موقف جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين من القضيّة الفلسطينيّة أثناء الاحتلال الفرنسّي للجزائر
بقلم: العربي عيلان-
لقد تمّ التّمهيد ليوم النّكبة المشؤوم، بعدّة اتّفاقياتٍ سرّيّةٍ وأخرى علنيّةٍ؛ منها السّياسية، والاقتصادية، وحتّى العلمية، بشهادة جملة من الوثائق المُرسلة من تيودور هرتزل وإليه، والتي منها رسالتُه إلى روتشيلد، المؤرّخة يوم 15 جوان 1895م، حيث كتب له قائلا:«لقد تركنا مفاوضينا الدبلوماسيين في أمريكا الجنوبية يُتمِّمُون معاهدات الإحتلال مع الدول هناك، لقد انتهت هذه المعاهدات الآن ونحن متأكّدون من البلاد التي سنحتلّها.. »، ورسالته إلى دوق روسيا المؤرّخة يوم 13أفريل1896م، حيث اهتمّ زعيم روسيا بمقترحات هرتزل، وما مقرّرات مؤتمر بازل بسويسرا الذي انعقد أيّام( 29-31) أوت 1897مـ، إلا نتيجة لتلك الجهود والمساعي، كما قام الأب الروحي للصهيونية بنشاطات اقتصادية، مع مَنْ شاركه في تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، المدعو ماكس نورداو، لأجل إنشاء بنك خاصّ بشراء الأراضي الفلسطينية، كما ورد في المراسلة المتبادلة بينهما، المؤرّخة يوم 11 ديسمبر 1897م، إضافة إلى كلّ ذلك الخيانات التي مارسها بعضُ ملوك العرب؛ كشريف مكة الذي راسل مكماهون يوم 09 سبتمبر 1915مـ قائلا له: «أرى من الضروري أن أُؤكّد لسعادتكم إخلاصنا نحو بريطانيا العظمى واعتقادنا بضرورة تفضيلها على الجميع في كلّ الشؤون وفي أيّ شكل وفي أيّة ظروف»، وهذا ما يُعبّر عنه بالمؤامرة الدّولية، و«المقصود بالمؤامرة الدولية على فلسطين؛ ذلك التوافق السرّي، وثمّ العلني، الذي تـمّ بين القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى من ناحية، والقادة الصهاينة في تلك الدول من ناحية ثانية، من أجل إيجاد حلّ لما يُسمّى بالمشكلة اليهودية، الناجمة عن عدم اندماج اليهود في مجتمعات البلدان، التي كانوا يعيشون في كنفها.. لرفضهم فكرة الاندماج.
وبكلّ موضوعية، إذا تم تصوير التكالب الصهيوني على فلسطين بماسح ضوئي، نجد أنّ المنطلقات والغايات عقدية صرفة؛ وهذا ما عبّر عنه بيان مجلس الحاخامات الأعلى لمنظمة اجودات اسرائيل العالمية، عن سياسته حول فلسطين وممّا ورد فيه: «إنّ أرضنا المقدّسة قد مُنحت لنا من قِـبل سَيّد العالم، عن طريق ميثاق أبدي، لكي تمارس في هذه الارض قوانين وتعاليم التوراة، ولكي تحيا في روح التوراة، وهكذا يرتبط الشعب اليهودي إلى الأبد بهذه الارض، بكلّ خلجات نفسه».
وفي خِضّم تلك الأحداث، ومع مطلع القرن العشرين ظهرت عدة حركات وشخصيات عربية مسلمة تدافع عن الأراضي المباركة.. ولعلّ أوّلها على مستوى الجزائر المحتلّة، هو الصّحفي عمر راسم، قال عبد الله الركيبي: «وأظنّ أنّ أوّل كاتب جزائريّ تفطّن إلى خطر الصهيونية.. هو عمر راسم»، حيث كتب في جريدة «ذو الفقار» يوم 28 يوليو1914م: «أنّ التفاهم مع الصهيونية مستحيل؛ لأنّ في ذلك اعترافا بهم وبزعامتهم، والبلاد المقدّسة اشتراها آباءُ العرب بدمائهم»، والمتتبّع لما نشره الشيخ عبد الحميد بن باديس قبل وبعد تأسيس جمعية العلماء يتّضح له جليا أنّ الرّجل كان يدري جيّدا ما تخطّط له أقبية الصهيونية العالمية حيث «انتبه الشيخ ابن باديس مبكرا لأبعاد وحقيقة المؤامرة الدولية، التي كانت تحاك في مخابر الدوائر الاستعمارية الغربية، بزعامة بريطانيا وبالتحالف مع الحركة الصهيونية ضدّ الشعبَ الفلسطيني».
1.موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من القضية الفلسطينية قبل 14 ماي 1948م:
1.1. اهتمام جمعية العلماء بالقضية الفلسطينية
إنّ مشروعَ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذي دعا إليه علماؤها، جاء تجسيدا للالتزامات العقدية والتاريخية، التي مرّت بها الأمة الجزائرية خاصّة، والإسلامية عامّة، خلال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين للميلاد ومن منطلق الانتماء الحضاري اهتمّت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقضية الفلسطينية، بداية من اهتمام رئيسها ابن باديس قبل تأسيس الجمعية سنة 1931م، عبر جريدة الشهاب، حيث جاء في مقال نشرته هذه الأخيرة في شهر ذي القعدة 1349ه الموافق لـ أفريل 1930مـ، بمناسبة زيارة الوفد العربي إلى فلسطين: «غادر بلاد فلسطين الوفدُ العربيّ الذي سيحلّ بلندن بعد أيّام، ليتولّى هنالك النضال عن قضيّة فلسطين البائسة، التي أردتها سياسة الصهيونيين، والتي سقطت ضحية بين مخالب الذين لا يرحمون ضعيفا، ولا يجيرون مستغيثا»، حيث كانت تهتم الشهاب بنشر كلّ الأخبار القادمة من أرض النبوّات، فبعد منشورها السابق الذي صدر في شهر ذي القعدة 1349ه، نشرت في شهر صفر من نفس السنة خبرا مفاده أنّ «المندوب السامي بفلسطين أعدم ثلاثة مسلمين فلسطينيين».
وفي العدد الموالي الذي صدر في شهر ربيع الأوّل، نشرت الشهاب: تاريخ الإعدام وأسماء الذين تُــوّجوا بوسام الشهادة، في مقال بعنوان:(شهداء فلسطين الدامية)، الذي جاء فيه «فكان يوم 21 محرّم تتويج الجهاد الوطني الفلسطيني، بتاج التضحية والاستشهاد..»، ثمّ تفصّل الشهابُ في مجريات إعدام هؤلاء الشباب بتهمة المشاركة في حركات الدّفاع ضدّ هجمات بني صهيون، فتذكر أسماءهم على التوالي: «فؤاد حجازي، عطا الزّير، محمد جمجوم،. طلب جمجوم والـزّيـر حنّاءً لكي يخضّبا أيديهما كما يفعل الناس هنالك ليلة الزفاف»، فكانت الشهاب بحق تهتم بكل شاردة وواردة تخصّ وتخدم القضية الفلسطينية.
وهكذا فإنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بقدر نضالها الإصلاحي والعلمي والتربوي، وحتى السياسي بالجزائر المحتلّة، ورغم جنود المنْع من الفرنسيين فإنّها أيضا تتابع مأساة قضيتها العقدية، بأولى القبلتين وثالث الحرمين، يقول عبد الله الركيبي: ولم يتوقّف الكتّابُ الجزائريون عن التعريف بقضية فلسطين… بل ازدادت بعد أن تأسّست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931مـ، وأصبحت لها جريدة رسمية تعبّر عن أفكارها الإصلاحية»، وأوّل ما صدر عن الجمعية رسميا بعد تأسيسها واستوائها على سوقها، ما كتبته مجلّة الشهاب في غرّة رجب 1350هـ الموافق لـ نوفمبر 1931م، في عمود بعنوان: «فلسطين»، جاء فيه: «لايزال الخلاف الإسلامي اليهودي على حاله ولاتزال القضية السياسية مبسوطة على ميدان البحث،… وهل من المعقول أن تستقبل بلاد العرب المشمولة بالانتداب، عهدا جديدا وتبقى فلسطين وحدها، غير مستقرّة على قرار متين»، ولم تنس الجريدة الباديسية إعلانها عن مكان وزمان انعقاد المؤتمر الإسلامي، الذي دُعيت إليه الجزائر، ولبّتْ النداء، مع بقية الدول العربية والإسلامية، فأعلنت الشهاب: أنّ «المجلس الإسلامي الأعلى جادّ في تهيئة المؤتمر الإسلامي العام الأكبر، الذي سينعقد ليلة الاسراء بالقدس الشريف، وسيشارك فيه نوّاب العالم الإسلامي بأسره»، وفعلا قد كان من ضمن المشاركين الجزائريين، الشيخ إبراهيم طفيّش، ورغم أنّ سلطات الاحتلال الفرنسي نفته إلى مصر سنة 1923مـ، فأبى إلا أن يمثّل الجزائر في المؤتمر الإسلامي بفلسطين، وذلك انطلاقا من قناعته العقدية، ثمّ نظرا للقواسم المشتركة التي تربطه بعلماء بلده آنذاك، وبأعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كإبراهيم بيّوض وبن باديس؛ فالاهتمام بأمر المسلمين واجبٌ مقدّس، وخاصة إذا كان الأمر يتعلّق بمسرى سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم، فسعى الشيخ طفيّش بذمّة إخوانه العلماء الذين حبسَهم الطوقُ الفرنسي، وكان ممّا قاله في بداية كلمته بالمؤتمر: {أنا هنا أمثّل الجزائر}، هذا وقد تطرّق الأستاذ الفلسطيني: إبراهيم أبو شقرا إلى مُمثّلي مختلف الدول في فصل من فصول دراسة علمية حول المفتي «أمين الحسيني»؛ وبعد أن ذكر أبرز الشخصيات الإسلامية التي حضرت من مختلف الدول قال:«وإبراهيم طفيّش من علماء الجزائر».
ولعلّ ما ميّز اعتناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقضية الفلسطينية، بعد الاهتمام بها هو التعريف بالقضية وسط الجماهير، وقرّآء الشهاب والبصائر، حيث كانت سببا مباشرا في تعاطف كثير من الشخصيات السياسية، والعلمية والتفافهم حول قضيتهم المصيرية، وما تلك التنديدات والاحتجاجات والقرارات الصادرة عن حزب الشعب بداية من سنة 1937م، الذي يرأسه مصالي الحاج، إلا تأثّر بمواقف جمعية العلماء، وما تلك القصائد التي طرّزها فطاحل ُالشعراء إلا تأثر بمواقف الجمعية، كالشاعر محمد العيد آل خليفة الذي ساند إخوانه الفلسطنيين، بقصيدة بمناسبة ثورتهم على الطاعون الإنجليزي سنة 1936م، حيث قال:
بني «التايمز» قد جرتم كثيرا * فهل لكم عن الجور ازدجار
أفي أسواقكم نصب وغصب * تسوم (القبلةَ) الأولى التّجار
اخال (القبلة) انسجرت دماء * كما للبحر باللّجج انسجار
ونظرا لتلك المواقف، «بدأ يهود الجزائر يكشفون عن تعاطفهم وتجاوبهم مع الصهيونية، وأدّى ذلك إلى أنّه لم تعد هناك فروق بين هؤلاء اليهود في الجزائر واليهود الصهاينة في فلسطين» ؛ ومن نتائج ذلك التعاطف والتجاوب على سبيل المثال لا الحصر ما فعله يهود الجزائر بقسنطينة، في شهر أوت 1934مـ، ثمّ اعتداؤهم على الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومدير جريدة الشهاب الأستاذ أحمد بوشمال، انتصارا للصهيونية العالمية التي فرنسا طرفٌ في تغذيتها، وقد كان لهذه الأحداث ردّ فعلٍ من الدول العربية، وأبناء «فلسطين الشهيدة»، فجمعوا التبرّعات لأهل قسنطينة المنكوبين في هذه الفتنة، وقام بإرسالها الأستاذ «محمّد أمين الحسيني».. وكان شيكا بخمسين جنيها استرلينيا وخمس شلنات، وتمّ تحويل المبلغ عن طريق بنك في لندن إلى الجزائر.. فاستفادت منه حوالي 53 عائلة قسنطينية
هذا وإن دلّ على شيء إنّما يدلّ على روح التآزر والتكاتف والتعاون المتبادلة بين الفلسطينيين والجزائريين، بسبب أنّ عدوّهم واحد من جهة، ومن جهة ثانية وفاء للقواسم المشتركة الرابطة بين الشعبين من دين ولغة، ولذلك نجد أنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، طلبت ترخيصا من أجل فتح اكتتاب لصالح مسلمي فلسطين، كما ورد في تقرير الأمن الولائي لقسنطينة رقم 2237 المؤرّخ في 30 ماي 1936مـ، وبما أنّ سلطات الاحتلال الفرنسي لم توافق على الترخيص المطلوب، عقدت جمعية العلماء اجتماعا يوم 19 جوان 1936مـ، للنظر في إمكانية إنشاء لجنة لجمع التبرعات الموجّهة إلى عرب فلسطين، كما ينصّ التقرير رقم 2609 الصادر عن رئيس أمن ولاية قسنطينة آنذاك.
ولمّا نطّلع على جريدة البصائر ابتداء من أعدادها الأولى، نجدها غنيّة بمواقف جمعية العلماء إزاء القضية الفلسطينية من خلال المقال الأسبوعي «أخبار العالم الإسلامي»، أو غيره من المقالات المندّدة، بما تفعله عصا البطش الصهيوني بريطانيا، وشقيقتها في العداء لفلسطين فرنسا .
2.1. ردّ فعل جمعيـة العلماء على قرار التقسيم
إثر ثورة أفريل 1936مـ، وغيرها من الانتفاضات، التي قام بها الفلسطينيون كَــرَدِّ فعلٍ على التمكين للصهيونية من طرف الانجليز، أرسلت الحكومة البريطانية لجنةَ تحقيقٍ سنة 1937 م برئاسة اللّورد بيل، لتُقدّم توصيات في شأن الأحداث الأخيرة، وبعد أن نظرت هذه اللّجنة وفكّرت وقدّرت -ظلما وبهتانا – جعلت للصهاينة حقا في الأراضي التي بارك الله حولها، حيث أوصت باتّخاذ الحكومة البريطانية الخطوات اللازمة لإنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ قسم يهودي وآخر عربي، هذا التقسيم الذي وصفه الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي قائلا: «قُسمت فلسطين بالتصويت وهو أضعف صدى، وعلى الأوراق وهو أنزر جَدًا، وبالأغلبية السّائرة على غير هدى».
لقد أصبح جليّا أنّ جمعية العلماء المسلمين الجزائيين بَــنَتْ مفاهيمها ومواقفها من القضية الفلسطينية على أُسُسٍ عقدية، وأبعادٍ دينية استنبطتها من تاريخ صراع الأنبياء والمرسلين مع بني قومهم من بني إسرائيل، لأنّ فهم حقيقة تلك الثنائية المتصارعة هو المدخل الجوهري والأساسي لرسم خريطةٍ إرشاديةٍ للأمّة الإسلامية، تقودُها-هذه الخريطة-نحو التعامل مع سرطان الصهيونية في وقتنا المعاصر من ناحية الإدراك العقدي أوّلا، واتّخاذ الموقف ثانيا، ثمّ الإعداد ثالثا.
أ- من ناحية الإدراك العقدي
نجد أن الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي قد سطّر ذلك -عندما تكلّم عن قرار التقسيم-في قوله: «ما أشبه الصهيونيين بأوّلهم، في الاحتياط للحياة، أولئك لم يقنعوا بوعد الله فقالوا: {يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، وهؤلاء لم يثقوا بوعد بلفور، حتى ضمنت لهم بريطانيا أن يكونوا في ظلّ حرابها، وتحت حماية مدافعها»، فاليهود هم اليهود عبر التاريخ، حيث شبّه الإبراهيمي حرص يهود بني صهيون على ميلاد كيانهم واحتياطهم لحياته، من خلال عدم ثقتهم بوعد بلفور، حتى تأكّدوا من ذلك بصدور قرار التقسيم، بِــبَني إسرائيل الذين قالوا لموسى-عليه السلام-لن ندخل الأرض التي وعدّتنا بها حرصا على حياتهم، وفي موضعٍ آخر وبفهمٍ أعمق، يتحدّى الإبراهيميّ التقسيمَ المادي -رغم بُعد المسافة الجغرافية- بروابطٍ روحية وإيمانية، ثمّ يُـحمّل الأمانةَ في عُنق كلّ مسلم جزائري، فإذا فرّط الجزائريُّ في آداء الأمانة، فـبسبب جند الطوْق من الفرنسيين، وعسكر الطريق من الأنجليزيين فيقول: «يا فلسطين.. على كلّ لسان مسلم جزائري في حقّك كلمة متردّدة؛ هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير، قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير، وفي عُنق كلّ مسلم جزائري لكِ يا فلسطين حقّ واجب الأداء وذمام متأكّد الرّعاية، فإن فرّط في جنبك، أو أضاع بعض حقّك فما الذنب ذنبه، وإنّما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبلته». ثمّ يُـــشير الإبراهيمي إلى مكانة فلسطين في الإسلام، قائلا: «إنّ فلسطين وديعة محمّد عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود ونحن عصبة إنّا إذا لخاسرون»، فبيّن مكانتها بداية من عهد النبوّة، حيث كانت قبلةً للمسلمين، وكونها مسرى الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-، فحصر تلك الفضائل في قوله: «وديعة محمّد عندنا»، ثمّ حصر جهود عمر بن الخطّاب في فتحها بقوله: «أمانة عمرٍ عندنا»، فهي بحقٍ عهدُ الإسلام في ذمّتنا، لا نرضى بما يفعله اليهود، وإلا حُكم علينا بالخسران.
ب – من ناحية الموقف
لقد اتخذت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، موقفها من قرار التقسيم، بناء على إدراكها العقدي لجوهر القضية الفلسطينية، فرفضُها لهذا القرار كان واضحا لا غبار عليه، حيث كتب أحمد توفيق المدني في نهاية جويلية 1937مـ: «أجمعت كلمة العرب في فلسطين، على رفض هذا المشروع الخاسر، وأجمعت كلمةُ العرب في العالم أجمع، على تأييد هذا الرفض الأبيّ، لأنه لا يوجد من يجري في دمائه دم العروبة الحارّ، ويرضى مثلَ هذه المذلّة،. ففلسطين التي اقتطعت أوّل مرة من بلاد سوريا، ثمّ نُكبت بالاستعمار الصهيوني، يريدون أن ينكبوها أخيرا بتقسيم آخر يمزّق أوصالها، ويجعل لليهود فيها دولة رسمية ذات استقلال تامّ»، كما ندّد الشيخ الطيب العقبي في جريدة البصائر بهذه الفِعلة الشنيعة بمقال ٍشديد اللّهجة افتتحه قائلا: «لبّيك لبّيك فلسطين، فما أنت لأهلك فقط، ولكنّك للعرب كلهم والمسلمين أجمعين»، فبّين العقبي ما للقضية الفلسطينية من بُعدٍ ديني وعربي، وأشادَ بالمجاهدين من أبناء فلسطين، ثمّ أشارَ إلى صدى قرار لجنة اللّورد بيل بين الدول الإسلامية، والعربية خصوصا، والعالم عموما، حيثّ كشف صراحة الذي كان خلف هذه الجريمة فقال: «إذا قلنا ما يطابق الواقع أراد الأنجليز العتاة البغاة تقديمها على مذبح مطامعهم، ومصالحهم الخاصّة، لقمة سائغة للآكلين وغنيمة باردة لشذّاذ العالم، ونفاية الأمم من الصهيونيين، كان هذا من انكلترا الظالمة وبموافقة جمعية قالوا عنها أنّها جمعية الأمم».
والمتتبّع لمواقف جمعية العلماء، يجدها جاءت تترى؛ إمّا على لسان أعضائها فرادى، أو باسم الجمعية، حيث دعا ابن باديس المسلمين قاطبة إلى مساندة فلسطين والدفاع عن حياضها المباركة، «ثمّ توجّه إلى وزارة الخارجية الفرنسية ببرقية مؤرّخة في أوت 1937مـ، رفع فيها احتجاجا شديد اللهجة باسم الشعب الجزائري المسلم ضدّ مشروع تقسيم فلسطين»، وقد جاء هذا الاحتجاج باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومُوَقّعا باسم رئيسها بن باديس، ورغم التضييق الخانق الذي تشهده مساجد الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي، إلاّ أنّ أعضاء الجمعية لم يهملوا دورَ المسجد في توجيه وتنبيه العامّة من المصلين أثناء الدروس وخطبتي الجمعة، حيث أشار الشيخ أبو يعلى الزواوي في خطبة الجمعة يوم 16أكتوبر1938مـ، بمسجد سيدي رمضان بالعاصمة، إلى أحداث فلسطين، وقد دعا المصلين إلى المساهمة المادية لإعانة ضحايا الصهيونية، وحتى يطمئن الناسُ على صدقاتهم وتبرّعاتهم بيّن للمصلين أن اللجنة المكلّفة بجمع المال تحت رئاسة الشيخ الطيب العقبي، ثمّ ختم الشيخ أبو يعلى خطبته بأن الأنجليز كانوا ولا زالوا أعداء الإسلام والمسلمين وخاصة في فلسطين.
ج- من ناحية الإعداد
بعد موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي بُــنِيَ على الفهم العقدي للقضية الفلسطينية، سَعتْ الجمعية إلى بذل ما في وسعها لأجل إنقاذ فلسطين؛ من جمعٍ للأموال، وتعبئةٍ للشعوب، لفائدة الجهاد في فلسطين الشهيدة هذا ما يعبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} .
سبَق وأن ذُكر أنّ جمعيّة العلماء كانت تعاني من مضايقات المستعمر الفرنسي، في نشاطها على مستوى الجزائر المحتلّة، فكيف سَيسْمح لها هذا العدوّ الغاشم بمُمارسة نشاطها خارج الجزائر، وخاصّة إذا كانت القضية شائكة كالإعداد للقضية الفلسطينية؟، يقول الشّيخ الإبراهيمي: «يسافر اليهود إلى فلسطين.. لأنهم فرنسيون بالاستلحاق على مذهب كريميو، ولا يستطيع العرب أن يجاوزوا الحدود لأنّهم مدجّنون والتدجين من لوازمه تشديد المراقبة وتغليظ المعاقبة»، لكنّ جمعية العلماء لم تفرّط في أدنى الواجب بداية من الدعوة إلى استعمال القوّة لنصرة الحقّ، فالحديد بالحديد يُفلح، يقول الأستاذ توفيق المدني: «.. تلك الحقيقة الثابتة هي أنّ الحقّ إذا لم يعتمد على القوّة المتينة، فهو الباطل، وأنّ الباطل المعتمد على القوّة المتينة هو الحقّ المبين. إن أردتّ الحياة فكن قويا، وإنْ كنت ضعيفا فمآلك الموت والفناء»، فالعلاج الأسمى والحلّ الجذري لهذه النكبة هو إعداد القوّة، حيث يُضيف توفيق المدني قائلا: «.. إنكلترا لا تَرْهَب إلا القوّة، وهي في مواقفها الحاضرة أشدّ رهبةً من القوّة منها في أيّ وقتٍ آخر..»، وإلى نفس المعنى يدعو الإبراهيمي شعوبَ دول المشرق العربي قائلا: «وواجب شعوب المشرق أن تندفع كالسّيل وتُصبّح صهيونَ وأنصارَه بالويل، وأن تبذل لفلسطين كلّ ما تملك من أموالٍ وأقواتٍ»، ولكن هذه القوّة لابد لها من التخطيط قبل التنفيذ، لأنّ التخطيط من مقتضيات الإعداد، ولم تَغِبْ عن الإبراهيمي تلك الفكرة وهو القائل: «واجب الدول العربية التّصميم؛ التّصميم الذي لا يعرف الهوادة، والاعتزام الذي لا يلتقي بالهوينا، والحسْم الذي يقضي على التّردّد».
وتشهد جريدة البصائر الصادرة عن جمعية العلماء ولسان حالهم؛ أنّه تمّ تأسيس لجنةَ إغاثة فلسطين والدّفاع عنها بنادي التّرقي، بالجزائر العاصمة، بعد قرار لجنة بيل بأيّامٍ «بداية شهر أوت 1937م»، والغرض من تأسيس اللجنة هو الإعانة المادية للمجاهدين بفلسطين من جهة، والنضال السياسي من جهة أخرى، والمتمثّل في إصدار الاحتجاجات على مشروع لجنة اللّورد بيل، وهو عين الإعداد في مثل تلك الظروف.
وعشيّة الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني، يتحسّر الشيخ الإبراهيمي متسائلا عن علّة التفريط في الإعداد والإمداد، لأجل دحْر الصهيونية وحماتها، فيقول: «أعمال عرب فلسطين مقدّمة فأين الكتاب؟. وطليعةٌ فأين الكتائب؟. وواجبٌ فأين ما لا يتمّ الواجب إلاّ به؟، ما على عرب فلسطين من سبيلٍ، إنّما السبيل على العرب في مشارق الارض ومغاربها، حكومات وقادة وشعوب رجالا ونساء.. فإذا لم يبادر العربُ بالاصطلام بادرهم "الاستعمار’’ بالالتهام. هما خطتان: إمّا إسارٌ ومنّة، وإمّا دمٌ، والموت بالحرّ أجدر»، ثمّ يصدح صائحا «إنّ الواجب على العرب لفلسطين يتألّف من جزأين: المال، والرّجال».
2. موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من القضية الفلسطينية بعد 14 ماي 1948م
قال الأستاذ أحمد توفيق المدني: «لم تصبح القضية خلال 1948مـ قضية نظرية، بل دخلت دورا عمليا رهيبا فظيعا.. لازال يدعو كلّ يوم بل كلّ ساعة إلى تغيير المنكر باليد، لا بالقلب، ولا باللّسان، ولا يزال يهيب بكلّ مسلم على وجه الارض إلى ساح الجهاد وميدان الاستشهاد»، فماذا قدّمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للقضية الفلسطينية بالموازاة مع هذه الظروف، وفي ظلّ هذه المرحلة الحرجة التي اندلعت فيها ثورة نوفمبر المباركة؟.
2. 1. دعوة جمعية العلماء إلى الجهاد في فلسطين
في أوّل عددٍ من جريدة البصائر، الصادر بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني، دعَـتْ بعضُ أقلامِ الجريدة الشبابَ المسلم إلى تلبية نداء الجهاد في فلسطين، حيثٌ عُـنْوِنَ ركنٌ من أركان الجريدة المذكورة بــ «صوت الجهاد»، ونٌشرت فيه قصيدتان؛ الأولى للشاعر الرّبيع بوشامة، بعنوان: ‘’فتى العُرْب هيّا فلبّ النداء’’، وممّا ورد فيها:
فلسطين أرض الهدى والميعاد * تنادي الجهاد الجهاد الجهاد
فتى العُرب هيّا فلبّ النداء * ولاقِ المنايا بساح الفداء
ونكّل بصهيون شرّ العبيد * وأطعمه نارا وسم الحديد
ووفّ بكلّ القوى والجهود * لدين الرّسول وعهد الجدود
فأرواحهم في سماء الخلود * تنادي الجهاد الجهاد الجهاد
فذكّر الشاعر بالجانب العقدي لفلسطين، ثمّ دعا فــتيانَ العروبة لتلبية نداء الجهاد، والتنكيل بشذّاذ الآفاق، وشرّ المخلوقات على وجه البسيطة؛ من بني صهيون، وفاءً للإسلام، ورسول الإسلام، ثمّ وفاء لعهد سلفنا الصّالح، الذين لم يهنوا في حماية الأراضي المباركة، والذّودِ عنها بأرواحهم الخالدة.
وأمّا القصيدة الثانية؛ للأديب موسى الأحمدي نويوات، بعنوان: “فلسطين نادتكم للجهاد”؛ وممّا ورد فيها:
فلسطين نادتكم للجهاد * فلبّوا النّداء يا حماة البلاد
ومدّوا النّفوس إليها فدى * فتلكم -بني العرب- أرض المعاد
وتلك التي من ذراها سرى * إلى سدرة المنتهى خير هاد
أتطمع صهيون في إرثنا * وجند العروبة شاكي العتاد
حرام فلسطين -جزما- على * أبالسة هم بذور فساد
وهنا دعا الأحمدي حماة البلاد وحرّاس العقيدة؛ من الشباب إلى بذل النفس، فِداءً لأرض المعاد، التي أُسري بالرّسول-صلّى الله وسلّم عليه- إليها، ثمّ عرج منها إلى سدرة المنتهى، فلابد لـجُــند العروبة أن يٌعدّ ويستعدّ لطرد أبالسة الفساد ولا يسمح لبني صهيون أن يرثوا الميراث المقدّس.
ونفس الفكرة تبنّاها الشيخ الإبراهيمي عندما تطرّق إلى كيفية نصرة فلسطين، وطريقة استرجاع الديار المسلوبة، والحقوق المنهوبة، والارض المغصوبة؛ فقال:-رحمه الله-: «..وليستْ تُنال بالشّعريات والخطابيات، وإنّما تنال بالتصميم والحزم والإتحاد والقوّة، إنّ الصهيونية وأنصارها مصمّمون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الإتّحاد باتّحاد أمتن منه»، وهو الذي تبرّع بمكتبته -رحمه الله- لفائدة الجهاد في فلسطين، واستثنى منها مصحفا فقط للتلاوة، والصّحيحين للمدارسة*، وحتى المرأة الجزائرية المسلمة سجّلت مساهمتها تلبيةً لتوجيهات جمعية العلماء؛ ففي يوم الجمعة 28 ماي 1948مـ، بمدرسة الفلاح وبمناسبة انعقاد مؤتمر شُعَب جمعية العلماء، وإثر صلاة الجمعة، «تقدّمت امرأة مؤمنة قانتة إلى الأَمام، وهي من حاضرات الجمعة وسامعات الخطب، فوهبت حُلـيّـها وهو «سوار ذهبي»، ذو قيمة باهضة، فرمت به قنبلة في صميم أعداء العروبة والإسلام بفلسطين الشهيدة، وكانت هذه المجاهدة الكريمة السابقة للقصبة بهذه البلاد».وبعد النكبة بشهر (14 جوان 1948 مـ)، صدر مقال للأستاذ عبد الرحمان شيبان بجريدة البصائر، في عددها التاسع والثلاثين، تطرّق فيه إلى أسباب إهمال فريضة الجهاد، وكيفية النهوض بهذه الشعيرة، ولابد من الاجتهاد الذي يقوم على الحرية، التي لا يجلبها إلا الجهاد، فالأمة الإسلامية أحوج إلى الجهاد في هذا العصر من غيره؛ قال رحمه الله: «أفلم يحثّ الإسلام على الجهاد بكلّ وسائل الترغيب فيه، والتنفير من تركه»، وذكّر بالآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ثمّ بحديث الرّسول عليه الصلاة والسلام {«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها» فقال قائل: «ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: «حبّ الدنيا وكراهية الموت»}، «فقد أمر-الإسلام- بالجهاد بعد إعداد عُدّته».
ولعلّ ما ميّز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ وهي تحثُّ الشعوبَ المسلمة على فريضة الجهاد، أنّها كانت تذكّرهم بمكانة أولى القبلتين وثالث الحرمين في الإسلام، ثمّ تربط بين تلك المكانة وقدسيتها من خلال الاستدلال بسيرة الانبياء وأتباعهم، حيث بذل الرّعيلُ الأوّل من المسلمين للحفاظ على مسرى النّبي -صلى الله عليه وسلّم- النّفس والنّفيس، نسجّل ذلك في عدّة مقالات؛ منها منشور بجريدة البصائر لمصطفى بن سعد الجيجلي، الذي دعا الشباب لترك الكسل، وطرح النزعات الحزبية، لأجل تلبية نداء الجهاد، بغية تطهير الأراضي المسلمة من دنس الصهيونية، ثمّ طَعّم ذلك النداء بسرد علاقة النبي عليه الصلاة والسلام مع يهود بني النضير، ومصير عنادهم لموسى عليه السلام، كما وجّه دعوةً لأغنياء المسلمين للتبرّع والتصدق بالمال لفائدة الجهاد في فلسطين، مُذكّرا إياهم بعطاء الصحابة كعثمان رضي الله عنه، في غزوة تبوك، ثمّ ختم مقاله بفضل درجة الجهاد بالنفس والمال.وبالرّغم من أنّ فرنسا كانت جدارا عازلا بين الجزائريين
وقضيتهم المحورية، وبذلت جهدها في عزلهم عن العالم العربي الإسلامي، إلا أنّهم استطاعوا أن يتحمّلوا أوضاعهم القاسية، ويتمكنوا من متابعة الأوضاع العربية في فلسطين عن طريق ما كان يتسرّب إليهم من تونس والمغرب وليبيا، فتأثّروا بمأساة إخوانهم في فلسطين، وعبّروا عن ذلك بعدّة وسائل.. منها التطوّع للجهاد إلى جانب الفلسطنيين، وقد اقدوا في ذلك بموقف الحركة الوطنية خاصّة منها جمعية العلماء المسلمين، ويذكر الدكتور يوسف مناصرية أنّ صحيفة
«Alger Republicain نشرت مقالا بعنوان: ‘نحن وفلسطين، في عددها الأول الصادر في جويلية 1948م، جاء فيه أنّ الشيخ الطيب العقبي «تحدّث عن المتطوّعين الجزائريين، وهو أوّلهم للالتحاق بصفوف المجاهدين الفلسطنيين وعلّقت التقاريرُ الفرنسية على ذلك ونسبت فكرة التطوع إلى طلاقة لسان العقبي وفصاحته، وتساءلت كيف سيتوجّه المتطوّعون الجزائريون إلى فلسطين».
وما كانت دعوة العقبي وصحبِه لتذهب سُدىً، حيث انظمّ الكثير من الجزائريين منهم الطلبة والتّجار سنة 1948م، إلى دعوات الجهاد ضدّ الصهيونية في فلسطين، التي ترأسها الشيخ الصادق بسيس*.. فقاد حملة التطوّع عبر القطر التونسي، خاصة في منطقة الجريد التي كان يتردّد عليها الطلبة الجزائريون، وذكرت المصادر أنّ ألف متطوع مرّوا خُفية من القطر التونسي إلى فلسطين، بعد تلقّيهم مساعدات في ليبيا ومصر وتدريبهم في «مرسى مطروح».
2. 2. تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين
يدخل تأسيس هذه الهيئة ضمن مساهمة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وجهودها في خدمة القضية الفلسطينية، سواء من الناحية السياسية، أو المادية؛ فبعد الإعلان عن قيام دولة الكيان الصهيوني بأيام، قامت جمعية العلماء بتأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين، حيث أفصح عن ذلك رئيس مؤتمر شُعَب جمعية العلماء العمالي بوهران الشيخ محمد خير الدين يوم 28 ماي 1948مـ؛ وفي هذا الصّدد يقول الأستاذ فرحات العابد: «ثمّ أخـــبـــر-محمد خيرالدين- بتأسيس هيئة جزائرية لإعانة فلسطين، فتهلّـلت الوجوه بالبِشر وانفرجت الشفاه عن سِـمة الغِــبطة والسرور.. »، وبعد ذلك بأيّام صدر نداءٌ وتحذيرٌ للشعب الجزائري العربي المسلم، أمضاهُ كلّ من: ‘’البشير الإبراهيمي، إبراهيم بيّوض، عباس فرحات، الطيب العقبي’’، يحذّرون الشعب من مكر وكيد الاستدمار الفرنسي، وأن لا يكون الغضبُ لفلسطين، سببا للفوضى بل لابدّ أن يكون العمل منظمّا، «واعملوا من الصالحات لكم، ومن النّافعات لفلسطين..»، وفي يوم 28 جوان 1948مـ، نشرت جريدة البصائرمقالا، يعلن صاحبهُ عن عملٍ رسميٍّ يجمع جهود الجزائريين في خدمة القضية الفلسطينية، وهو تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين.
أ- أسباب تأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين:
– أهمّ أسباب تأسيس هذه الهيئة ذكرها الشيخ البشير الإبراهيمي في قوله: «إعانة فلسطين فريضة مؤكّدة على كلّ عربي، وعلى كلّ مسلمٍ، فمن قام به أدّى ما عليه من حق لعروبته ولإسلامه، ومن لم يؤدّه فهو دَين في ذمّته لا يبرأ منه إلا بأدائه».
– يعتبر تأسيس هذه الهيئة امتدادا لنشاط لجنة إغاثة فلسطين التي أسّستها جمعية العلماء مبكّرا "شهر أوت 1937م’’، وبعد إحدى عشر سنة أٌسّست الهيئة المذكورة، في ظلّ تطوّر القضية الفلسطينية، والمستجدّات التي أفرزتها الساحة الدّولية، ولعلّ تغيير التسمية يعود إلى عكس روح الإتحاد مع بقية الشعوب العربية المسلمة التي تمثّلها الجامعة العربية آنذاك، والتي قرّرت تشكيل لجنة سنة 1946مـ، تحت رئاسة الحاج أمين الحسيني أطلقت عليها اسم: ’’الهيئة العربية العليا لفلسطين’’، فنلاحظ أنّ هناك تناغما ومحاكاة في التسمية؛ وكأنّ "الهيئة العليا لإعانة فلسطين’’ التي أسّسها رجال جمعية العلماء على مستوى القطر الجزائري فرعٌ عن «الهيئة العربية العليا لفلسطين» التابعة للجامعة العربية.
– توحيد مساهمات الشعب الجزائري في القضية الفلسطينية، تحت هيئة واحدةٍ رسمية، لأجل امتصاص، ثمّ ترشيد ردود الفعل العشوائية.
-توحيد جهود مختلف الاتّجاهات الوطنية والدّينية، من اصلاحيين.
ب- الـمؤسّسون:
العقل المدبّر لتأسيس هذه الهيئة وأصحاب الفكرة هم رجال جمعية العلماء وعلى رأسهم الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي، الشيخ الطيب العقبي، الأستاذ توفيق المدني الذي يقول: «جمعتُ رجال الجزائر المعدودين في نادي الترقي سنة1948مـ، وقلت لهم متمثّلا ببيت فؤاد الخطيب: فيم الجمود وجرعاء الديار دم؟، وما هي إلا مباحثات قليلة في كلماتها، قوية في معانيها، ومدلولها، حتى أنجزنا تأسيس جمعية إعانة فلسطين»، وكان ذلك بحضور فرحات عباس زعيم البيانيين، والحاج مصالي زعيم الانتصاريين، ومصطفى القاسمي ممثلا عن الزوايا، فبقي الأوّل مساندا لعلماء الجمعية، وانسحب الثاني والثالث، والآتي ذكرهم هم المكتب النهائي للهيئة العليا لإعانة فلسطين:
محمد البشير الإبراهيمي : رئيسا
فرحات عباس : كاتب عام
الطيب العقبي : أمين المال
إبراهيم بيّوض : نائبه
ج- أهمّ أعمالها:
رغم القيود التي فرضتها فرنسا الاستدمارية، إلا أنّ هذه الهيئة بذلت كلّ ما في وسعها، ولم تدخّر جهدا لأجل فلسطين، «وإذا تأخرت الأمّة الجزائرية عن إعانة فلسطين، بالممكن الميسور فعذرها أنّها كانت منهمكة في المطالبة بحقّها في الحياة، وكانت من أجل ذلك في صراع مع الاستعمار»، ولذلك تراجع عملها مع بداية ثورة نوفمبر المجيدة، لكن جريدة البصائر الغرّاء لسان حال جمعية العلماء، واصلت دفاعها عن فلسطين من خلال المقال الأسبوعي «منبر السياسة العالمية»، «لأبي محمّد»*، إلى أنّ تم توقيف إصدارها من طرف السلطات الفرنسية سنة 1956، ومن الأعمال التي قامت بها الهيئة العليا ما يلي:
-تأليف لجنة تنفيذية بالعاصمة، من رجال العلم والثقافة، ورجال الأعمال والاقتصاد، وشباب العمل .
– إرسال برقية تأييد لسعادة عبد الرحمان عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبرقيات احتجاج واستنكار للحكومات المسؤولة، وللسّيدين رئيس الحكومة ووزير الخارجية الفرنسيين، ثمّ إلى هيئة الأمم المتحدة.
-طبع الوصولات وإمضاؤها باسم أمين الهيئة الشيخ الطيب العقبي، ثمّ توزيعها على بقية اللجان الفرعية على مستوى الوطن لجمع المال، يقول الشيخ الإبراهيمي: «فاجتمع لدينا من هِبات المحسنين عدّة ملايين من الفرنكات أبلغناها إلى مأمنها في فلسطين، واستلمنا الشهادة القاطعة على وصولها، ورفعنا رأس الجزائر، ومحونا عنها بعض التقصير، ومازلنا جادّين في عملنا».
– أرسلت الهيئة برقيات إلى الجرائد المغربية، والتونسية، والتي منها «جريدة الزهرة» يوم 20 جوان 1948مـ، لتعلن عن تضامن الجزائر العربية المسلمة، مع رئيس جمعية العمل من أجل إنقاذ فلسطين، المجاهد الإسلامي الكبير «الشيخ الصادق بسيس» من جهة، ومع القضية الفلسطينية من جهة ثانية.