولمح حينها الشيخ خارجا من المسجد.
وفي الغد إذا بعريف المنطقة يقول له: إن الشيخ ابن باديس يطلبك... فتوجس الشيخ رمضان خيفة وقال للعريف: أستحلفك بالله أن تخبرني بالسبب، قال العريف: أقسم لك بالله أني لا أعلم شيئا ولم تُذكر في مجالس العرفاء بسوء أبدا.....
وعندما لقي الشيخ ابن باديس سأله: لماذا أتيت إلى قسنطينة؟
قال: أتيت لطلب العلم
قال: من المسؤول عنك هنا؟ قال: العريف، قال: وقبل العريف، قال: أنت
قال الشيخ: أنا المسؤول عنك أمام والديك وأمام باقي الناس، وقد علمتُ أنك تشتغل بأمور أخرى غير الدراسة
قال الشيخ رمضان: أتحدى كل من يتهمني بأني أشتغل بأمور أخرى غير الدراسة....
قال الشيخ: أنا الشاهد
قال رمضان: إذن لم يبق لي كلام بما أنك أنت الشاهد وأنت الحكم، فاحكم بما تراه مناسبا.
قال الشيخ ابن باديس: أنت تشتغل بالسياسة
قال: كيف استنتجت ذلك؟
قال: رأيتك أمس اشتريت الجريدة
قال لي الشيخ رمضان: لولا هيبة الشيخ لضحكتُ ثم قلت: قراءة الجريدة تعني الاشتغال بالسياسة...
قال: نعم هذه هي البداية وهذه الخطوة الأولى تتبعها خطوات. وذلك المبلغ الذي اشتريت به الجريدة لو زدت عليه مبلغا ثانيا وثالثا لاشتريت كتابا ينفعك في دراستك عوضا عن الجريدة التي تُقرأ في حينها وترمى...
قال الشخ رمضان: أنا اشتريت الجريدة لأن الطلبة كانوا يتناقلون أخبارا عن مظاهرات للطلبة المصريين في القاهرة تدخلت فيها الشرطة ومات عدد منهم، وكان كل واحد يروي قصة تختلف عن الآخر فأحببت أن أتأكد وآخذ الحقيقة من المصدر، ونحن طلبة يهمنا ما يقع لإخواننا في باقي دول العالم الإسلامي.
قال الشيخ: هذا يدل على حس سياسي
قال رمضان: أنا أعاهدك أن لا أشتغل بالسياسة ما حييت
قال الشيخ: أنا لم أطلب منك هذا أنا أقول لا تشتغل بالسياسة الآن ما دمت في دراستك وبعد ذلك أنت حر.
3- كانت هناك مجلة عنوانها "الرابطة العربية" يصدرها أمين سعيد، ثم ظهرت مجلة أخرى لعل اسمها "الرابطة الإسلامية" أو "الدعوة الإسلامية" أو شيئا يشبه هذا (النسيان مني أنا العبد الضعيف لأني كنت نادرا ما أسجل ما يقوله لي الشيخ وأعتمد على ذاكرتي فضاعت لي معلومات كثيرة للأسف)، قال لي الشيخ رمضان فسألت الشيخ ابن باديس: هذه مجلة تدعو إلى الوحدة العربية وتلك أخرى تدعو إلى الوحدة الإسلامية، فأي الفكرتين أقوم وأهدى سبيلا؟
فأجابه الشيخ بجواب مطول خلاصته أنه لا يمكن أن تقوم الوحدة الإسلامية إلا بعد قيام الوحدة العربية، فالعرب هم قلب العالم الإسلامي وهم الذين نزل القرآن بلغتهم ولا يمكن أن تقول للمسلمين قائمة إذا بقي العرب في ذلهم وانحطاطهم، فالوحدة العربية طريق للوحدة الإسلامية. ويستشهد الشيخ ابن باديس بنصوص من الكتاب والسنة في هذا المجال ومنها قوله صلى الله عليه وسلم "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها".
4- كان شيخنا محمد الصالح رمضان يكره التقبيل الذي جرت به العادة عندنا، وقد أخذ ذلك عن شيخه العلامة عبد الحميد بن باديس. وكان يقول: إن ابن باديس كان يكره التقبيل ويقول السُنّة المصافحة. وكنت أعلم كرهه للتقبيل فلم أكن أفعل ذلك، وكنت أرى تضايقه من التقبيل في الأعياد وغيرها من المناسبات حين يأتيه الجيران والأقارب....
وذات مرة زرته أنا وأخي وصديقي خالد مكي رحمه الله (ابن المجاهد المسلم الأستاذ الشاذلي مكي رحمه الله). أما أنا فصافحته كما هي عادتي، وأما خالد فقبله. فقال له الشيخ: يا ابني إن ابن باديس كان يقول لنا السنة المصافحة فلا داعي لهذا التقبيل... فأجابه خالد: لكن أبي قبل الشيخ ابن باديس ... فضحك الشيخ رمضان قائلا له: أبوك لا أحد مثله... (يُشير خالد إلى المحاضرة التي ألقاها الشيخ ابن باديس في تونس ولما أكملها قبله على رأسه الأستاذ الشاذلي مكي الذي كان طالبا آنذاك. انظر آثار ابن باديس (4/119).
وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس:
يتذكر شيخنا محمد الصالح رمضان جيدا وفاة شيخه عبد الحميد بن باديس، وقد كانت في إجازة الربيع ولذلك لم يسمع بالوفاة طلبة الآفاق...
توفي الشيخ ابن باديس رحمه الله بعد مرض لم يطُل به، إذ أخذه أبوه وإخوته إلى منزل العائلة ليقوموا بعلاجه على أحسن وجه.
وفي يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول 1359 هـ (16 أفريل 1940 م) وقت القيلولة كان الشيخ رمضان متكئا، فسمع البكاء فذهب إلى بيت الشيخ فوجده مُسجى والناس يدخلون صفوفا لرؤيته.
ثم رأى أعضاء جمعية التربية والتعليم التي كان يرأسها الشيخ ابن باديس أن يقوم على تجهيزه تلاميذه الذين كانوا أقرب الناس إليه في حياته.
فقام بتغسيله الغسيري وآخر لا يذكره الشيخ رمضان، وقام بالتكفين محمد الإبراهيمي أحد أقرباء الشيخ البشير الإبراهيمي وأعانه في ذلك الشيخ محمد الصالح رمضان.
وحمل الجنازة تلاميذه يتناوبون عليها، وسُدّت طرق قسنطينة كلها وتوقفت حركة السير ، ولم يتيسر للكثير الحضور لأنه زمن حرب والتتقل يقتضي رخصة.
وصلى على الجنازة الشيخ مبارك الميلي وأبنه الشيخ العربي التبسي رحم الله الجميع.
بعد وفاة الشيخ نقل أخوه المحامي الزبير بن باديس كل كتب الشيخ إلى مقر الميتم الذي كان يُديره في حي سيدي مبروك خوفا عليها من الضربات الجوية إبان الحرب العالمية (وهي الكتب التي كانت في بيته، والتي كانت في مقصورة الجامع الأخضر، والتي كانت في إدارة الشهاب، والتي كانت في مدرسة التربية والتعليم) . وكانت وصية الشيخ أن تكون مكتبته نواة لمكتبة عمومية يستفيد منها عامة الناس.
يقول الشيخ محمد الصالح رمضان: وبعد مدة وجدنا بعض كتب ابن باديس تباع في الأسواق!!!
وقد اشترى نسخة الشيخ ابن باديس من كتاب "أحكام القرآن" لابن العربي المالكي، والشيخ ابن باديس رحمه الله له عناية خاصة بكتب ابن العربي وهو أول من طبع كتابه "العواصم من القواصم".