
العوامل التي ساعدت على تأسيس جمعية العلماء
بقلم: د. علي الصلابي-
تضافرت ظروف عديدة وعوامل كثيرة ساهمت جميعها في إظهار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى الوجود نذكر منها:
1 ـ الظروف التي نشأت فيها الجمعية:
مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر واحتفال الفرنسيين بذلك استفزازاً للأمة، وإظهاراً للروح الصليبية الحاقدة التي يضمرونها للإسلام والمسلمين، كانت الاحتفالات سنة 1349هـ 1930م، فأقامت فرنسا مهرجانات بمئوية استعمارها للجزائر واستفزت هذه الاحتفالات ضمير الأمة وفجرت فيها روح الإصلاح وطاقات المقاومة، ففي تلك الاحتفالات خطب أحد كبار الساسة الاستعماريين الفرنسيين فقال: إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم وأن نقتلع العربية من ألسنتهم.
وخطب سياسي آخر فقال: لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فلقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار.
كما خطب أحد كرادلة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ـ بهذه المهرجانات ـ فقال: إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر وإن عهد الصليب قد بدأ وإنه سيستمر إلى الأبد، وإن علينا أن نجعل أرض الجزائر مهداً لدولة مسيحية مضاءة أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل.
وفي مواجهة هذا الفجور الاستعماري الصليبي، تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931م سالكة طريق المنهاج الإسلامي في الإصلاح والعمل المؤسسي المنظم، وتضاعفت الجهود في تأسيس المدارس وإلقاء الخطب والدروس في تكوين الجيل العربي المسلم والوطني العامل على استعادة الجزائر إلى حضن العروبة والإسلام والاستقلال.
2 ـ حاجة الشعب لهذه الجمعية:
إن وجود الجمعيات والاتحادات والنوادي المسيحية وغير المسيحية كان معروفاً في ذلك الوقت، مما دفع بالعلماء المسلمين إلى إنشاء جمعية إسلامية تحدياً للجمعيات غير الإسلامية، حتى تنظم التعليم الحر وتقيم الشعائر الإسلامية وبعض الاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى تلك الجمعيات الدينية والثقافية، فقد كانت هناك بعض التنظيمات والأحزاب السياسية الأوروبية في الجزائر قد جذبت بعض الجزائريين للانخراط في تنظيماتها، ثم نشأت بعض الأحزاب السياسية الجزائرية لتحقيق بعض المطالب السياسية الاجتماعية.
وكل ذلك ساهم في دفع الشيخ عبد الحميد بن باديس وإخوانه إلى تكوين الجمعية وقفاً للنزيف والتشتت وتقويماً للمطالب والمشروعات الاجتماعية والسياسية.
3 ـ الثورة التعليمية:
لقد كان لحركة ابن باديس التربوية التعليمية التي شرع فيها منذ تفرغه للتدريس بقسنطينة سنة 1913م، إثر تخرجه من جامع الزيتونة ـ كما سلفت الإشارة إلى ذلك ـ أثر عظيم في طلابه المتوافدين على رحاب جامع الأخضر بقسنطينة من كل أرجاء الجزائر.. أثر في العقول والقلوب والسلوك لم تشهده البيئة الجزائرية من قبل، مما جعل الإمام محمد البشير الإبراهيمي نائب ابن باديس في حياته وخليفته من بعده يقرر في مقدمة كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء المنعقد بنادي الترقي في العاصمة في سبتمبر 1935م ؛ أن من العوامل الأساسية في نشوء الحركة الإصلاحية في الجزائر ؛ الثورة التعليمية التي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحية، والتربية الصحيحة التي كان يأخذ بها تلاميذه، والتعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم الطاهرة النقية والإعداد البعيد المدى الذي يغذي به أرواحهم الوثابة الفتية، فما كادت تنقضي مدة حتى كان الفوج الأول من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من أفكار صحيحة، وعقول نيرة، ونفوس طامحة، وعزائم صادقة، وألسن صقيلة، وأقلام كاتبة، تلك الكتائب الأولى من تلاميذ ابن باديس هي طلائع العهد الجديد الزاهر، وقد سمع الناس ـ لأول مرة في الجزائر ـ من بعض تلك البلابل شعراً يؤدي معنى الشعر كاملاً، وقرؤوا كتابة تؤدي معنى الكتابة.
وتلاميذ الشيخ وإخوانه من العلماء ساهموا إلى حد بعيد في تأسيس جمعية العلماء.
ثم زحفت من أولئك التلاميذ في ذلك العهد أيضاً كتيبة جرارة سلاحها الفكرة الحية الصحيحة إلى جامع الزيتونة، لتكمل معلوماتها ولتبني على تلك الفكرة الحية وعلى ذلك الأساس العلمي الصحيح بناء علمياً محكماً، ورجعت تلك الطائفة إلى الجزائر فكان من مجموعها وممن تخرج بعدها من تلاميذ الأستاذ ومن تلاميذ جامع الزيتونة جنود الإصلاح وقادته وألويته المرفرفة وأسلحته النافذة.
نعلم إن التعليم الباديسي كان ثورة شاملة تعدّى أثرها تلاميذ ابن باديس ومدينة قسنطينة إلى قطاعات كثيرة في شتى نواحي الوطن وشتى المجالات ومن ذلك:
ـ إنشاء جريدة المنتقد والشهاب وغيرهما منذ عام 1925م كما أسلفنا.
ـ إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، وما تبع ذلك من تأسيس مساجد حرة للوعظ والإرشاد للرجال والنساء، ومدارس حرة للتربية والتعليم للبنين والبنات، وأندية للتثقيف والتوجيه للشباب.
ـ اهتمام الزوايا برفع مستوى التعليم فيها، بجلب الأساتذة الأكفاء وتحسين البرامج وطريقة التعليم.
ـ اهتمام السياسيين بالتعليم وعنايتهم به بعد أن كانوا يرون أن الاشتغال بالتعليم إنما يأتي بعد الاستقلال.
ـ اهتمام المدارس الحكومية التي تشرف عليها السلطة الاستعمارية بالثقافة العربية الإسلامية، حتى لا تفقد مكانتها الثقافية والإدارية في أوساط الشعب الجزائري.
وبكل هذا يتضح خطأ من يظنون ويكتبون أن حركة الإصلاح إنما ابتدأت بتأسيس جمعية العلماء بتاريخ 5 ماي 1931م، بل تأسيس جمعية العلماء كان إرساء لأركان النهضة وازدهاراً لثمارها.
4 ـ التغيير الفكري:
فقد تأثر علماء الجزائر بالحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي منذ محمد ابن عبد الوهاب، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي وغيرهم من زعماء الإرشاد والإصلاح في الشرق الإسلامي وغربه، فكانت لمدارس الإصلاح تأثير مباشر في زعماء جمعية علماء المسلمين، كما أن التغيير الفكري الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى حين سقطت أقنعة المشعوذين، الذين أماتوا على الأمة دينها بخرافاتهم وبدعهم وتسلطهم على الأرواح والأبدان باسم الدين.