ماذا يمثل قرار 8 مارس 1938 الفرنسي في نظر ابن باديس؟
بقلم: محمد سريـج –
قامت فرنسا بسياسة منظمة للقضاء على قوميتنا، بمحاربتها اللغة العربية، لغة ثقافتنا، وعوائدنا، وتاريخنا، وديننا؛ فالمدارس التي كانت تعلّم هذه اللغة وضعت تحت إجراءات شديدة، وحتى الكتاتيب التي يُحَفَّظُ فيها القرآن للناشئة لم تنج من تلك الإجراءات، فعلى سبيل المثال لا الحصر في 24/12/1904 أصدر الحاكم العام قرارا ينص على عدم السماح لأي معلم جزائري أن يفتح مدرسة لتعليم العربية دون الحصول على رخصة من عامل العمالة أو الضباط العسكريين في المناطق العسكرية بشروط أهمها: ألا يدرس تاريخ الجزائر وجغرافيتها والعالم العربي الإسلامي، وألا يشرح آيات القرآن التي تتحدث عن الجهاد، وأن يخضع ويخلص للإدارة الفرنسية، ولكم أن تتصوروا مدى قساوة هذه الشروط على واقع التعليم آنذاك…يضاف إلى هذا الهجمة الشرسة من لدن المزارعين الفرنسيين بتاريخ 21/03/1908م يطالبون بإلغاء التعليم الابتدائي بالنسبة للجزائريين لجلب اليد العاملة الرخيصة، وفرصة توطين المهجرين الأوروبيبن، وعندما تبين لفرنسا عجزها التام عن قتل اللغة العربية بإصدار القوانين الاستثنائية الجائرة، وبمطاردة معلميها، وغلق مدارسها، ومصادرة صحافتها-أصدر وزير المعارف الفرنسي “شوتان” قرارا يوم 8 مارس سنة 1938 الذي اعتبر اللغة العربية في الجزائر لغة أجنبية، ويمنع تعليمها في المدارس، غير مبالية بشيء، ولا حتى بالمواثيق الدولية التي توجب المحافظة على لغة البلاد، وعلى عوائدها، وأخلاقها ومقوماتها..وفي يوم 22/07/1945 صدر قرار يفرض على كل معلم بالعربية أن يكون متقنا للغة الفرنسية، إذا أراد أن يوظف واعتبر ذلك عائقا في وجه المعلمين الذين لا يتقنون الفرنسية إطلاقا في أغلبهم.
حتى دستور 20 سبتمبر 1947م، الذي نص على ترسيم اللغة العربية لم يطبق إطلاقا، وبقي حبرا على ورق، وما نداء مفتشي التعليم الابتدائي الفرنسي الصادر بتاريخ 05/03/1954م الذي طالبوا من خلاله بإلغاء إجبارية تعليم العربية في المرحلة الابتدائية حتى لا تعرب الجزائر، وكأن الجزائر أصبحت فرنسية مسيحية لاتينية أوربية..
قرار 8 مارس 1938 المشؤوم :
إن قرار 8 مارس 1938، هو القرار الجائر الذي أصدرته وزارة الداخلية الفرنسية الذي حمل المرسوم اسمه، والهدف منه تضييق دائرة التعليم العربي الحر، ومنع العلماء من التدريس حيث نص القرار على “إغلاق المدارس العربية الحرة التي لا تملك رخصة العمل، ومنع كل معلم تابع للجمعية من مزاولة التعليم في المدارس المرخصة إلا بعد أن يتحصل على رخصة تعليم تقدمها له السلطات المعنية (1)”.والواقع أنها شددت من الإجراءات التعسفية لتقف حاجزا حقيقيا أمام المدارس التي لم تكن لها رخص تسمح لها بمزاولة نشاطها، لأن الإدارة الفرنسية رفضت أن تمنح لها الرخص رغم العديد من الطلبات التي سبق وأن تقدمت بها، ومن بين العراقيل التي وضعتها الإدارة الفرنسية في وجه المعلمين المنتسبين إلى جمعية العلماء، أنها تشترط على كل من يتقدم بطلب للحصول على رخصة الموافقة لممارسة التعليم إتقانه اللغة الفرنسية وهو الشرط الذي يفتقر إليه معظم معلمي المدارس التابعين لأعضاء الحركة الإصلاحية، ويعد شرطا تعجيزيا يفضي في النهاية إلى المنع (2).
كيف واجه ابن باديس هذا القرار؟
الأستاذ ابن باديس باسم “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” يتحدى ويتصدى لمقاومة هذا القرار الذي من طبيعته مقاومة التعليم العربي ومعلمي العربية، يقول الإمام في هذا الشأن وبعد مضي شهر فقط من صدور القرار ـ المشؤوم ـ : “قد فهمنا ـ والله ـ ما يراد بنا، وإننا لنعلن لخصوم الإسلام والعربية، إننا عقدنا على المقاومة المشروعة عزمنا، وسنمضي ـ بعون الله ـ في تعليم ديننا ولغتنا، رغم كل ما يصيبنا، ولن يصدنا عن ذلك شيء، فنكون قد شاركنا في قتلها بأيدينا، وإننا على يقين من أن العاقبة ـ وإن طال البلاء ـ لنا، وأن النصر سيكون حليفنا، لأننا قد عزمنا إيمانا، وشاهدنا عيانا، أن الإسلام والعربية قضى الله بخلودهما، ولو اجتمع الخصوم كلهم على محاربتهما.
سيرى الذين دبروا المكيدة، والذين لم يتفطنوا لها فشاركوا في تنفيذها أنهم ما أصابوا بهذه المكيدة إلا سمعة فرنسا في العالم الإسلامي والعربي في الوقت الذي تنفق فيه الملايين على تحسين سمعتها فيهما، ومكانتها عند الجزائريين في أحرج أوقاتها، وأشدها حاجة إلى الأمم المرتبطة بها(3)..قال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}(4).
من المقصود بهذا القرار في نظر ابن باديس؟:
قرار 8 مارس 1938م الذي أشهرته فرنسا على جمعية العلماء ومن ورائها الأمة الجزائرية، لكن المقاومة التي أعلنها ابن باديس ومن ورائه الأمة الجزائرية أكد في إصرار أنه لن يستسلم لهذا القرار الجائر، ومضى يدعو إلى تأسيس المدارس في إباء وعزم وشموخ، ومضت الأمة الجزائرية تستجيب لندائه وتأتمر بأوامره، صابرة ومواجهة كل أنواع البلاء الذي تسلطه الإدارة الاستعمارية عليها بتعسف، ومما يدل على ذلك توجيه الشيخ عبد الحميد بن باديس دعوات لجميع أعضاء الفروع التابعة لجمعية العلماء لعقد مؤتمر عام يجمعهم في نادي الترقي بالعاصمة حدد تاريخه يوم 27 مارس 1939، قصد البحث عن الأطر القانونية والطرق الكفيلة التي تسمح لهم بالدفاع عن التعليم العربي الحر، والمطالبة بإلغاء هذا القانون. وقد حدد في نص الاستدعاء ظروف تعليم اللغة العربية وملاحقة رجال التعليم والعقوبات المسلطة عليهم بموجب هذا القرار، ويتعهد في نص الرسالة بقوله: “وسأبذل كل جهدي في مقاومة ذلك القرار الجائر لاقيا ما لقيت من عنت وبلاء، واعتقادي الجازم هو أنكم لا تقصرون عني غيرة، على دينكم، ولغتكم، وعزيمة في حرمتها، والدفاع عنهما”(5). قال تعالى:{فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(66).يقول الشيخ ابن باديس في هذا الصدد: “لقد فهمت الأمة من المعلمون المقصودون؟، فهم معلمو القرآن والإسلام، ولغة القرآن والإسلام، لأنهم هم الذين عرفت الأمة كلها ما يلقون من معارضة ومناهضة، وما يجدون من مقاومة ومحكمة، بينما غيرهم من معلمي اللغات والأديان، والمروجون للنصرانية في السهول والصحاري والجبال بين أبناء وبنات الإسلام في أمن وأمان، بل في تأييد بالقوة والمال، وهم الذين إذا طلبوا الرخص بكل ما يلزم للطلب أجيبوا بالسكوت والإعراض، أو أعلن لهم بالرفض من غير ما سبب من الأسباب، فهم الذين إذا طلبوا اليوم رخصة كان كما بالأمس السكوت أو الرفض جوابهم، ثم إذا أقدموا على التعليم بلا رخصة كان التغريم الثقيل والسجن الطويل جزاءهم، وإذا أحجموا واستسلموا تم لأعداء الإسلام والعربية مرادهم، وقضوا على القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام قضاءهم(7) ـ
القرار الذي أثار السخط وحطم كل الأماني
الفرنسيون بقانونهم هذا تصوروا أن فرض استعمال لغتهم حق من حقوقهم في التعامل مع الجزائريين ـ أو الأهالي بتعبيرهم ـ نسوا أو تناسوا في الوقت نفسه أنهم انتهكوا حقا من حقوق الجزائريين الشرعي في وطنه، الأمر الذي جعل ابن باديس يشن حملة عنيفة سواء في الجرائد أو المدارس، وعمل على إثارة مشاعر الجزائريين وهو يقول: ” لقد هز قانون 8 مارس 1938م الذي صدر لعرقلة التعليم والإسلام ولغة الإسلام بهذه البلاد، الشعب الجزائري هزة عنيفة، ورفعت الأمة بلسان نوابها وهيئاتها وعلمائها صوتها عاليا بالاحتجاج والاستنكار”. ويتابع: ” لقد كنا نحسب ونود أننا نعود فنذكر بر الإدارة بوعدها واحترامها الأمة الجزائرية المسلمة في دينها ولغة دينها، وفي أدق شعورها، ومراعاتها ما تقتضيه مصلحة فرنسا من كسب قلوب الشعوب الواقعة في نطاق نفوذها لأيام رخائها وشدتها، فنرفع بالشكر والاغتباط، ونعرب عن شعور الأمة وعاطفتها الحقيقيين باللسان الصادق والضمير المرتاح، ولكن ـ للأسف ـ خاب الظن وباخت الوعود، وانقشعت الأماني التي هي أحلام وتضليل …هذا هو الحال من ناحية الإدارة التي هي مؤسفة بقدر ما هي مؤلمة، أما الحال من ناحية الأمة المظلومة في حرية تعلم دينها ولغة دينها، والمصابة من ذلك في أعز عزيز عليها، فإنها مما يبعث على السرور والرضا وتمام الثقة بالأمة المسلمة في حاضرها ومستقبلها، فإنها برغم العراقيل ما تزال تبذل في التعليم بكل مناسبة، وتسعى للمطالبة والمقاومة بكل وسيلة مشروعة، وتتحمل تغريم المعلمين ويتحملون بكل ثبات وطمأنينة”(8).
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الشلف
الهوامـــش :
(1) ـ الجريدة الرسمية، العدد الصادر بتاريخ 15 مارس 1938 ع 3071.
(2)- مجمد الصالح رمضان، عبد القادر فضيل، إمام الجزائر عبد الحميد بن باديس، دار الأمة، الجزائر، 1998، ص. 83 .
(3)- البصائر، العدد 107، 08 أفريل 1938.
(4)- الآية 43، سورة فاطر.
(5)- رابح تركي “الصراع بين جمعية العلماء وإدارة الاحتلال الفرنسي للجزائر بين 1933 ـ 1939″، مجلة الثقافة، ربيع الثاني 1405هـ، يناير وزارة الثقافة والسياحة، الجزائر، 1985 العدد 85. ص. 199.
(6)- الآية 146، سورة آل عمران.
(7) ـ محمد الحسن فضلاء، الشذرات، من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس، مطبعة دار هومة، 2001، ص 118.
(8)- البصائر العدد 140، الجمعة 25 رمضان 1357هـ الموافق لـ: 18 نوفمبر 1938، ص.1. ينظر كذلك: عمار طالبي، ابن باديس، حياته وآثاره، ط 2، دار الغرب الإسلامي، لبنان، 1983 الجزء 3، ص ص 258 ـ 260.