جرثومة الخير
بقلم: محمد الهادي الحسيني-
لم أقرأ فيما قرأت، ولم أسمع فيما سمعت أن الجراثيم توصف بالخير أو بالشر، أو تضاف إليهما، حتى قرأت كتابا قيما عن أحد علماء الجزائر، بل المسلمين، وصف بأنه “هو جرثومة الخير الأول”، في منطقة كاتب ذلك الكتاب، و”هو مؤسس كل أسس من مدارس أميرية” في تلك المنطقة في تاريخ معلوم.
هذا العالم الجليل يؤكد بنبوغه وتفوقه مقولة الإمام ابن باديس: “إن الطينة الجزائرية طينة علم وذكاء إذا واتتها الظروف”. (الشهاب، فبراير 1931. ص18).
خطت الأقدار في صحيفة هذا العالم أن يفتح عينيه على الدنيا بعيدا عن وطنه وقومه في عام 1852، حيث هاجر والده إلى خارج الجزائر، بعدما ابتليت بالطاعون الفرنسي، وانتهاء جهاد الأمير عبد القادر.. وقد استقر في دمشق حتى أتاه اليقين.
إنه طاهر بن صالح بن أحمد الوغليسي، من نواحي بجاية التي كانت تصدّر العلماء، وإلى بني وغليس هذه ينسب الإمام عبد الرحمن الوغليسي (ت 1384م) صاحب “الوغليسيّة” في الفقه المالكي. عندما أخبر الشيخ صالح بميلاد ابنه سماه “طاهرا”، ودعا له قائلا: “طهّره الله من رجس دنياه، وبارك في عمره، وارزقه العلم والعمل به”. وقد أجيبت دعوة العبد الصالح، فكان ابنه مثالا في العلم الواسع، وقدوة في العمل الصالح، وأسوة لمن يريد أن يعيش عزيز النفس، محفوظ الكرامة.. ذا همة إلى درجة وصفه بأنه “محيي الهمم”.
أقبل الفتى على العلم، فعاش ما عاش للعلم وحده، طالبا وناشرا له، حتى إنه لم يتخذ صاحبة حتى لا تشغله حقوقها عن العلم، وعرف مجموعة من اللغات.. منها العربية، والعبرية، والسريانية، والحبشية، والفرنسية، إضافة على اللسان الأمازيغي.
ينطبق على الشيخ طاهر الجزائري قول الشاعر:
له همم لا منتهى لكبارها
وهمّته الصغرى أجل من البدر.
إن هذه الهمة هي التي عصمت الشيخ طاهرا من أن يركن لذي سلطان، أو ذي نشب حتى في ساعة العسرة ومن أكره الناس لديه المتملقون والمتزلفون لأصحاب السلطة أو لأرباب المال، والعالم أسمى منهم جميعا. وقد أكسبه ذلك محبة الأكثرية ممن عرفوه.. وكان يعتبر رضا الناس جميعا عن شخص ما نفاقا: لأن “المصلح لا يخلو من أعداء وأصحاب”.
ترك الشيخ طاهر تلاميذ نبغاء، وترك تراثا هاما، بعضه طبع وبعضه مايزال مخطوطا.
عارض سياسة “التتريك” وكان من دعاة “الجامعة الإسلامية”، وإصلاح الدولة العثمانية.. من أهم ما أنجزه إنشاء دار الكتب الظاهرية في دمشق، ودار الكتب الخالدية في القدس.
وكان من أوائل أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وقد أشيع أنه انخدع لدعاة الماسونية، ولكنه تبين بعد أمة الرشدَ من الغيّ، فابتعد عنهم، ومن جميل أقواله “أن الانتباه للنقص هو نوع من الكمال”.
دعانا إلى كتابة هذه الكلمة عن الشيخ طاهر الجزائري مرور قرن على وفاته، حيث أتاه اليقين في دمشق في 5/1/1920. رحمه الله الشيخ طاهرا وجميع العلماء العاملين.